بيرُوت.. أيقونة الشعر العربي المعاصر؟!

د. رضا عطية

تحتل مدينة بيروت مكانة خاصة في الثقافة العربية، ليس فقط لعمرها الطويل الضارب في جذور التاريخ الإنساني منذ عهد الحضارة الفينيقية، ولكن لدورها المؤثر والحيوي على كافة الأصعدة السياسية والثقافية والاقتصادية أيضاً. كانت بيروت ملتقى لثقافات عديدة نتيجة توافد قوى أجنبية عليها، أبرزها في العصر الحديث الاستعماران الفرنسي والتركي (العثماني)، كما كانت قديماً ملتقى الرحلات التجارية، كذلك تمثِّل العاصمة اللبنانية للتعدد الهوياتي الذي يُشكِّل التكوين المجتمعي اللبناني القائم على تنوع الطوائف والأعراق.

تُعدُّ بيروت مركزًا ثقافيًّا عربيًّا شديد الأهمية، فقد ساهمت بيروت مع القاهرة في ميلاد الصحافة العربية واحتضانها، منذ أواخر القرن التاسع عشر، كما كانت بيروت مركزًا مهمًا للنشر وتأسيس المجلات الثقافية، ما مكَّنها من أن تكون حاضرة وحاضنة ثقافية عربية، كان لها دورها الفاعل في دعم الحركات الثقافية المهمة، وكذلك كانت مركزًا لدعم وإطلاق التيارات الأدبية الطليعة، وتعضيد التجارب الإبداعية التقدميّة والمتجاوزة، مثلما دعمت وأطلقت قصيدة النثر العربية، مع تجربة مجلة شعر في أواخر خمسينيات القرن العشرين وستينياته.

ولبيروت حضور قوي وتردد كبير لدى الشعراء العرب، فقد أمست أيقونة للشعر العربي، ملهمة للشعراء، ورمزاً له أبعاده الأسطورية والتاريخية والسياسية والثقافية، كذلك أضحت المآسي التي تعرَّضت لها بيروت والنزاعات التي هددت استقرارها، ووقوعها تحت الاستعمار والحماية الأجنبية في النصف الأول من القرن العشرين، ونشوب الحرب الأهلية فيها في الربع الأخير من ذلك القرن، موضوعاً حاضراً في الإبداع الأدبي خصوصاً الشعر.

كان أمير الشعراء أحمد شوقي واحدًا من أبرز الشعراء الذين تغنّوا بعشقهم للبنان ومحبتهم لبيروت، فيقول شوقي في قصيدة بعنوان: "لبنان" نشرها في جريدتي "المقطم" و"الأهرام"، صيف عام 1925، عن بيروت:
لبنـان والخــلد اخـتــراع الله لم ..  يُـوسَــمْ بأَزْيَنَ مِنهُـما مَلــكوتُـهُ
هو ذروة في الحسن غير مرومة .. وَذَرا البــراعةِ وَالْحجَى بـَيـروتُـهُ
مـلِكُ الهـضـاب ســلطان الــرُّبَى .. هـامُ السـحابِ عروشُــهُ وَتُخُـوتُهُ

يسوي شوقي بين لبنان والخُلد الذي يمنحه الله، ليضعهما في المنزلة التالية في الزينة والجمال، بعد الملكوت الذي هو في الحياة الأخرى الأبدية. وفيما يخلعه شوقي من صور وأوصاف على لبنان يبدو متأثرًا بالطبيعة الجبلية في لبنان الذي تنتشر فيه المرتفعات والهضاب وموظفًا لها، كمصدر رئيس لمعجمه الشعري، مازجًا الوصف الحسي كالذروة التي هي قمة الشيء وأعلاه بالمعنوي المجرد كالحُسن، ليضع بيروت قمة للإتقان والعقل، ويبدو شوقي سليل الطبقة الأرستقراطية التي تربى ونشأ في قصور الملوك والأمراء، متأثرًا بتكوينه المنغمس في أكناف حياة الملوك والسلاطين؛ ليصف لبنان وبيروت بوسوم الملك والسلطان والعروش، عند وصف معالمه الخاصة بطبيعته الجغرافية، كالهضاب والربى التي تطاول السحاب.

ولشوقي قصيدة أخرى بعنوان "نكبة بيروت"، يندد فيها بضرب الأسطول الطلياني لبيروت:
بيروتُ مات الأسدُ حتفَ أنوفِهِم .. لــم يُشـهروا سـيفًا ولم يـحمـوكِ
بيــروتُ يـا راحَ الـنـزيـل وأُنــســهُ ... يَمضي الزَّمـانُ عليَّ لا أسـلوكِ
الحسـنُ لفــظٌ في المدائـن كلها .. وَوَجَـدتـُهُ لَـفــظًا ومــعـنـى فـيــكِ
لَكِ في رُبى النيلِ المُباركِ جيرَةٌ .. لَـو يـقـدرون بِـدمعـهم غـسـلوكِ

تبدو قصيدة شوقي هذه، في جانب منها، مرثية لبيروت، لكن وعي شوقي وتمثّله للموقف المضطرب، والأزمة التي حدثت بضرب بيروت يغلّب عليه إشباع وعيه الكلاسيكي، كما في صورة مثل: (لــم يُشــهروا سـيفًا) التي تنتمي للذائقة التراثية الموغلة في القِدم لا إلى الموقف العصري حينها، كما يبرز شوقي المكانة السياحية لبيروت التي تخلدها في وجدان وذاكرة زوارها، وفي تأكيده على اتصاف المدينة بالحسُن، يستعمل شوقي أسلوب الكناية التي تستلهم ثنائية بلاغية من التراث القديم (اللفظ والمعنى) إبرازاً لتميُّز بيروت عن سائر المدن الموسومة بالحُسن؛ كأنّها صارت مفهوماً شارحًا للحسن نفسه، أي معيارًا مُوضِّحًا له. وفي تعبيره عن التضامن الحميم بين مصر ولبنان، ممثلة في بيروت يستدعي النيل ودموع أهله لتغسل بيروت، وإن كانت الجملة الاعتراضية الشرطية (لو يقدرون) تخفف من حدة هذه المبالغة التي تُعبِّر عن التعاطف القوي والمؤازرة الصادقة.

ولا يفوت أحمد عبد المعطي حجازي، الشاعر الذي حمل الحلم العروبي وآمن بالقومية العربية التي أطلق نداءاتها جمال عبد الناصر، أن يُعبِّر عن أحلام التحرر التي تبنتها حركات اليسار اللبناني، كما في قصيدة "صبي من بيروت":
في العاشرة
وقلبُه تفاحةٌ خضراءْ
تنفست على ربى بيروتْ
لكنها اشتاقت لريح القاهرة
وهي تموتْ!
من يا تراه شدَّه من مرقدِه؟
أي خيالٍ جامحٍ، قاد الصبيَّ من يدِه؟
أعطاه للطريق ثائرًا وراء الثائرينْ
أعطاه عشرًا، فوق عشر،
صار في العشرينْ
يملك قلبَ شاعرٍ حزينْ!
يحمل حزنَ اللاجئينْ
يملك روحَ شاعرٍ ثائرْ

يمنح أحمد عبد المعطي حجازي البطولة في هذه القصيدة لصبي بيروتي في العاشرة من عمره، هذا الصبي هو رمز الحلم في حداثته والأمل اليافع، وحالة البكارة وطور النقاء، الذي جعلته الهموم عاينها، يبدو كأنَّه يحمل ضعف عمره، من هول ما اختبر من ملمات، وما مر به من تجارب قاسية؛ وكأنَّ اختيار الشاعر لصبي في العاشرة يشي بعدم ثقته أو انخفاضها في الكبار المؤدلجين، الذين تحركهم المصالح الشخصية، ومصالحهم الخاصة التي تُشكِّل أولوياتهم قبل مصلحة الوطن.

ويبدو تشبيه قلب الصبي بتفاحة خضراء مقطوفًا من البيئة والطبيعة اللبنانية، التي تشتهر بأشجار التفاح الأخضر، فضلاً عما تحمله التفاحة من إرث ميثولوجي، كونها ثمرة المعرفة المُحرَّمة، إذ اقترنت التفاحة منذ قصة الخلق، برمزية المعرفة التي تفضي إلى الشقاء والطرد من الجنة، فكأنَّ قلب الصبي البيروتي العارف ضعف ما يجب من أمور هو الذي يفضي به إلى الشقاء، وأن يبدو كأنّه في ضعف عمره. لكن هذه التفاحة، قلب الصبي البيروتي، الذي يحمل هموم وطنه تشتاق لريح القاهرة، أي لريح التغيير التي هبت من القاهرة.. وتبني جمال عبد الناصر لحركات التحرير الوطني، فلاقى مشروعه تكريسًا في صفوف اليسار العربي كحلم بيوتوبيا جديدة تأسيسًا لدول وطنية ناهضة، تنفض عنها آثار الحقب الاستعمارية والتبعية لهيمنة القوى الإمبريالية العالمية.

لقد كانت الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1989) موضوعًا حاضرًا في ديوان الشعراء العرب الكبار، فأمست بيروت الممزقة بفعل هذه الحرب وجعًا في جسد القصيدة العربية، ولنا أن نعاين انعكاس هذه الحرب في مرايا عدد من الشعراء العرب، حيث يقول الشاعر السوري نزار قباني في بيروت التي مزقتها الحرب الدامية:
نعترف أمام الله الواحد أنّا كنا منك نغار، وكان جمالك يؤذينا
نعترف الآن بأنا لم ننصفكِ ولم نعذركِ ولم نفهمكِ،
وأهديناك مكان الوردة سكّينا...
نعترف الآن بأنا كنا ساديين، ودمويينَ
وكنا وكلاء الشيطانْ
يا ستّ الدنيا يا بيروتْ
قومي من تحت الردمِ كزهرة لوزٍ في نيسانْ
قومي من حزنكِ
إن الثورة تولد من رحم الأحزانْ

ينحو نزار قباني كعهده، في استعمال ضمير المتكلم الجمعي "نحن"، تعبيرًا عن تحمُّل الجميع، أو الشخصية القومية للأمة العربية، السبب في المأساة البيروتية، بالتخلي عن المدينة في عز أزمتها واضطرابها، كما تكشف صور نزار وبلاغته الشعرية في مخاطبة بيروت كامرأة جميلة يجب أن تُقدَّم إليها أجمل الهدايا، تمامًا كالنساء، عن طغيان شاعر الغزل في داخله، إذ عُرِف نزار قباني بأنَّه شاعر المرأة، حتى في خطابه الشعري السياسي في تمثُّله لمدينة بيروت بامرأة، كذلك يتبدى من صور نزار، حتى في تمثيله للمواقف السياسية، كما في حثه الاستنهاضي لبيروت لتقوم من كبوتها: (قومي من تحت الردمِ كزهرة لوزٍ في نيسانْ)؛ إنّه شاعر الطبيعة التي يقطف من عناصرها مكونات صوره، فيشبه بيروت التي يرجوها كزهرة لوز في نيسان، بما يعنيه نيسان، شهر الربيع من تجدد الحياة، وتغيير الطبيعة أثوابها والميلاد الكوني الجديد. ولا يكف نزار قباني عن إشباع ولعه وإرضاء غرامه في أن تكون بعض أسطر قصائده مثلاً سائرًا، وحكمة تصلح للمشايعة كما في مختتم هذا المقطع: (قومي من حزنكِ/ إن الثورة تولد من رحم الأحزانْ) في صورة تبدو نزارية النزعة، حيث تشبيه الحالة الوجودية بتوليد الثورة من رحم الأحزان، فالمرأة عند نزار هي المعادل للوجود والمكافئ للعالم.

أما محمود درويش فيصوِّر جحيم الحرب الأهلية في مدينة بيروت:
وتنكسر السماء على رغيف الخبز
ينكسر الهواء على رؤوس الناس من عبء الدخان...
الموت يأتينا بكل سلاحه الجوي والبري والبحري،
مليون انفجارٍ في المدينة... هيروشيما، هيروشيما
وحدنا نصغي إلى رعد الحجارة، هيروشيما
وحدنا نصغي لما في الروح من عبثٍ ومن جدوى،
وهذا الأفق إسمنت لوحش الجوّ،
نمشي في الشوارع باحثين عن السلامة،
مَن سيدفننا إذا متنا؟
ويا... يا يوم بيروتَ المكسّر في الظهيرة
عجّلْ قليلاً
عجّل لنعرف أين صرختنا الأخيرة

يتبدى أثر الحالة النفسية وتاريخ ممتد من الإخفاقات السياسية والعسكرية على معجم درويش الشعري وصوره في تمثيله لمأساة بيروت، فتتكرر كلمات الانكسار غير مرة، كانكسار السماء والهواء واليوم (الوقت والزمن)، الذي هو انعكاس لشعور أليم بالانكسار، حتى إنّه يتَمثَّل بيروت "هيروشيما" أخرى لهول التدمير والانفجارات في المدينة، وتكشف صورة مثل (هذا الأفق إسمنت لوحش الجوّ) عن انسداد الأفق البيروتي وشعور الذات بوحشيته، ما يدفع بالذات لاستعجال الوقت الذي أمسى لديها دورة من الصرخات المتألمة والمذعورة.

ويوظِّف درويش الحركة الخطية لكتابة النص موازاة لحركة الصوت، تكرارًا أو وقفًا في تمثيل الإيقاع النفسي للذات الشاعرة، كما في (ويا... يا يوم بيروتَ)؛ وكأنَّ الصوت الشعري يتعثَّر حتى ينادى يومه البيروتي، الذي يبدو بعيدًا ثقيل الوقع والخطى والحركة لهول ما فيه من أحداث ودمار. ولنا أن نلاحظ اختلاف منظور الرؤية بين درويش ونزار في تناول مأساة بيروت في الحرب الأهلية، فنجد محاسبة الذات الجمعية عند نزار قباني، وتحميلها المسؤولية عما آلت إليه أحوال بيروت، رُبَّما لأنَّ نزار قباني كان يعتبر نفسه شاعر العروبة المتحدِّث باسمها، كذلك لم يمنع الشعور بالمأساة نزار من استنهاض المدينة، غير أنَّ درويش بحكم إحباطاته التاريخية كفلسطيني فقد أرضه، وعاين أيضاً الضربات التي وقعت على الفلسطينيين في الحرب الأهلية في لبنان يبدو متشائمًا، سوداوي النظرة مقارنة بنزار.

وتُعَدُّ الحرب الأهلية مثالاً ناصعًا على التصادم الأيديولوجي بين الجماعات، وهو ما برز في تجربة الشاعر اللبناي وديع سعادة، الذي يقول في قصيدته "محاولة الوصول إلى بيروت من بيروت"، التي أهداها إلى صديقه الشاعر العراقي سركون بولص:
هل كان عليَّ أن أخرج اليوم لأمسّد
بأصابعي الصغيرة قذيفةَ الأعداء
أن أذهب في طريق يذوب إسفلتها مستعيدًا
عمَّالَ منجمه الذين تناثروا
بديناميت
مستعيدًا عميانه، وبوهمييّن قدامى
يراقبون انسلاخَ الأرض عن جلدها
كقرصان محروق

يغني الشاعر مأساة مدينته، ومن عنوان القصيدة "محاولة الوصول إلى بيروت من بيروت" يبدو لنا انشطار المدينة وتَفَتُّتها؛ بيروت المنطلق والمأوى، وبيروت المقصد وغاية الوصول، أما الـ(محاولة) فتعني السعي والمعاناة، واحتمالات النجاح بمثل احتمالات الفشل أما (إلى بيروت) فتعني الانفصال المكاني عن بيروت، في حين أن (من بيروت) تعني العيش في حصار ببيروت، صارت بيروت أكثر من بيروت، كمرآة تكسرت وتشظت وتبعثرت أجزاؤها.

لقد صار الإنسان البيروتي يعاين آثار الموت في شوارع المدينة في كل موضع وكل وقت، كما صارت خروقات اللغة تُعبِّر عن مأساوية الواقع وعبثيته، فأضحى فعل كـ(أمسِّد) الذي يحمل دلالات الملامسة الناعمة يُسند إلى (قذيفة الأعداء)؛ وكأن علامات الموت وقرائن القتل ووسائل الإفناء والإبادة، قد باتت هي أدنى ممارسات الحياة وأنعمها، وقد أمست الذوات تتعامل مع الموت والقتل المجاني بمألوفية واستسلام.

الصورة عند سعادة، كما في المقطع السابق، مرشحة، تتوالد وتتكاثر في عملية أشبه بتكوُّن دوائر دخانية متصاعدة وملتفة، تمامًا، كحال الشارع الدامي في المدينة "بيروت"، فمن مشهد تمسيد القذيفة بالأصابع الصغيرة في الشارع أو الطريق، تتولد صورة ذوبان إسفلت الشارع، التي توازي مونتاجيًا مع صورة تَفَجُّر الديناميت في عمال المنجم الذي يتموضع –بالطبع- أسفل الأرض، وربما باطن الطريق، فكل المكان ينفجر، ولم يبق شهود غير العميان والبوهميين- في إشارة إلى فناء الإنسان وتشوهه- الذين يعاينون انتحار الأرض.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها