رشدي فكّار.. عالم الاجتماع الذي نسيناه

محمد سيد بركة

يحتل عمالقة الفكر وبُناة الحضارة صدر التاريخ بعطائهم الذي لا ينضب، ويخلدون في ضمائر الأمم؛ لأنهم منارات للأجيال تبلغ بهم شاطئ السلامة.. وهم القادة الحقيقيون للأمة تبقى الأفكار التي دعوا إلى تمثلها مع كل جيل وفي كل عصر..


ويُعدُّ الدكتور رشدي فكار المفكر الإسلامي ابن قرية (الكرنك بحري)، بمركز أبوتشت بمحافظة قنا -وهي بالطبع ليست الكرنك الكبرى التي يعرفها الكثيرون لشهرتها السياحية- أحد عمالقة الفكر المعاصر، الذين ساهموا في إنتاج المعرفة وإثراء مجال العلوم الإنسانية على مستوى عالمي. وكان أول مصري وعربي وأول مفكر من العالم الثالث بعد الشاعر الهندي طاغور تقر الأكاديمية السويدية، ولجنة نوبل في الآداب ترشيحه رسمياً للجائزة، وكان يقول: أفخر دائماً بأنني إنسان قروي بسيط، وأعتز بمكان مولدي رغم أنني أقيم منذ 30 سنة في الغرب.
 


سيرة حياة:

ولد رشدي فكار في 10 يناير 1928 بقرية الكرنك في مركز أبوتشت بمحافظة قنا بصعيد مصر، كان والده العمدة محمود فكار عمدة قرية الكرنك وأحد كبار الأعيان بمحافظة قنا، حفظ القرآن الكريم في كتاب القرية في سن مبكرة، ونشأ وتربى على القيم والأخلاق الحميدة وحب الخير، ووضع اسمه على معهد فتيات عدادي وثانوي، وكذلك مدرسة إعدادية، بقريته الكرنك.

درس بمعهد قنا الديني، ثم التحق بالجامع الأزهر بالقاهرة، وتخرج فيه، ثم حصل على البكالوريا الفرنسية من مدرسة الحقوق الفرنسية، وتابع تعليمه حتى حصل على دبلومين في الدراسات العليا أحدهما في الاجتماع والآخر في العلاقات الدولية، ثم حصل على الدكتوراه مع مرتبة الشرف من جامعة باريس عام 1956م، وكان يجيد اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية.

عمل الدكتور فكار بعد تخرجه مدرساً في جامعة السوربون، ثم انتقل إلى سويسرا للتدريس في جامعة جنيف، وأنجز فيها خلال هذه الفترة رسالة جامعية أخرى نال بها شهادة دكتوراه الدولة في علم النفس في عام 1965، ثم انتقل إلى المغرب ليعمل أستاذاً في علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالرباط، كما عمل أستاذاً زائراً بالعديد من الجامعات العربية والأوروبية، منها جامعة جنيف، وجامعة نيوشاتل، وانتسب بالعضوية لأكثر من 42 جمعية دولية وأكاديمية.

كما حصل رشدي فكار على عضوية أكاديمية الآداب والفنون والعلوم بإيطاليا، وعضوية المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وعضوية الهيئة العالمية للكتاب، وعضوية جمعية استر نجيرج، وهو أول عربي انضم لأكاديمية العلوم (مجمع الخالدين) بفرنسا 16/2/1973م التي لا يحصل عليها إلا العلماء المتميزون، وكان يعد من أكبر خمسة متخصصين في أصول الماركسية في العالم، وذلك الذي أهله للترشيح لجائزة نوبل عام 1976م.

اختارته الحكومة السويسرية ليكون واحداً من فريق العلماء الذين يفحصون بكل أدوات العلم مشكلات سويسرا الناجمة عن الثروة المتضخمة.. كما وقع عليه الاختيار كرئيس لجمعية الأيدو العالمية، ومقرها جنيف والتي تضم في عضويتها الحاصلين والمرشحين من شتّى أنحاء العالم لجوائز نوبل العالمية.

من أفكاره:

كان رشدي فكار صاحب مدرسة فكرية متميزة، فهو لم يكن فحسب ذلك العالم المتبحر في العلوم الشرعية، وفي الوقت نفسه لم يكن ذلك المفكر الذي يعيش عالة على الحضارة الغربية ينهل منها بغير حساب وينبهر بعطاءاتها المادية دون التفكر في المآخذ والعيوب.

لقد استطاع فكار أن يجمع بتوازن واعتدال بين ثقافته الإسلامية التي استقاها من منابعها الصافية منذ نعومة أظافره -حيث حفظ في قريته القرآن الكريم والتحق بالمعهد الأزهري- وبين الثقافة الغربية التي عاش دارسًا لها ردحًا من الزمن، بل إننا نستطيع أن نقول إنه تعامل مع الغرب برؤية أنه سفير أمة لديها ما تستطيع أن تقدمه للعالم، بل تمكن خلال رحلته الطويلة والشاقة مع عطائها الفكري والثقافي المتعدد المدارس والمختلف الألوان، أن يعيش بتلك الروح التي بدأ بها حياته.. ولم يشعر فكار في يوم من الأيام بنوع من التناقض فيما أودع عقله من علوم شرعية وأخرى غربية.

ويشكل كتابه في الماركسية والدين إجابة أصيلة على الأسئلة المعلقة دائماً في العلاقة بين الدين والماركسية، أو بتعبير أصح بين الدين والإلحاد.

يقول: "ليعلم الجميع أن ماركس كان مفكراً يخطئ ويصيب، وربما قدرة تفكيره في تطوره وارتداده، لا يعادلها إلا جهل تفكير محنطيه في ركوده وجموده، ماركس عاش عصره بعمق، أما أصحاب الشعارات الفورية باسم الماركسية الجاهزة فمأساتهم أنهم عاجزون عن معايشة عصورهم، فاحتكموا إلى التهميش بدلًا من الوعي، وباتوا يمضغون الرفض بعد أن تقيأه ماركس، وغاب عنهم أن عبقرية الإنسان لا يمكن إشباعها بالمستهلكات، ورفع الشعارات؛ وإنما التصدي لعمق الإشكاليات، وأي إشكالية أجدر بالتصدي لعمقها، من إشكالية مصير الإنسان وغائيته".

ويضيف قائلًا: "علينا أولًا أن نثق في ذاتنا، وأننا أمة ذات رسالة ورسالة خالدة لإسعاد الإنسان لا على الأرض العربية فحسب، وإنما في كل مكان".

ولا يقف رشدي فكار عند حدود تشخيص المرض؛ وإنما يطرح رؤية لاستعادة البناء الحضاري، ويركز في هذا الاتجاه على مرحلة التعليم الأولى في حياة أي طفل، ويرى أنها من أخطر المراحل التي يجب أن ننتبه إليها.. وعلى هذا فهو يدعو إلى تحريم إطلاع الطفل المسلم على أي انتماء آخر غير الانتماء الإسلامي حتى الثانية عشرة من عمره، كما تفعل ذلك الأمم الأخرى مع أطفالها، بعدها يبدأ الانفتاح على ثقافات العالم.

ويرى أن أخطر الأمراض التي تفتك بالحضارة الغربية، وتدفع إلى فشلها في النهوض بالبشرية هو أنها تسير على قدم واحدة. ومن البديهي أن أي حضارة تريد أن تعمِر يجب أن تسير على قدمين هما: الروحانية والمادية، والحضارة الغربية قامت على المادة وأهملت الجانب الروحي، فنجد أن الغرب تقدم تقدما كبيرًا في مجال علوم الطبيعة، ولكنه فشل فشلاً ذريعاً في الجانب الروحي؛ فأصبحت الحضارة الغربية حضارة ذات بعد واحد هي حضارة الطاقة والآلة، فهي حضارة أشياء تجد الناس قد انتفعوا بهذه الحضارة المادية في بيوتهم وفي طرقاتهم وفي أماكن عملهم وملاهيهم وإشباع شهواتهم. وهذه الحضارة لا تضع لله موضعاً في نظامها الفكري (الأيديولوجي)، ولا تعرف له فائدة ولا تشعر بحاجة إليه، وهي وإن كانت تعترف بالله شكلاً، لكنها تقوم على تنحيته من طريقها فعلاً وترى عدم تدخله في أمور الحياة ونظمها.

ويرى فكار أن الإسلام لديه الكثير الذي يستطيع أن يقدمه للحضارة الغربية وللعالم كله؛ فيقدم له ما لا يملك من قيم إنسانية وحضارية يفتقدها الإنسان الغربي الذي أصبح في عطش دائم لهذه القيم؛ لأن الإسلام يتمتع بميزات لا وجود لها في أي دين آخر، ولذا تبقى الصياغة الإسلامية الحضارية لإغاثة عالم الحضارة الغربية الأمل الموعود والمرتقب في دنيا العصر وقلق ذوي الاهتمام والفكر؛ لأن العالم سوف يخضع بالإصرار الإلهي للمنهج الإسلامي وللصيغة الحضارية القرآنية بعد أن بدأت البُشريات تلوح بالأفق المضيء، ولسوف تفنى كل هذه التعفنات التي أغرقت البشرية في طوفان الظلم؛ لأن الأمن والاستقرار في المجتمع يقاس بدرجة الإيمان في الأفراد.

مؤلفاته وأبحاثه:

للدكتور رشدي فكار أكثر من 17 مؤلفًا وموسوعة و100 بحث ودراسة حول شتى علوم الإنسان، من مجالات الدراسات الإسلامية، والاجتماعية والنفسية، وتمت ترجمتها إلى لغات أخرى.

وكتب أكثر من 50 دراسة وبحثاً باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية منها: علاقة العالم العربي الثقافية مع فرنسا، تأملات في الإسلام، الحياة اليومية في مصر إبان عصر محمد علي، الشباب وحرية الاختيار، ظاهرة الانتحار، المراهنة الصناعية، نظرية أصول الماركسية والمراهنة الصناعية.

من تلك المؤلفات:
◅ علاقة العالم العربي الثقافية مع فرنسا
◅ تأملات في الإسلام
◅ الحياة اليومية في مصر إبان عصر محمد علي
◅ الشباب وحرية الاختيار
◅ ظاهرة الانتحار
◅ المراهنة الصناعية
◅ نظرية أصول الماركسية والمراهنة الصناعية؛ وهي التي أهلته للترشيح لجائزة نوبل عام 1976م.

وفاته:

تُوفي المفكر الإسلامي الدكتور رشدي فكار في 5 أغسطس 2000م بالمغرب عن عمر يناهز 72 عاماً إثر أزمة قلبية مفاجئة، وشُيعت جنازته بالقاهرة، والتي أم المصلين فيها فضيلة الشيخ محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر آنذاك، والذي كانت تربطه علاقة وطيدة بالفقيد الراحل.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها