الرمزي والاستعاري في رواية "لعنة وشم"

للإريتري منصور حامد

وليد خالدي بشير


يشكل الأدب الإفريقي في وقتنا المعاصر علامة فارقة بين الأمس واليوم، نظراً للأهمية التي يكتسيها في المشهد الثقافي على المستوى المحلي والعالمي، وهو حضور يجسد في أحضان الكتابة الإبداعية شكلاً من أشكال المواجهة، ويمكن في هذا الإطار استحضار عدة مسميات: "أدب المقاومة"، أو "أدب التحريض"، أو "أدب المعركة"، وغيرها من التسميات، كما ذهب إلى ذلك جمع من النقاد والأدباء والدارسين، وهو أدب يعالج في حقيقة الأمر الواقع المعيش، بكل أبعاده المتباينة المادية والمعنوية في أشكاله التعبيرية والأسلوبية، من أجل الوقوف ضد كل الهجمات الشرسة أيًّا كان وجهها أو مستواها.


وغير خفي على كل واحد منا متتبع لأدب القارة السمراء أو السرد الأفريقاني، من أنها نصوص أدبية وخطابات إبداعية؛ تخلقت في رحم واقع مليء بالمواجع والآلام والظلم والاستبداد الطبقي والقهر الاجتماعي والدكتاتوريات المتوحشة، وما تجدر الإشارة إليه، أن الرواية تناولت ثيمات متعددة ومتنوعة في سردانيتها، ويتعلق الأمر، بالحرب والثورة كتجربة معاشة وأنواع الخيانة، فضلاً عن ذلك، معالجة كل الأشكال المنضوية تحت سقف المقاومة والمنفى والحب، وبصورة أكثر جدية، شكلت هذه المواضيع على اختلافها جوهر رواية "لعنة وشم" للإريتري منصور حامد التي تقع في 185 صفحة من القطع المتوسط، صادرة عن دار الآن ناشرون وموزعون بعمان/ الأردن في طبعتها الأولى 2020م.


رمزية العنوان وخطاب الهوية

كتابة العمل السردي لدى الروائي الإريتري منصور حامد كما سيلاحظ القارئ؛ رسمت لنفسها في مجال اللغة خصيصة، انفلتت من طوق حالات التعيين المباشر، بحيث تدعو المتلقي في أن يعد العدة، من خلال استدعاء ذخيرته الفنية والثقافية والمعرفية، بحيث تسمح له بالتوغل في استجلاء أسرار النص، على اعتبار أن "الإنسان وحده، من بين الكائنات الحية، يداري كينونته في الرمزي والاستعاري، وفي كل حالات التعبير الإيحائي. وهذا الهروب الدائم هو الذي يحدد حجم الدلالات وسمكها، وكامل امتداداتها الصريحة والضمنية..."، بتعبير الناقد المغربي سعيد بنكراد.

من هذا المنطلق، وفي الفصل الثالث المعنون بـ"حين يزهر الحب ما بين الوشم الآثم والذكريات"، نستحضر قصة الحب التي جمعت بين سايمون وزينب، ويعد هذا اللقاء اللحظة المتوهجة التي أشعلت نار الحب في قلبه "بدا سايمون هائجاً مثاراً مبعثراً بذلك الحب المباغت.. يحسبه هيناً وهو عند أهله ضرب من ضروب الجنون، شارداً طوال الوقت وهو يتحسس ذلك الوشم الآثم بجبهته؛ إنها اللعنة التي عيت أن تفارقه. كان يخشى على سره من الانفضاح، ولا يفصح به لغريب أو قريب أو حتى لزينب نفسها، خوفاً من رفضها".

وتبعاً لذلك؛ فإن الوشم المطبوع على جبهته ظل يؤرق حياته أينما حل وارتحل مكدراً صفوها، وهنا، تولد لديه شعور غريب، والحالة هذه، تجلت عبر شعور أدخله في أفق التشظي اللامتناهي، من خلال تمظهراته الانفعالية القاتلة، حيث أحس بنداء يهمس بداخل أحشائه بأن يسحب من ذاكرته فيما هو مقبل عليه، يقول السارد في هذا السياق: "شيء في داخله يقول له: تراجع يا سايمون، لن يكتمل عرسك وفرحك، وكان طوال الوقت يتحسس جبهته، والوشم الآثم المدقوق بعناية، غير قابل للإزالة بكل منظفات العالم". ومن ثمة، بدأ التعب والإرهاق النفسي يظهر له الخبايا والخفايا، ومرد ذلك راجع بصورة أساسية عندما هداه فكره إلى أن يصحح الصورة المشوهة التي يحملها، بل ما فتئ يتحسسها عبر شعور متعاظم، طفق يسري في عروقه ودمه.

ويبرز هذا بجلاء، من خلال الرسالة التي بعثها لزينب، مكسراً حاجز الصمت هروباً من الفناء أي الانتقال من حالة الغياب إلى حالة الحضور، وبعبارة أخرى، اللحظة التي تضع الكينونة بين ثنائية البقاء والفناء في علاقتهما الديالكتيكية؛ باعتبارها امتداداً طبيعياً لمواصلة الحياة النابضة، ومن ضمن ما جاء فيها، أنه كان ينوي تغيير ديانته، بحكم عقيدته المسيحية التي ينتمي إليها، وأن يقبل الختان بكل صدر رحب لأجل محبوبته زينب، فالذات هنا تحت طائل الإقرار والبوح، بهذا المعنى، تحاول الأنا تدبير شؤونها بإبراز حضورها داخل الوجود، والمسوغ في ذلك، أن الحقيقة بدت لسايمون كمرآة يعكسها الواقع المعيش، إذ يحددها النسق القيمي واللزوم الأخلاقي؛ لأن "من مظاهر خطاب الكراهية المتولدة من واقع التعدد الثقافي التنابز بالصفات القبيحة، كأن نصف هذه الشعوب بالبربرية والتوحش والعدوانية. إن الخطاب غير المتسامح لا يترك فسحة واسعة لتعايش الحريات وثراء الثقافات" على حد تعبير الناقد الجزائري أحمد يوسف.

وهذا ما حدث مع معشوقته زينب أيضاً، حينما تحول حلمها إلى جحيم لا يطاق، فماتت الفرحة بين جوانحها، وتلاشت فيه ذاتها ملتفة برداء الوحدة والاغتراب، بعدما رسمت خطة مع سايمون في أن يصبحا زوجين في المستقبل، ولكن، لحقتهم لعنة الوشم الآثم، فكانت النتيجة الفراق والانفصال القسري والجبري؛ بفعل الممارسات المغلفة بمنطق النظرات الدونية الناجمة عن البنى الذهنية الراسخة داخل المخيال الجمعي، إضافة إلى جور المؤسسات المتكلسة بشتى أنواعها في رؤيتها للعالم، ما حرم شخصية زينب الحق في تقرير مصيرها، والتمتع بحياة تشوبها الحرية والانعتاق والحب والشعور بالاطمئنان والرضا، فقد تزوجت من أحد أقربائها يدعى عبد الله رغماً عن أنفها، وكان ينحدر من عائلة ميسورة الحال بمدينة (كسلا)، وهي التي قالت ذات مرة لسايمون: حقيقة إن الحياة صحيفة كبيرة، أكبر من تلك الصحف الحائطية.

وفي اليوم الذي زفت فيه عروساً، وهو يوم الوداع الذي تخلت فيه عن حياة العزوبية مع رجل آخر، فكان هذا الأمر الجلل، بالنسبة لسايمون نذير شؤم، وهي لعنة الوشم التي ما فتئت تلاحقه في حركاته وسكناته، وفي نومه واستيقاظه إلى درجة أحدثت ثقوباً تقعرت بسببها المشاعر والوجدان، هذا الوشم الآثم الذي يلغي وجوده ككل مرة، محطماً آماله وتطلعاته المستقبلية، فأضحى رديف اليتم في نكباته المتجددة، والغياب الرهيب الذي يطال حياته التي تزداد شقاوة وبؤساً يوماً بعد يوم، فأوضاع بهذا الشكل جعلته يولي وجهه شطر كل الجهات ولكن دون جدوى، باحثاً عمن يضمد هذه الجراح التي حفرت أخاديد كبيرة في أعماقه، تلفها أنّات وأوجاع وأسقام وبقابا حنين لا حول لها ولا قوة، ضجيج عارم اجتاح كينونته جعل من كل الأشياء والجوانب المشرقة من حياته ترتمي في أحضان القهر، لتتوسد زفرات الآلام طوعاً وكرهاً "عاش سايمون بتلك المدة البسيطة، أشهراً معدودات جلسها بذلك الحي البائس بعد رحيل محبوبته (زينب) شريداً، هائماً على وجهه بغير هدى، لا يستقر له حال، يبكي لفراقها ما شاء الله له أن يبكي، مكسور الخاطر، قريح القلب، يقضي ليله قلقاً مروعاً لا يذوق النوم إلا لماماً حتى يصبح عليه الصباح. مشّاءً بين الشوارع والأزقة الضيقة وحده، والغربان السود تنعق فوق رأسه، وكأنه في موكب جنائزي".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها