الجذور الإسلامية للحداثة الغربية

تأثير التصاميم الإسلامية في الفنون الغربية

عبدالله بن محمد

 


شكّلت تصاميم المجوهرات جزءاً من علاقة امتدت لقرون بين الإبداعات الفنّية في أوروبا، وبين الفنون الإسلامية في شتّى المجالات. حيث كانت العلاقة بينهما دائماً "سياسية بالأساس"، مع مزيج من السحر والعنف والسيطرة. وفي فترة معينة من التاريخ لم يخل مجال فنّي واحد في الغرب من تأثير التصميم الإسلامي؛ حيث استلهمت مجموعات الفن الأوروبية من روائع التصميمات الهندسية للفن الإسلامي، وهو ما خلق جمالية حديثة ورائدة لصناعة المجوهرات الراقية في بداية القرن العشرين على غرار مجموعة كارتيه.

 

على الرغم من أن التّجار والدبلوماسيين الأوروبيين قد احتكروا على مدى قرون كل الإمكانيات التي تمكنهم من زيارة إمبراطوريات الشرق الأوسط، إلا أن الحقبة الاستعمارية والنفوذ الغربي المتزايد في المنطقة أتاحا فرصاً عديدة للسفر في القرن التاسع عشر من مختلف أنحاء العالم. ونتيجة لذلك تدفّق الفنّانون من أمريكا الشمالية وأوروبا على القسطنطينية (اسطنبول الحديثة)، والقدس، والقاهرة ومراكش، وانعكس ذلك على لوحاتهم التي دمجت الخيال بالواقع.

لكن ورغم الانتقادات "المبتذلة" للمستشرقين لمعظم تلك الأعمال، إلا أن اللوحات الفنّية قدّمت لجمهور أوسع فكرة أولى عن جمال الحِرف الإسلامية، مجال لم يكن في ذلك الوقت يحظى بأهمية كبيرة للمتاحف والعلماء الغربيين. قد تكون المشاهد التي نقلها هؤلاء الفنانون غير دقيقة، لكن الأعمال والقطع الأثرية التي رسموها بأيديهم كانت دقيقة للغاية. لقد انبهر الجامعون في الغرب بتصاميم البلاط الزهرية المنمّقة، والميزات المعمارية الهندسية، والأعمال المعدنية المزخرفة، والمجوهرات الرائعة والمنسوجات والسّجاد المنسوج بشكل معقّد.

وبينما تحمّس الهوّاة لجمع وشراء القطع الفنّية، انكب المصمّمون على دراستها بغرض فهمها والوصول إلى ما تضمنته من إبداع وإلهام؛ من ذلك أن الخزف العثماني، على سبيل المثال، قد أثّر على الجميع من ويليام دي مورغان إلى فيليراي وبوش، بينما ألهمت مزهريات قصر الحمراء الرقيقة فنّانين مثل الفنّان المَجَري وصانع البورسلين والأواني الزجاجية زسولناي. وبالنسبة للبرجوازية المتذوقة للجمال، قدّمت كتب على غرار "دراسات كريستوفر دريسر في التصميم" (1876) نصائح حول كيفية استخدام الزخارف الإسلامية في تزيين المنازل.

لكن في حين كان الغرب ينهض على جمال ومهارة الفنون الزخرفية الإسلامية، تراجع إشعاع هذه الحرف في البلدان العربية والإسلامية التي شهدت مرحلة من الخمول الفنّي والركود الثقافي. وسرعان ما طغت الجماليات الغربية على التقاليد الفنية المحلية. وتدريجياً فَقَدَ الفنّانون في العالم العربي والإسلامي بصمتهم، وأصبحوا أكثر انفتاحاً وانبهاراً بالغرب. ربّما كانوا يائسين من قدرتهم على التحديث، ولم يهتموا بأجيال من الحرفيين كما كانوا يفعلون حتى القرن التاسع عشر.

لكن حتى مع ما وجدته الفنون الإسلامية من إعجاب في الغرب، كانت هناك أيضاً تفسيرات مبتذلة لتلك الأعمال. وفي عام 1864، تم إنشاء مؤسّسة جديدة، "الاتحاد المركزي للفنون الجميلة المطبّقة على الصناعة"، من قبل مجموعة من الغربيين المتحمّسين لدراسة الفن الإسلامي. والتي أصبحت تعرف لاحقا بـ"الاتحاد المركزي للفنون الزخرفية" في عام 1882، وكان لها دورٌ فعّال في تنظيم المعرض الأول للفن "الإسلامي" بباريس في عام 1893. كانت الأعمال المعروضة بجودة مذهلة، وتهدف بشكل جدّي إلى تتبّع تاريخ الفن الشرقي، وحتى تحفيز الإبداع الغربي.
 

مفردات بصرية

في ذلك الوقت، اقتصر الجواهريون على إعادة التدوير اللانهائي للأساليب الأوروبية التاريخية، قبل أن يبادر لويس كارتييه، مؤسّس المجموعة الفرنسية "كارتييه"، وهي واحدة من أعرق مصنعي المجوهرات في العالم، إلى خلق أسلوب جديد، لكنه لم يكن مهتمًا بالجمال الحديث في ذلك الوقت.

في عام 1903 نظّم معرض في باريس، وتلاه معرض آخر في ميونيخ سنة 1910، بهدف جمع القطع الفنّية الشرقية بعناية، وفقًا للتقنية والأصل الجغرافي، بهدف التحفيز على الإبداع المعاصر وإلهام الفنانين الغربيين. وشكّل المعرض حافزًا للويس كارتييه لتطوير مجموعته الخاصة. كان يملك ذوقاً خاصاً للمخطوطات واللوحات والقطع المستوردة من إيران والهند من القرنين السادس عشر والسابع عشر.

ومنذ ذلك التاريخ أيضاً، أصبحت العمارة الإسلامية والمخطوطات والمنسوجات مصدرًا بارزًا للإلهام لدى مصممي مجوهرات كارتييه. أصبحت الحواجز المسنّنة المعروفة باسم الشرافات وأنماط الطوب والهالات على شكل لوز، والتيجات والمخطوطات زخارف لويس كارتييه المميّزة. واعتبارًا من العقد الأول من القرن العشرين، كانت المواد والألوان الخاصة بالعالم الإيراني مؤثّرة بشكل خاص، مع ظهور الأزرق اللازورد أو الياقوت الأزرق والأخضر من اليشم أو الزمرد في نمط الطاووس الشهير. وفي مكان آخر، تم دمج الفيروز الإيراني مع اللازورد الأفغاني المرقّط باللون الأزرق الداكن من أجل إعادة إنتاج مجموعات الألوان التي غالبًا ما توجد في أعمال الطوب الخزفي المزجّج والبلاط في آسيا الوسطى.

وعلى غرار لويس كارتييه، زار الفنّان هنري ماتيس معرض ميونيخ عام 1910. وبعد ذلك، انتقل إلى جنوب إسبانيا حيث زار قصر الحمراء، ومجمع القصور والحصون لملوك غرناطة المغاربيين، المشهور بزخارفه الرائعة. وبعد تلك الزيارة، أصبحت ألوان ماتيس أكثر كثافة، ونمطه أكثر تملقًا، كما أصبحت أوجه التشابه مع أعمال البلاط المكسوّة بالفسيفساء التي رآها في قصر الحمراء أكثر وضوحاً. وكان إيشر موريتس كورنيليس إيشر، وهو رسام هولندي يُعرف بلوحاته المستوحاة رياضياً، مما جعله رائداً في مجال محاولة تمثيل المفارقات الرياضية عن طريق الفن، مفتونًا بنفس القدر بقصر الحمراء. لقد ألهمت التصاميم المتناسقة وكذلك الإبداع الرياضي أعماله المرئية المحيّرة للعقل.

أما في الفنون المسرحية، فقد أحدثت أزياء ليون باكست الشرقية لفرقة الباليه الروسية ضجّة كبيرة، حيث أثّرت على مصمّم الأزياء بول بوارت الذي حوّل شغفه بالشرق إلى تجربة نمط حياة افتراضية تضمنت الأزياء والأثاث والمنسوجات. كما استخدم كارلو بوجاتي، أحد أكثر مصمّمي الأثاث إبداعًا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تأثيرات التصميم الإسلامي، مثل المقرنصات وأقواس حدوة الحصان، في تراكيبه الفنّية وتصميماته. 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها