العقل وإنتاج الصور

جيرالد هوتر يتساءل ويجيب

مصطفى أمخشون

لا أحد يجادل في مدى أهمية دور العقل البشري، في رسم السبيل الواجب سلوكه أو المنهج الواجب استخدامه في شتى المجالات، في هذه المساهمة نحاول أن نتوقف مع جيرالد هوتر Gerald Hüther ومقاربته لموضوع: "العقل وإنتاج الصور".
 

يقول جيرالد هوتر: "من لديه عينان ليرى، وأذنان ليسمع، وأنف ليشمّ، وجلد ليشعر، يكون عالَمه مليئاً بالصور؛ لكنه يحتاج إلى عقل يجب أن يكون منفتحاً قدر الإمكان تجاه كل شيء يستقبله عبر الحواس، في المناطق الحسية للقشرة المخّيّة، ثم يتم توصيل نموذج الإثارة المميّز لكل انطباع حسّيّ ناشئ في هذه المساحات، إلى نطاقات متصلة في القشرة الدماغية.
ويؤدي نموذج الإثارة الأحدثُ نشأةً إلى تنشيط شبكات الخلايا العصبية الأقدم، والمتكونة بالفعل من خلايا انطباعات حسية ومستقرة. وعن طريق تداخُل نموذَجَي الإثارة، وهما النموذج الحديث والآخر الموجود بالفعل، ينشأ نموذج تنشيط موسّع ومحدد، عن طريق الإدراك الحسي المقابل، وتقدم ومضة الوصلات العصبية كصورة ذهنيةٍ الشيءَ المدرَك الجديد، حيث يتكون "انطباعٌ مرئيٌّ" ذهنيّاً من الشيء المرئي بالفعل والواصل حديثاً، يتكون "انطباع سمعي" ذهني من الشيء المسموع، فضلاً عن تكوُّن "انطباع حسي" من الشيء الملموس، و"انطباع عن الرائحة" من الشيء الذي نشمّه. وإذا كان أحد هذه النماذج المميزة قويّاً بالدرجة الكافية كي يمتد إلى مثل هذه المجالات الدماغية والمسؤولة عن تقييم حالات الإثارة المنتجة في المخ، يتم توجيه انتباه الشخص المعني إلى الصورة الذهنية الناشئة في المساحات المترابطة، ويحدث إدراكٌ واعٍ لذلك الأمر الآن.

وفي واقع الأمر حسب جيرالد هوتر، لا يصل بهذه الطريقة إلى الوعي إلا جزء صغير للغاية من الصور الذهنية المتولدة في المخ، ولا تكمن أهمية التساؤل عما إذا كان يتم إدراك انطباع حسي عن وعي أم لا، في معرفة حقيقته، بل في كيفية تقدير أهميته لدى شخص محدد في موقف محدد. وكلما كان نموذج الإثارة الحسي الناجم أقوى انتشاراً إلى مجالات أخرى في المخ، ومتراكماً مع نماذج الإثارة المتولدة هناك بطريقة اعتيادية، كان هذا النموذج أكثرَ هيمنةً في المخ. يسري ذلك خصوصاً إذا امتدت الإثارة لمناطقَ أكثر عمقاً في المخ، حيث تختص شبكات خلاياه العصبية بتنظيم وظائف الجسم، لذا يجب أن يكون الانطباع الحسي إما غير متوقع وحاسماً أو جديداً من نوعه، مثل الإمساك بسطح المَوقد الساخن، أو القبلة الأولى، أو يجب أن يتواجد المخ في حالة منفتحة للغاية لاستقبال أحداث ومدخلات في حالة توقُّعٍ تتسم بالتفاؤل، مثل بداية أول رحلة في منطاد الهواء، أو القيام برحلة لطالما تمناها الشخص طويلاً.

مثل هذه الأحداث الصادمة أو الباعثة على السعادة لا تحدث في روتين الحياة اليومية المعتاد للمخّ إلا فيما ندر. كما ترتبط الصور الذهنية الناشئة في مثل هذه المواقف المشحونة عاطفيّاً في شكل نماذج تنشيط محددةٍ في المجالات التعاونية للمخِّ مع نماذج التنشيط المختصة بتنظيم وظائف الجسم في مجالات المخ تحت القشرة المخية والجوفية. لذا فهي معقّدة للغاية، ومستقرة على الدوام، ومترسّخةٌ جذريّاً من خلال عمليات التوصيل والمسارات. إنها صور لا تبتعد أبدا عن الحاسة لأنها تمر إلى القلب وتدق بقوة في المعدة.

وغالباً ما تصل صورة ذهنية ناشئة في المخ، من خلال إثارة الحاسة إلى الوعي فقط؛ لأنها لا تريد أن تتسق مع الصورة الموجودة بالفعل في العقل، لذا يحتاج الانطباع الجديد للحاسة أن يكون جديداً للغاية من نوعه، ويظهر مرتبطاً بانطباعات حواسَّ أخرى لم يسبق لها الظهور من قبل في مثل هذه العلاقة. وفي كل مرة يحدث فيها ذلك يمتزج نموذج الإثارة الموجود بالفعل من خلال التداخل مع نموذج جديد امتزاجاً مؤقّتاً. وحتى تندمج الصورة الجديدة مع النموذج القديم، تسود حالة مضطربة معينة في مجالات المخ المعينة، ويمتد هذا الاضطراب لمراكزَ أكثر عمقاً تحت القشرة المخية التي تَقْدر من جانبها من خلال إطلاق سراح رسائل محددة على تغيير القدرة على استثارة الخلايا العصبية القشرية والأعلى، ثم تنشأ حالة نطلق عليها اسم "انتباه المركز"، ويصبح المخُّ يقظاً الآن ويستطيع تسوية نموذج التنشيط الجديد مع نموذج التنشيط الأقدم، والموجود بالفعل، وتركيبه داخل صورة ذهنية جديدة.

