تاريخ الفن التشكيلي الفلسطيني.. اليد ترى والقلب يرسم

سيرة تمام الأكحل وإسماعيل شمّوط

محمد سيد بركة


في القاهرة خلال الفترة 1953-1957 درست الفنانة التشكيلية الفلسطينية تمام الأكحل الفن في كلية الفنون الجميلة، وتعرفت إلى إسماعيل شموط في سياق التحضير للمشاركة في معرض اللاجئ الفلسطيني، الذي افتتحه الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1954 وحضره ياسر عرفات، وتزوجته في العام 1959، وشاركته إنشاء وقيادة قسم الثقافة الفنية في منظمة التحرير الفلسطينية، كما شاركته التنقل بين عدة بلاد جراء حروب المنطقة واستمرار اللجوء الفلسطيني.


وعلى غرار عنوان موسوعة الدكتور ثروت عكاشة العين تسمع والأذن ترى، والتي استلهم عنوانها من مقولة مالرو العين تسمع والأذن ترى، جاء كتاب تمام الأكحل اليد ترى والقلب يرسم سيرة تمام الأكحل وإسماعيل شموط، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، والذي قام بتحريره غانم بيبي، وكتب مقدمته الروائي اللبناني الياس خوري.

تبين تمام الأكحل إلى أن الكتاب هو مذكرات تقدمها، وهي شهادة نادرة عن زمن الخروج من يافا بعد النكبة وتأسيس رؤية فلسطينية، وتسجل تاريخ الفن التشكيلي الفلسطيني منذ بداياته وحتى اكتمال شبابه، وتشهد بالريشة واللون على عذابات الفلسطينيين النازحين ونضالات الشعب الفلسطيني.

وتؤكد الأكحل أنها قررت كتابة مذكراتها وزوجها إسماعيل شموط كشهادة على التاريخ الذي عاشاه معاً عندما شاهدت مسلسل محمود درويش، ورأت أنه يحمل الكثير من التناقضات والمغالطات والزيف التاريخية في حياة درويش، مرجعة سبب هذه الأخطاء إلى أن من قام بكتابة المسلسل لم تكن بين يديه وثائق حقيقية عن حياة درويش، وكل ما كان عنده هو جمع معلومات من هنا وهناك.. ومن ثم من أجل الأجيال القديمة قررت الأكحل وضع هذا الكتاب بين يديهم، حتى لا تضيع الحقيقة، مشيرة إلى أن هذا الكتاب يتحدث عن حياتها في يافا عروس فلسطين قبل النكبة والاحتلال 1948، وكذلك حياة إسماعيل في اللد..
 

يبدأ الكتاب بذكرياتها عن يافا، وعلاقة العائلة الجيدة بالجيران، مسيحيين كانوا أو مسلمين. واضطرار الأب لأخذ قرار الهجرة من يافا عندما وصلت الاعتداءات الصهيونية إلى حيهم، وذكرت بأسى وحزن كيفية تعامل لبنان الرسمي مع المهاجرين الفلسطينيين، ومنعهم من العمل – سوى العمل بالأسود، وفي مهن لا يفضلها اللبنانيون، والمذلة التي كانت تمارس عليهم من المباحث اللبنانية – المكتب الثاني، والسعي المضني للحصول على تصاريح العمل في سورية لمدة 15 يوماً من مكتب إلى مكتب، لتصريحٍ مدته شهر واحد، ولسفرة واحدة فقط. وكان هذا يذكرها بممارسات الاحتلال في الضفة، وسعي التجار والعمال وراء التصاريح لتحصيل الرزق.

كافحت تمام بقوة لتحصل على مقعد للدراسة في كلية خاصة في بيروت. ونجحت في الحصول على منحة دراسية في كلية الفنون الجميلة في القاهرة، خارقة التقاليد بسفر فتاة لوحدها إلى القاهرة، ولم يتم ذلك إلا بقوة تصميمها. جذبت طيبتها، وتصميمها الجميع لمساعدتها مما مكنها من البقاء في الدراسة، والحصول على الشهادة. وفي القاهرة تعرفت على إسماعيل شموط، وبدأت العلاقة بينهما، والتي توجت أخيراً بالزواج. نبتت بينهما قصة حب قوية –خاصة من طرف تمام – دفعها للتغاضي عن الكثير من روح زوجها المتسلطة والمُتشربة بتقاليد الشرقي، وغيرته، لدرجة دفعتها لعتابه بتلك العبارة: "كل شوي وإنت بِالتُّص فيّ"!

تقول الأكحل في كلمة التمهيد: كثيراً ما سئلت، وما زلت أسأل كيف التقيتما، وكيف تقاطعت حياتكما؟ كيف تعايشتما فنياً؟ وماذا عن قصة الحب الذي جعلكما تجتمعان منذ بدايات مسيرتكما الفنية، ثم تفترقان طويلاً لتعودا زوجين حبيبين؟
وتضيف الأكحل أنها حاولت في هذه الكتاب أن تضيء جوانب من سيرتها الشخصية وسيرة حبيبها إسماعيل، مواطن ووجعاً وحلماً، وترفع الستار بالرد على الأسئلة الجمة التي كثيراً ما طرحها عليها أصدقاء وإعلاميون عن الوطن والتهجير والطموحات، والشغف والعناد والحب الغامر.

لوحة لـ تمام الأكحل


وتقول: لقد أخذ كثير منا، وحرمنا نعمة الاستقرار في أرضنا بسلام، والذي هو مصدر وجودنا واستمرارنا وإلهامنا، فمنذ الطفولة حاكت فلسطين بدايات كل منا، ثم جدلتها معاً في حكاية مستمرة واحدة حتى رحيله..

يبين الروائي اللبناني الياس خوري أن الأكحل لا تروي في حكايتها بعضاً من حكاية زوجها الفنان إسماعيل شموط في هذا الكتاب؛ إنما تروي حكاية جيل النكبة الذي وجد نفسه في عراء التاريخ، فحاول أن يعيد صوغ هويته بالألوان والكلمات، وأن يجمع ذاكرته كي يبدأ تأسيس الحلم الفلسطيني بين يافا حيث ولدت الفنانة، واللد حيث ولد زوجها، مسافة مصبوغة بدماء الضحايا. القوارب التي أخذت أهل يافا إلى المنافي، وأمواج مسيرة الموت التي صنعت أحد الفصول المأساوية في حكاية اللد، تلتقي على قماشة لوحة وفي مسيرة حياة.

تروي الأكحل بحسب خوري حكايات النهاية التي صارت بداية، ففي ذلك الليل الفلسطيني الطويل لم يبق سوى ضوء الإرادة، وألق التمسك بالحياة. من خيوط هذا الضوء أعادت الفلسطينيات والفلسطينيين نسج حكايتهم وبناء حياتهم وتأسيس ثقافتهم،
واعتبر خوري أن الحكايات التي نثرتها الفنانة على صفحات كتابها تفتح لنا نافذة نطل منها على البدايات، وكيف تحول ركام البلد إلى حجارة بنت وطناً منفياً من وطنه، فصار وطن جميع الفقراء والمضطهدين في العالم العربي وفي العالم. يخطئ المؤرخون الذين ينسبون تأسيس منظمة التحرير إلى قرار اتخذ في القمة العربية في سنة 1964، فالمنظمة كوطن منفي بدأت في اللوحات والروايات والقصائد، وبعد ذلك جاء المستوى السياسي كي يمأسس ما صنع في كفاح الكلمات والألوان، وفي موت الفدائيين البطولي وهم يعانون بطش المحتل وعسف الأنظمة العربية.

 ويرى خوري أننا في هذه المذكرات نتعرف على بعض من ملامح امرأة، وكثير من تجربة فنانين بحثاً عن فلسطين في كل مكان، ليجدا أن الوطن مرسوم على أرواح الفلسطينيين، وأن الحكاية حين تروى تستدرج حكايات أخرى لا نهاية لها.

يتناول الكتاب العديد من الموضوعات مثل: الذاكرة الأولى، العودة المؤجلة، عودة إلى المدارس، المعرض الأول، إسماعيل: خيمة تخفق كالقلب، القاهرة تجمعنا، الرئيس جمال عبدالناصر يفتتح معرض فلسطين، خطوبة غيابية، العدوان الثلاثي وإحباط الشراكة، خيمتنا في موسكو، العام 1958، ومشروع زواج بديل، تجديد الشراكة: الخطوبة الثانية، العرس الصامت، خبز وملح مع الجيش، من الأونروا إلى منظمة التحرير، مشكلات القلب، ضيوف ألمانيا الشرقية 1982، وتهجير جديد، بين طوكيو والكويت وألمانيا وعمان، عودة إلى يافا واللد، هزمتك يا موت الفنون، مسيرتنا مستمرة منشورات (مختارات). كما يحتوي الكتاب على العديد من اللوحات الفنية للفنانين.

ويذكر أن تمام الأكحل ولدت في يافا – فلسطين، في العام 1935، وتعد أبرز رائدات الفن التشكيلي الفلسطينيات، شردتها النكبة وعائلتها إلى بيروت، في سنة 1948، شاركت في أول معرض لها في لبنان، في سنة 1953، ثم درست الفن في المعهد العالي للفنون الجميلة والتربية الفنية في المعهد العالي لمعلمات الفنون في القاهرة، خلال الفترة 1953-1957، وهناك تعرفت على إسماعيل شموط في سياق التحضير للمشاركة في معرض فلسطين الذي افتتحه الرئيس جمال عبد الناصر في سنة 1954.
علّمت الفنون في بيروت ورام الله، وتزوجت إسماعيل شموط في العام 1959، وعملت معه، ثم شاركته إنشاء وقيادة قسم الثقافة الفنية في منظمة التحرير الفلسطينية، كما شاركته التنقل بين عدة بلاد جراء حروب المنطقة واستمرار اللجوء الفلسطيني.

لوحة لـ إسماعيل شموط


أما إسماعيل شموط ولد في 2 مارس عام 1930 في اللد بفلسطين .. هو فنان تشكيلي فلسطيني يعد أحد أبرز رواد الفن التشكيلي الفلسطيني، وأحد شخصياته الهامة، يراه البعض مؤسس حركة الفن التشكيلي الفلسطيني. كان من مؤسسي قسم الفنون في منظمة التحرير الفلسطينية، كما شغل منصبي الأمين العام لاتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين والأمين العام لاتحاد الفنانين التشكيليين العرب، حاصل على درع الثورة للفنون والآداب، وعلى وسام القدس، وعلى جائزة فلسطين للفنون، وجوائز عربية ودولية عديدة. وتوفي يوم 3 يوليو 2006 ودفن في عمان بالأردن.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها