الرّواية التّاريخية.. إحياء للماضي واستشراف للمستقبل

د. سعيد عبيدي


تعدُّ الرواية التاريخية أحد أهم أنواع الرواية بصفة عامة، وقد لاقت رواجاً كبيراً منذ نشأتها في الوطن العربي، ونالت الكثير من إعجاب القراء وترحيبهم، لما تحمله من روح الفخر بالماضي العربي العريق والحنين إليه، وقد مرَّت بمراحل متعددة، وتعرضت إلى الكثير من التغيرات والتحولات الموضوعية والفنية منذ نشأتها إلى اليوم، إلا أن ما يجب التأكيد عليه هو أنها ظلت وفية للتاريخ الذي يعتبر أهم رافد نهل منه الكتاب واستعانوا به في إنتاج عدد مهم من الروايات التاريخية التي تستلهم الماضي وتستدعيه لأغراض متعددة، وتبدو أهمية هذا الجنس الأدبي بأشكاله المتنوعة في أنه يتعلق بالماضي التاريخي والتراثي والحضاري للأمة العربية والإسلامية، الأمر الذي يتصل بهوية الأمة اتصالاً مباشراً، ويعبر عن أصالتها وعراقتها واستمرار وجودها.

 

والرواية التاريخية في الوطن العربي ظهرت مع بدايات القرن العشرين تقريباً، حيث كانت عملية استنبات الرواية بوصفها جنساً أدبياً؛ تشهد محاولات عديدة تسعى إلى ترسيخ جذوره وتطويره بما يتلاءم مع الذوق العربي، سواء من خلال الترجمة أو التعريب أو غيرهما، كما أن هذه المرحلة كانت تشهد بداية نهضة علمية وثقافية في شتى المجالات، وبالتالي كانت الرواية بصفة عامة، والرواية التاريخية بصفة خاصة قناة مهمة في هذا المضمار؛ إذ جذبت الكثيرين إلى دائرتها بغرض اكتساب المعلومات والمهارات الأسلوبية والتعرف على شخصيات تاريخية أثرت في مسيرة الأمة وحركتها.

والرواية التاريخية تُعرّف -كما جاء في معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة- على أنها: "سرد قصصي يرتكز على وقائع تاريخية، تُنسج حولها كتابات تحديثية ذات بعد إيهامي معرفي، وتنحو غالباً إلى إقامة وظيفة تعليمية وتربوية". ويعرفها معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب على أنها: "سرد قصصي يدور حول حوادث تاريخية وقعت بالفعل، وفيه محاولة لإحياء فترة تاريخية بأشخاص حقيقيين أو خياليين أو بهما معاً".

ومن خلال التعريفين السابقين يظهر لنا أن الرواية التاريخية -كما أكد محمود أمين العالم في كتابه (البنية والدلالة في القصة والرواية العربية المعاصرة)- هي تاريخ متخيل خاص داخل التاريخ الموضوعي. وقد يكون هذا التاريخ المتخيل تاريخًا جزئيًا أو عامًا، ذاتيًا أو مجتمعيًا، فقد يكون تاريخًا لشخص أو لحدث أو لموقف أو لخبرة، أو لجماعة، أو للحظة تحول اجتماعي إلى غير ذلك. ورغم الاختلاف في الطبيعة البنيوية الزمنية بين المتخيل والموضوعي، فإن بين الزمنين أو التاريخين علاقة ضرورية، أكبر من تزامنهما، هي علاقة التفاعل بينهما. فبنية الرواية لا تنشأ من فراغ، وإنما هي ثمرة للبنية الواقعية السائدة الاجتماعية والحياتية والثقافية على السواء، وهي ثمرة بلغة التخييل لا بلغة الاستنساخ والانعكاس المباشر.

هكذا إذن نرى أن العلاقة بين الرواية التاريخية والتاريخ علاقة وطيدة، بالتمعن فيها نستكشف وجود قطبين أساسيين في قيامها هما التخييل والحقيقة؛ ففي مجال التخييل يُستبعد البطل التاريخي ويضع الروائي نفسه بدلا منه، وهذا الشكل الروائي شكل تخييلي إبداعي، يقدم حقيقة فنية احتمالية، تعبر عن صدقها الفني بأساليب ثلاثة معروفة هي: الإمتاع، الإقناع، والتأثير. أما في مجال التاريخ فلا بد أن يلبس البطل لبوس المؤرخ، ما يفرض الأمانة العلمية في تقديم الحقيقة الموضوعية، وسرداً مباشراً لا أثر للتخييل فيه، وإن كان المؤرخ مضطراً أحياناً لاستخدام مخيلته في ترميم بعض الثغرات في الحقائق التاريخية فإن مخيلته تستند إلى سياق تاريخي، بحيث يبدو هذا الترميم منسجماً مع الدلالات العامة والخاصة للمرحلة التاريخية، لذلك فإن مخيلته مقيدة وليست مطلقة كما هو حال مخيلة الروائي.

ومن أبرز كتاب الرواية التاريخية في الوطن العربي نجد جرجي زيدان (شارل وعبد الرحمن- عذراء قريش- أبو مسلم الخرساني: سقوط الخلافة الأموية- الأمين والمأمون- العباسة أخت الرشيد- فتاة القيروان...)، إبراهيم الإبياري فيما كتبه حول تاريخ الدولة العباسية (مغيب دولة- ميلاد دولة- نهاية المطاف- قيام دولة- عذراء البصرة)، عبد الحميد جودة السحار (محمد رسول الله والذين معه- أميرة قرطبة- قلعة الأبطال)، علي الجازم (غادة رشيد- هاتف من الأندلس- فارس بني حمدان، شاعر ملك)، أحمد كمال زكي (أسامة بن منقذ- الأصمعي– الجاحظ- فارس الفرسان)، سليم البستاني (زنوبيا- بدور)، فرح أنطون (أورشليم الجديدة)، أحمد شوقي (لادياس الفاتنة)، محمد سعيد العريان (قطر الندى- شجرة الدر- على باب زويلة)، محمد فريد أبو حديد (الملك الضليل- المهلهل سيد ربيعة- زنوبيا ملكة تدمر).

لقد استطاع هؤلاء الرواد أن يكتبوا رواية تاريخية ناضجة فنياً، تحققت فيها عناصر البناء الروائي المتكامل: لغة وحواراً وشخصية وحدثاً وحبكة وتشويقاً، واستطاعوا في الوقت نفسه أن يوظفوا أحداث التاريخ وشخصياته، وبذلك أنتجوا روايات تخدم قضايا معاصرة مع الاحتفاظ للتاريخ بحقيقته وطبيعته.

يمكننا القول إذن؛ إنّ الرواية التاريخية هي نتيجة امتزاج التاريخ بالأدب؛ فالتاريخ -كما صرح عبد الحميد القط في كتابه (بناء الرواية في الأدب المصري الحديث)- ما هو إلاّ حقائق مجرّدة لوقائع تاريخية معينة سواء كان الأمر يتعلّق بالحوادث أو بالشخصيّات، بيد أنّ هذا التاريخ المجرد عندما يدخل بنية أساسية تعتمد عليها الرواية يأخذ شكلاً جديداً؛ بحيث يصبح عنصراً فنيّاً من عناصر تكوين الرواية، فيخضع حينها لكاتب الرواية الذي يفسره وفقاً لمزاجه الشخصي، لذا فإن كتابة الرواية التاريخية محفوفة بالمزالق؛ لأنّ الشخصيّات في التاريخ لها وجود محدد، أو بعبارة أخرى هي معدّة سلفاً وكذلك الأحداث التاريخية والمكان والزمان وغيرها، وعلى الفنّان أن يصوغها صياغة جديدة لا أن ينقلها كما هي في التاريخ، وهذا العمل هو الذي يجعل اتخاذ التاريخ مادة للرواية عملاً مشروعاً.

في الختام؛ نخلص إلى أن الرواية التاريخية هي جنس أدبي يقوم بشرح الأحداث بمزيد من الحيوية والعاطفة، دون الوقوع في السرد التاريخي البحت، فهي يمكنها إحياء الماضي وغرس مواده في حياة جديدة، واختراق الشخصيات الرئيسية في فترة من الفترات واختصار الوصول إليها، فالرواية التاريخية - كما صرح جرجي زيدان- صارت من أكثر وسائل التهذيب، وأصبح الغرض من تأليفها، إما تمثيل الفضائل على كيفية تقرب من الحقيقة بقدر الإمكان، وتوقيعها على أسلوب يؤثر في ذهن القارئ، وقلبه معاً، أو بسط أخلاق بعض الأمم في عصر من العصور، أو نشر حقائق تاريخية يثقل على الناس مطالعتها في قالب التاريخ، ويسهل في قالب الرواية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها