بيتُ القلب!

باسم سليمان

(قلبي على ابني، وقلب ابني عَ الحجر)؛ هذا ما كانت تردّده الأم بتواتر مجنون، عندما يتفجّر صديد ذاكرتها، مسترجعةً آخر كلامٍ جرى بينها وبين ابنها، قبل أن يلتقط بندقيّة أخيه الذي عاد شهيداً من غربة الحرب، ويهاجر إليها هو الآخر.

لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتّى رجع ابنها الثاني شهيداً من غربة الحرب، فأزهر شتاء حزنها. لقد منحتها حربٌ قديمة نعت الأرملة، وها هي الحرب الجديدة تتوّجها بصفة الثكلى.

كانت تُرى مشبوحة بين قبريْ ابنيها من الصباح إلى المساء، كجسر على نهر جفّت ضفتاه، فنادراً ما تُلحظ في بيتها العتيق الذي أكله صدأ الحزن والقهر، ولم تزره الأفراح منذ زمن طويل، إلى أن بزغ صباح ليس له من شبيه، ظهرت فيه الأم، أمام بيتها العتيق، تعلّق ما يشبه قفصين للعصافير، ثم غابت بقية اليوم. وفي صباح اليوم الثاني كان هناك عصفوران من طيور الكنار يغردان على الشرفة.

استنكر أهلُ القرية تصرفاتها؛ لكنّهم تعلّلوا بمصابها الكبير، فأيُّ عقلٍ يحافظ على اتزانه بعد ما حدث لها! وأي قلب لا يتهدّم بعد ما جرى! لكنّ الفاجعة الكبرى كانت، عندما علموا، بأنّ قبري ولديها قد نُبشا! ومع ذلك لم تُظهِر أيّ هلعٍ، بل على الضدّ من ذلك، كانت قد ازدادت نشاطًا وعافية، وعادت الحياة إلى بيتها، وكأنّه مملوء بأحبّتها.

كان للأمّ الثكلى رفيقةُ عمرٍ ثكلى مثلها، فأتتها مستفسرة عن ما استجدّ من حالها! لم يرشح عن زيارة الجارة، ما يبدد حيرة أهل القرية، باستثناء الابتسامة التي علت وجه الجارة. وفي صباح اليوم الثاني للزيارة ظهر قفص للعصافير أمام بيت الجارة، يغرد فيه كنارٌ، عكّرت صفو صوته العذب أخبارٌ عن نبش قبر ثالث.

تكرّر نبش قبور الأبناء والأزواج الذين قتلتهم الحرب، وانتشرت أقفاص العصافير من كلّ الأنواع أمام البيوت؛ من أبي الحنّاء، والدوري، وبلبل العرب، حتّى الغربان والبوم وجدت لها مكاناً في تلك الأقفاص.

لم يرض الرجال أن تُنتهك حرمات موتاهم، وتراب مقبرتهم، فتناوبوا على حراستها في النهار والليل، إلى أن لحظوا شبحين في ضوء الفجر يجولان في المقبرة. هجموا عليهما وقيدوهما، وعندما كشفوا عن وجهيهما؛ أصابتهم الدهشة، وعقدت ألسنتهم الصدمة؛ كأنّهم رأوا منكراً ونكيراً. لم يكن الشبحان إلّا الأمّ التي ابتدأت قصّة وضع الطيور في أقفاص صدرية أمام بيتها، وأمّا الأخرى، فقد كانت أمّ ثكلى، لم يمضِ إلّا سنة ونهار واحد على موت ابنها في الحرب.

صرخت الأمّ بهم: وماذا تريدون من أمٍّ ثكلى، أيّها الرجال؟ إلّا أن تسمع دقات قلب ابنها الذي رافقها منذ لحظة تكوّنه في بطنها إلى أن أخرست هذه الحرب عصفور حياتها، فماذا بقي لها إلّا قفصه الصدري، لتضع عصفوراً يغرّد لها، فيؤنسها في حزنها، اذهبوا إلى الجحيم أيّها الرجال، لقد تركنا لكم الرؤوس والأرجل والأيدي، فادفنوها، لكن من حقّنا كأمهات أن نأخذ بيت القلب.

منع الرجالُ أن يُنبش قبر الابن، فعادت الأم بلا روح إلى بيتها، تمسح دموعها بأقفاص الطيور الموجودة على شرفات أمهات ثكلى مثلها، إلى أن استيقظت، فوجدت قفصاً صدريّاً، وكناراً يُغرد فيه، لقد فعلها زوجها، ونبش قبر ابنه، وأخذ حصّته من عظامه، وأعطاها حصّتها.

طار الخبر في بلاد الحرب، وامتلأت بيوت البلاد بالأقفاص الصّدرية للأبناء والأزواج والزوجات والبنات، الذين قتلوا في الحرب. وبدأ صوت زقزقة العصافير ينافس صوت الحرب حتى أسكتها. وفي يوم السّلام فتحت الأمهات والآباء والأبناء أبواب الأقفاص الصّدرية؛ كي تطير القلوب/ الطيور في سماء البلاد. رفرفت الأجنحة، وامتلأت السماء بطيور من كلّ الأنواع. حمل الآباء والأمهات والأبناء الأقفاص الصدرية وذهبوا بها إلى القبور. أعادوا الموت إلى المقبرة، وبعد أن انتهوا، راقبوا بشجن أقرب إلى الحبور، الطيور وهي تتفرّق في سماء البلاد.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها

حسان العوض

لقد انتصر لطف هذه القصة على قساوة موضوعها/ الحرب مثلما أسكتت زقزقة العصافير صوت الحرب في النهاية.. الرموز شفيفة، والأسلوب رشيق، واللغة شعرية.. تحياتي للقاص باسم سليمان

12/29/2021 7:01:00 AM

1