وكلما تكررت اشتثارة هذا النموذج التنشيطي المتداخل بعد ذلك، لأن نفس انطباع الحاسة أو انطباعا مشابها يظهر مجدداً، ازدادت قوة مسارات الخلايا العصبية المشتركة في نشأة نموذج التنشيط المعني، وأضحت أكثر ترسخاً واستقراراً. ولكن من الممكن استدعاء الصورة الذهنية الجديدة دون إدراك حسي أو خارجي أي "من الذاكرة".

هناك شيء جدير بالملاحظة في كل تلك العمليات المُولدة للصورة الدائرة بالمخ، المخزنة للصور، سواء بالنسبة للترسيخ السطحي نسبيّاً للصورة المدركة في عالم التصورات الداخلي، أو بالنسبة للإدراج الأعمق تغلغلاً في الأساس، لصورةٍ مَعيشة في عالم الجسد والشعور الداخلي، وهو ضرورة وجود نماذج داخلية في المخ أقدم وناشئة من قبل أن يلتحق بها النموذج الجديد بطريقة ما.

يتساءل هنا جيرالد هوتر: من أين جاءت هذه الصورة القديمة؟ مجيباً بالقول: من المؤكد أنها نشأت من خلال ما يسمعه الإنسان ويراه ويشمه ويشعر به ويدركه في حياته الآنية من أشياء متجددة دوماً. فعندما يتقدم عمر الإنسان تصبح الصور الوافدة أقل عدداً عن تلك الصور المتولدة في فترة الشباب أو حتى أثناء الطفولة المبكرة، حين بدا كل شيء جديداً تماماً، لكن يجب إلحاق الجديد بأي صور كانت موجودة من قبل، وحتى قبل الولادة، حيث يستطيع الجنين أن يتلمس ويتذوق ويسمع داخل رحم الأم.

وليس ثمة شك في أن هناك عدداً هائلاً من الأشياء التي يمكن حسها وتذوقها وسماعها، لكن السؤال هو: ألم يكن هناك أي عضو حاسة قد تطور في النمو بالفعل بالشكل الذي يجعله قادراً على توصيل إشاراته للمخ؟ ألم يكن هناك نماذج تنشيط مميزة في تلك الفترة في المخ الآخذ في النمو للجنين التي تُلحق به في كل نماذج الإثارة الواصلة من أعضاء الحس الناشئة فيما بعد، كما يمكنها الارتباط بها ارتباطاً تعاونياً؟

علاقةً بذلك، يذكر جيرالد هوتر أن كل طفل يملك عند وقت الولادة مخزوناً لا بأس به من الصور الذهنية، ولا تعد الممثلات الداخلية والروابط التعاونية حول طبيعة كل مجال جزئي، من العالم الذي تم التعرف عليه بالفعل، من خلال إدراكات حسية، جزءاً من ذلك المخزون فحسب، بل ينضم إليه أيضاً كل المثل التي تشكلت واستقرت بالفعل قبل الولادة، كنماذج روابط عصبية مميزة في كل مجالات المخ المسؤولة عن إدراك المتغيرات داخل الجسم، فضلاً عن مسؤوليتها عن تنظيم وظائف الأعضاء وعمليات التمثيل الغذائي.

هكذا يعد الإنسان هو الكائن الوحيد على وجه الأرض الذي نجح في جمع مخزون متنامي الحجم باستمرار، من الصور الذهنية المشكلة ذاتيّاً عن طبيعة وحالة العالم وطبيعته الشخصية على مر ملايين السنين، فضلا عن نجاحه في نقل تلك الصور من جيل لآخر، كما يُعد الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على تخطيط أفعاله على أساس هذا المخزون من الصور الذهنية، عن وعي وإدراك، وعلى نحو استشرافي حتى ولو لم يكن ذلك على نحو مستدام.

ويختم جيرالد هوتر: كما هو الحال في الصور الذهنية التي تكونت داخل مخ أي فرد من قبل، يمكن أحياناً للتصورات الجمعية التي نمت، أن تصير ثابتة وجامدة للغاية بدورها، حين لا تنفتح هي الأخرى في كثير من الأحيان، وتسمح بالتوسع، وعندما لا تعود في حالة توافق مع التدفق الحتمي للمدركات والمعارف الجديدة. وكما هو الحال مع الصور الذهنية التي تنشأ في مخ الأفراد من قبل، يمكن أيضاً للتصورات والقناعات والتوقعات الجمعية التي تبنتها جماعة ما، أن تؤدي إلى توجه مدركات أفرادها وبحثهم عن معارف جديدة، على الأقل خلال فترة زمنية محددة في تجاه محدد للغاية، حتى يتبع ويلاحظ أفراد تلك الجماعة بعض هذه المظاهر بعمق شديد في حين يدركون البعض الآخر بالكاد.





∵∴ المصدر ∵∴

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها