القيم التربوية والجمالية في الإنشاد الديني

د. أحمد سعد الدين عيطة


يتميّز الإنسان عن سائر المخلوقات بموهبة فريدة منحها الله عز وجل له، وهي القدرة على الإحساس بالجمال وتذوقه في كُل ما يُحيط به من مظاهر الطبيعة والحياة. فالجمال ليس مُجرد لحظة عابرة للتأمل، بل هو إحساس حيّ يسري في أعماق النفس مع كُل ما تُدركه الحوَّاس. فإذا تأمل الإنسان في واقعه المادي واليومي، أدرك أنَّ مسكنه ومأكله وملبسه، وسائر تفاصيل حياته، تنطوي على أشكال مُتعددة من الجمال التي تبعث في النفس شعورًا بالبهجة والرضا.

 

وقد أكرم الله الإنسان بنعمتَي الحُرية والاختيار، وهما عاملان أساسيان في صقل ملكة التذوق الجمالي وتنميتها، ليُصبح مُبدعًا، وناقدًا، ومُنشدًا للجمال في كل ما يراه أو يعيشه. وهكذا يتجلى الجمال في حياتنا بأشكال مُتعددة، من الفكر والأدب، إلى الموسيقى والفنون كافة. كما يظهر الجمال في فن الإنشاد الديني، الذي تَطرب له النفوس ويعكس البُعد الروحي للإنسان.

إنَّ الفن يهدف إلى توحيد جميع أشكال الإنتاج الفني التي ظهرت في المُجتمعات البشرية المُختلفة، ثمرة لجهد الإنسان في البناء والابتكار. فمن خلاله تمكَّن من إعادة تشكيل بيئته والتحكُّم في عناصرها، محوِّلًا خبراته الحياتية إلى تجربة جمالية ذات أثر عميق في الفرد والمُجتمع.

والموسيقا لم تنشأ كفنٍ مُستقلٍّ بذاته كالشعر، لكنها أصبحت مع الوقت أكثر الفنون استقلالًا، إذْ كانت في الأصل مُصاحبة للغناء أو الرقص في الاحتفالات والطقوس الدينية. ومع التطور أصبحت الموسيقا فنًا مستقلًا قائمًا بذاته، يمتلك أدواته التعبيرية الخاصة التي تمكّنه من إيصال معناه الفني دون أن يستعين بغيره من الفنون1.

والصوت الموسيقي ليس مُجرد وسيط مادي للفن، بل هو مادة خام يكتسب قيمته الجمالية عبر التشكيل الفني، حيث يتحول إلى لغة تنبثق من الآلات الموسيقية. وتنعكس القيم الجمالية في ميل الإنسان إلى ما يتسم بالجمال من حيث الشكل والتوافق والانسجام، سواء في الطبيعة أو في النتاج البشري، فتمنحه قدرة على النظر إلى العالم بروح التقدير والاحترام. غير أنَّ امتلاك حس التذوق الجمالي لا يعني بالضرورة امتلاك القُدرة على الإبداع الفني، إذْ يظل التذوق مُختلفًا عن الابتكار.

ومن جماليات الصوت والتعبير الموسيقي يتجلّى بُعد آخر للفن بوصفه لغةً للروح ووسيلةً للارتقاء بالوجدان. فالموسيقا لم تُولد فنًا مُستقلًا منذ البداية كما هو الحال مع الشعر، بل ارتبطت في نشأتها الأولى بالغناء والرقص اللذين كان الإنسان القديم يمارسهما في طقوسه الدينية واحتفالاته الدنيوية؛ حيث شكّلا معًا أداة للتعبير الجماعي ولترسيخ الانتماء والهُوية. ومع تطور التجربة الإنسانية، وظهور موسيقا الآلات، انفصلت الموسيقى تدريجيًا عن تبعيتها للفنون الأخرى، لتصبح فنًا قائمًا بذاته يمتلك وسائله التعبيرية الخاصة التي تمكّنه من الاستغناء عن غيره، بينما تظل الفنون الأخرى في معظمها بحاجة إلى إيقاعه ونبراته2.

ويرى محمّد الدّريدي أن الموسيقا تمثّل أحد أهم المباحث التي اهتمّت بها الأنثروبولوجيا في سعيها لفهم الإنسان داخل التجمعات البشرية عبر مُختلف الحقب التاريخية، لما تحمله من أبعاد تتجاوز كونها فنًا للمُتعة إلى كونها مُمارسة ثقافية واجتماعية مركبة. وقد حدّد الأنثروبولوجي "ألان ميريام" وظائف الموسيقا ضمن إطار شامل يبرز أدوارها السيكولوجية والاجتماعية؛ حيث تعمل كأداة للتعبير الانفعالي والعقلي، وتمنح الإنسان خبرة جمالية قائمة على الاستمتاع والانسجام، فضلًا عن دورها في الترفيه والتنفيس النفسي3.

كما يرى مُندل عبدالله القبّاع أنَّ القيم تُعدّ عنصرًا جوهريًا من عناصر الثقافة الاجتماعية، فهي وسيلة للتعبير الجماعي، ووسيط لإشباع أرقى حاجات الإنسان الروحية والوجدانية، المُتمثلة في نزوعه إلى الفن والجمال. ومن هذا المُنطلق، تُسهم القيم في تنمية النفوس والعقول معًا، إذْ تربط بين الإدراك الحسي والوعي الثقافي، وتُجسّد وحدة البُعد النفسي والاجتماعي للإنسان4. ويتفق القبّاع مع عدد من المُفكرين التربويين في أنَّ القيم ليست ثابتة بطبيعتها، بل هي دينامية تتحرك مع المُتغيرات والتطورات التي يشهدها المُجتمع، فتدخل في تنظيماته وتعيد تشكيل أنساقه، فتسير في مسار حركة الزمن الاجتماعي، وتتكيف مع التحولات الحضارية، لتُصبح قوة فاعلة في تحقيق الرقي والثراء والتقدم.

ترتبط القيم الجمالية ارتباطًا وثيقًا بآداب السلوك وأنماطه، فهي لا تبقى حبيسة الإطار الفني أو الوجداني، بل تمتد لتوجّه تصرفات الأفراد وتؤثر في سلوكياتهم اليومية. ويتم انتقال هذه القيم عبر التربية والتنشئة الاجتماعية، لترافق الإنسان في مُختلف مراحل حياته وتصبح جزءًا من منظومة قيمه الأخلاقية والاجتماعية. فالجمال في جوهره إحساس داخلي بالمتعة والسمو، ينعكس على أسلوب الأداء الفني ليكشف عن طاقات الإبداع والتذوق، سواء في الإنشاد أو الموسيقا أو الرسم أو الشعر؛ حيث يُعبّر كل فن عن هذه القيم بطريقته الخاصة5.

وتزخر الأعمال الإنشادية بالكثير من القيم التربوية والجمالية، مثل العفو عند المقدرة، وكظم الغيظ، والاستقامة والاعتدال، وهي مُستمدة من التشريع الإسلامي، كما جاء في قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [سورة الحشر].

وتشمل القيم جميع جوانب الشخصية الإنسانية، بما يراعي الإنسان في دنياه وآخرته، وعلاقاته بربه وأسرته ومُجتمعه. كما تمثل مجموعة القيم المُكتسبة نسقًا مُتماسكًا يوضح أولوياتها المُختلفة، ما يسهم في دراسة الثوابت والمُتغيرات داخل المُجتمع، وتتنوع القيم في الإنشاد الديني لتشمل6:
القيم الجمالية: مثل تنوع المقامات الموسيقية، وتغير أجناس الفروع في المقامات، والارتجال، وربط الفعل الفني بالتصور الشخصي، كما يظهر في أسلوب أداء المُبتهلين.
ومن القيم الأخلاقية: الصبر على الابتلاء والظلم، والشجاعة والتضحية، والتعاون على البر والتقوى، والثقة بالله، والعفو والتسامح، والتأدب في الحديث.
أمَّا القيم الدينية: الإيمان بالله وحده، ترسيخ العقيدة، المداومة على ذكر الله، وطاعته والخضوع لشريعته، وتعظيم شعائره.
والقيم الاجتماعية: تعزيز التضامن، والتكامل، والمحبة، والإخاء، وصلة الرحم، والحفاظ على الموروثات، والعمل الصالح لنيل رضا الله.
وأخيرًا القيم الوطنية: الاتحاد، والتماسك، والانضباط، وإتقان العمل، والدفاع عن الوطن، والاعتزاز بالانتماء إليه.

وفن الارتجال: من أبرز القيم الجمالية في الإنشاد الديني، فهو فن الأداء الذي يجمع بين التأليف اللحظي والأداء الموسيقي في الوقت نفسه، مُعتمدًا على الذات والتصور الشخصي للمنشد.

ويُعد الارتجال تجسيدًا للقدرة على العطاء والإبداع؛ إذْ يربط الفعل الفني بالتفكير اللحظي المبتكر، مع الحفاظ على جودة الأداء ودقة التصرُّف، ليُصبح وسيلة جمالية تعكس شخصية المُنشد الفنية وقدرته على التواصل الروحي مع الجمهور.

كما تحتوي أساليب الأداء على قيم جمالية تتعلق بالصوت، مثل الانتقالات المقامية، والتنوع بين الطبقات الصوتية، واستخدام القفزات والحليات الموسيقية، كما في أداء الشيخ محمد عمران، ما يعكس مهارة المُنشد وعُمق فهمه للنص والموسيقا7. وتحمل القوالب الغنائية في طيَّاتها القيم الجمالية والأخلاقية والدينية من خلال النظم، واللحن، وأسلوب الأداء، ما يساهم في غرس وتنمية هذه القيم، وتشكيل الخبرة الجمالية، وصقل الذوق العام للمُتلقي.

ويظهر التفاعل بين النص الشعري واللحن والإبداع الموسيقي؛ حيث يُصبح النص مصدرًا للحن، واللحن مصدرًا للإبداع الشعري، في عملية ديناميكية مُتكاملة، تولد تجربة جمالية تربوية أثرها عميق في وجدان المُستمع.
 

الخلاصة:

يُمثل الإنشاد الديني فضاءً غنيًا بالقيم الجمالية والأخلاقية والتربوية؛ إذْ تنعكس هذه القيم في مكوناته الأساسية من نص شعري، ولحن، وأداء صوتي، وإيقاع، وارتجال. ومن خلال هذا التفاعل الفني يتحول الإبداع الفردي إلى خبرة جماعية تُسهم في تشكيل الذوق العام، تؤثر في وجدان المُتلقي، وتعزز الهُوية الثقافية، وترسِّخ القيم في المُجتمع. فالإنشاد الديني ليس مُجرد وسيلة للمُتعة السمعية أو الإبهار الفني، بل هو مُمارسة تربوية وجمالية، تُرسّخ القيم، وتُنمّي الذوق، وتُعزز الانتماء، تجمع بين الفكر والشعور في إطار من الجمال والفضيلة. لتُصبح بذلك جزءًا أساسيًا من الوجدان الإنساني، وتؤكد الدور الحيوي للفن في التربية وبناء الشخصية.

 


الهوامش: 1. عبد اللطيف محمد خليفة: ارتقاء القيم، سلسة عالم المعرفة، العدد 160، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1990. ┋ 2. فاطمة أمين عبد الرحمن: علاقة الموسيقى والغناء بالقيم الجمالية والأخلاقية والدينية في المجتمع العربي، رسالة ماجستير، جامعة حلوان: كلية تربية موسيقية، 1998. ┋ 3. محمد الدريدي: الذوق الموسيقي وجدلية الدلالة الرمزيّة والتقبّل، مجلة الموسيقى العربية، جامعة الدول العربية، 2015. ┋ 4. مندل عبد الله القباع: القيم الجمالية وأثرها في السلوك، العدد (1433)، المملكة العربية السعودية: جريدة الجزيرة الإلكترونية، 2012. ┋ 5. أميرة حلمي مطر: فلسفة الجمال نشأتها وتطورها، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1984. ┋ 6. فوزية دياب: القيم والعادات الاجتماعية، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003. ┋ 7. راوية عبد المنعم عباس: القيم الجمالية، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1987.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها