مايكل آنجلو.. من سينما الواقع إلى سينما الحقيقة

د. السهلي بلقاسم



ينتمي المخرج الإيطالي والعالمي الشهير (مايكل أنجلو أنطونيوني Michelangelo Antonioni) إلى مجموعة المخرجين السينمائيين الفنانين، المتشبعين بالثقافة والأدب، والفنون المختلفة، الموسيقية والتشكيلة... ضمن فترة تاريخية مهمة من تاريخ تطور السينما العالمية، التي حاولت التعبير عن إرهاصات مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وفترة الحرب عام 1945م، ومرحلة ما بعد الحرب، وهي المرحلة الأكثر تأثيراً وإبداعاً، مرحلة القلق والخوف والشكوك... بسبب الآثار النفسية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية، للحرب العالمية الثانية. وهي أيضاً مرحلة تطور العلوم العصرية المختلفة، ومرحلة ميلاد الحركات الفكرية التحررية. ولقد كان للسينما الدور الكبير في عرض هذه الانعكاسات المختلفة، في ملاحم درامية سينمائية كبيرة.

ولد (مايكل أنجلو أنطونيوني) يوم 29 أيلول عام 1912م في مدينة (فيرارا)، المدينة العتيقة في سهول (البو). وتربى وترعرع في أسرة عريقة عاشقة للعلم، والمعرفة والثقافة والفنون، وتخرج من جامعة بولونيا -كلية الاقتصاد- وانتقل في بداية الأربعينيات للعيش في مدينة روما. وقد أثرت هذه البيئة الطبيعية على إبداعات المخرج الأكثر شهرة ليس في إيطاليا فقط، بل في العالم أجمع.

السينما وتداخل الفنون

ظهرت بوادر اهتمام (مايكل أنجلو أنطونيوني) بالفنون منذ بداية الصبا؛ فقد تعلم العزف على العديد من الآلات الموسيقية، وكتب الشعر، ورسم العمارة والوجوه الشخصية والجبال. يقول في تفسيره لطبيعة العلاقة بين الرسم والكتابة بأن: "الرسم شيء مختلف، وأنا في العادة أفضل الرسم على الكتابة؛ إن الرسم أقل قلقاً من الكتابة.. حين ترسم يقود الحدس يدك، والعلامات التي تصنعها بالقلم هي على عكس الكتابة، التي هي ثمر بمراحل تفكير واع. الرسم كما السينما جزء من العالم اللاعقلاني".

لقد دخل (مايكل أنجلو) إلى عالم السينما من فنون الرسم والتشكيل والكتابة معاً، من خلال مجموعة مقالات صحفية، نشرت في الجرائد المحلية. قبل أن يصبح ناقداً سينمائياً في العديد من المجلات السينمائية المتخصصة. ومن خلال مقالاته السينمائية المكتوبة، وولعه بالفنون الموسيقية والتشكيلية، ازداد شغفه بالفن السابع، فدرس في المعهد التجريبي السينمائي، وساهم في كتابة سيناريو فيلم "عودة قبطان" (لربرتواروسيليني)، وعمل ككاتب سيناريو، ثم مساعداً للإخراج في العديد من شركات الإنتاج، حتى إن شركة (سكاليرا) أرسلته إلى فرنسا ليعمل مساعداً للمخرج الفرنسي الشهير (رينيه كارينه) في فيلمه "زوار المساء" عام 1942م. ومن خلال تداخل هذه الفنون والآداب يولد الفيلم، كما تولد القصيدة عند الشاعر، يؤكد (مايكل أنجلو): "لا أريد أن أتظاهر بأني شاعر، ولكني أرغب في إجراء قياس على الشعر.. يتأثر الذهن بكلمات وصور ومفاهيم، تختلط وتنصهر معاً لتشكل شعراً، وهذا ما يحدث للفيلم عند ولادته. فكل ما نقرأه ونسمعه، ونفكر به ونراه، ينطبع على ذاكرتنا بشكل صور محسوسة، وتولد القصص السينمائية من هذه الصور المتراكمة".

العودة إلى روما

بعد تجربته السينمائية الناجحة في باريس، تكرست لدى المخرج الشاب رؤيته الإخراجية الخاصة. عاد إلى إيطاليا ليخرج فيلمه التسجيلي الأول "سكان سهل البوا"، والذي لم يكتمل إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. والفيلم عودة إلى البيئة الجغرافية للمخرج، حيث ركز الفيلم على الشخصيات التي عرفها المخرج، وتعاطف بشدة مع مشاكل سكان مدينته. وفي العام 1950م أخرج أول أفلامه الروائية "حكاية قصة حب"، تعرض فيها إلى مواضع تكررت مراراً في مجموعة أفلامه اللاحقة، وهي مواضيع تطرح تساؤلات متعددة، حول منظمة القيم الأخلاقية في المجتمع البرجوازي الإيطالي المعاصر؟
 

سطوع نجم سينمائي جديد

في العام 1960م أخرج فيلمه "المغامرة"، والعام 1961م أخرج فيلم "الليلة"، وفيلم "الكسوف" عام 1962م. ثلاثة أفلام مهمة كشفت عن نجم سينمائي واعد في السينما الإيطالية.

ومنذ بداية منتصف الستينيات تبنى (مايكل أنجلو) أفكاراً أكثر تطوراً وطموحاً، في التعريف بثقافات الشعوب الأخرى. فبعد فيلمه "انفجار" الذي صور في لندن عام 1966م، صور فيلمه "نقطة زايريسكي" في هوليود بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1970م. وفي العام 1972م أكمل تصوير فيلمه " تشونغ كيو"، وهو فيلم تسجيلي عن الحياة في المجتمع الصيني الفيلم كان من إنتاج التلفزيون الإيطالي الرسمي. وفي العام 1974م صور فيلمه العالمي الكبير "المسافر" في كل من إسبانيا وإفريقيا... كما صور في ألمانيا. وحول هذا التنوع في أماكن التصوير يقول (مايكل أنجلو):
"لقد جعلت العالم كله وطني؛ لأن إيطاليا كانت لا تستطيع استيعاب كل جنوني السينمائي".

وفي الحقيقية كانت هنالك أيضاً أسباب سياسية واقتصادية، جعلت العديد من المخرجين العالميين يختار العديد من الدول، من أجل تصوير أفلامهم الكبيرة، والتي اكتسبت بذلك بعداً عالمياً.

من الواقعية الجديدة إلى الحقيقة الواقعة

يعتقد المخرج السينمائي المفكر، بأن لطريقتنا في العيش خصوصية كبيرة؛ وأنه بات علينا أن نواجه الحياة بالمعيار الحقيقي. وهذا المعيار، هو الذي يشكل أساس الواقعية الإيطالية الجديدة، بمعانيه الأوسع والأعمق.

إن صناعة عمل فني حسب رأي (مايكل أنجلو) لا يعني أن تبتكر أشياء من لا شيء، بل أن تعيد صناعة التعبير عما هو قائم فعلاً وما هو حقيقي. في السنوات التالية للحرب المليئة بالأحداث المرعبة بالقلق والخوف، والتشاؤم وضبابية مستقبل العالم. لم يكن من الممكن أن تتحدث السينما عن أي شيء آخر غير هذا، في سياقات مختلفة، اجماعية، ونفسية، وفكرية.. لأنه يستحيل على أية رؤية سينمائية للعالم أن تستند فقط إلى المعيار الفردي. وعليه فإن استمرار النمو البشري بنفس المعدل الحالي، خلال القرن القادم من وجهة نظر (مايكل أنجلو) من المرجح أن تحدث كارثة وبائية، أو ذرية لنسف الجنس البشري. ستتوقف الأرض عن الوجود يوماً ما، ولا نعرف متى ستحرقها الشمس، أو ستتجمد المياه من شدة البرودة، حين تغيب الشمس الدافئة عن الوجود.. ويضيف (مايكل أنجلو): "يمكننا أن نتخيل تحولات أكثر جذرية، كتبدل في شكل ووظائف الأعضاء، أو تغير في نموذج السلوك الإنساني. لقد أصبح الإنسان الآن غير مبال لما يقع لإخوانه البشر.. هذه هي الأسئلة التي يجب أن نبقيها في أذهاننا اليوم، حين نعمل في صناعة الفيلم".

سينما الأمس..

لقد جاءت الحرب العالمية الثانية، وكان جيل المخرجين الذين عايشوا هذه الحرب شهوداً على الكثير من حوادث العنف والجنون... وترسخت هذه الحوادث أيضاً في عقول البشرية، وإنتاجات المبدعين والفنانين والأدباء... فتحولت إلى أفلام سينمائية درامية ووثائقية شهيرة، وخصوصاً في مرحلة ما بعد الحرب، مثلت نموذجاً كلاسيكياً للواقعية الجديدة في مرحلة ما بعد الحرب، في السينما الأوروبية وعلى وجه الخصوص السينما الإيطالية، التي بقيت ملتزمة فترة طويلة من الزمن بشكل واحد من أشكال الواقعية الجديدة. وبذلك ابتعدت سينما الواقعية الجديدة في إيطاليا عن القاعدة الفلسفية التي حاولت الواقعية الجديدة في أوروبا تطبيقها –الواقع هو الحقيقي، والحقيقي هو الواقع- فالحقيقي هنا هو دائماً الأكثر حقيقية، والواقع هو الأكثر واقعية.. فخبئت الكاميرا، وطافت الشوارع لتلتقط أكثر مظاهر الحقيقة خفاء، وتم إغفال العديد من المفاهيم السينمائية والجمالية، التي لقنت في المعاهد السينمائية الأكاديمية، في رغبة جامحة، بالتفوق على النظرية بالحقائق والأفلام. ولقد حققت هذه الأفلام حسب المخرج العالمي (مايكل أنجلو) نجاحات كبيرة، خاصة وأن واقع ما بعد الحرب، كان استثنائياً ومليئاً بالتناقضات، واقع لم يكن بالإمكان تجاهله.
 

احتفالية الألوان في فيلم الصحراء الحمراء

يذكر المخرج الكبير (مايكل أنجلو) بخصوص استخدامه للألوان في فيلم الصحراء الحمراء، وقد حاول الخروج عن تقليد استخدام اللون الأبيض والأسود في السينما؛ بأنه كان يعتقد ولفترة قريبة من إخراج فيلم الصحراء الحمراء؛ بأن اللون الأبيض والأسود طريقة مناسبة في تفسير أحداث الحياة المليئة بالشؤم، حيث ظل العديد من المخرجين السينمائيين الكبار (برغمان ودارير، وفيلليني ورينه وغيرهم..) مخلصين للون الأبيض والأسود في مسارهم المهني السينمائي ولمدة طويلة من الزمن. ومن الواضح بأن الألوان في حياتنا المعاصرة، أصبحت لها معنى ووظائف ودلالات، كشفت عنها العلوم الاجتماعية، والدراسات الثقافية للشعوب والأمم.

في فيلم الصحراء الحمراء تتمثل احتفالية الألوان على اعتبار اللون عنصر دلالي على مختلف المستويات الشكلية، والجمالية، والدرامية، والايدلوجية.

بالرغم من أن مايكل توجس الخوف والقلق من هذه الاحتفالية؛ لأنه يعتقد بأن تجربة استخدام الألوان في السينما بشكل عام كانت تجربة مرعبة: "إن مشكلة اللون في السينما مشكلة قائمة بذاتها، فكثيراً ما يعتبر اللون شيئاً إضافياً، أو حتى هامشياً حين لا نكون معتادين على النظر إليه باعتباره جزءاً من صلب الفيلم. لقد اعتاد المخرجون قراءة النصوص بالأبيض والأسود حتى إن كتاب السيناريو غالباً ما يكتبون نصوصهم من دون الانتباه إلى قوة اللون ودلالته، ويتحول السيناريو تلقائياً إلى فيلم بالأبيض والأسود".
 

سينما الغد

لطالما اشتكى المخرج مايكل أنجلو من السينما التقليدية: "إنه لمن المضحك أننا ما زلنا نستخدم الكاميرا العادية التي استخدمناها قبل ثلاثين عاماً، ونصور كل تلك الأمتار من الشرائط السينمائية الخام، لنعرض الواقع بشكل يتوافق مع رغباتنا عن طريق التركيب... نحن لا نستطيع أن نسيطر على الألوان تماماً، أو أن نستخدمها كما يستخدمها الرسامون". لقد أدرك مايكل تمام الإدراك وهو المخرج الذي شجع استخدام التقنيات الحديثة للتعبير عن الواقع. بأن السينما المعاصرة اليوم تتجه إلى استبدال الكاميرا السينمائية التقليدية بكاميرا الفيديو الشريط الممغنط، ويمكنك ضبط الألوان بشكل إلكتروني.. فلم تعد الصورة التقليدية قادرة على عكس صورة العالم. وبإمكاننا القول بأن الصورة المثالية للعالم هي تلك التي تتطابق تماماً مع عالم يجب إلغاؤه كصورة؛ لأن صورة تعطي شكلاً للعالم لم تعد موجودة، فالعالم لم يعد قابلاً لأن يعطي عنه صورة إلا بشكل تقريبي، هنالك حاجة على ما أعتقد للبدء من الصفر لأن نجرب طرقاً جديدة لتمثيل العالم المتحول من الأنماط التقليدية في الحياة والعيش إلى أنماط حداثية من خلال مسايرة التطورات التكنلوجية في مختلف الميادين، ومنها السينمائية بطبيعة الحال.

إن العمل السينمائي والتلفزيوني -حسب المخرج أنجلو- يبدوا الآن كلعبة.. نحن أمام لوحة مليئة بالأزار ما عليك سوى الضغط على زر تصحيح الألوان أو زيادة الإضاءة. كما يمكنك أن تحصل على إمكانيات تقنية لا يمكن الحصول عليها في السينما التقليدية، وسرعان ما تدرك أن الأمر ليس لعبة، بل عالم جديد للسينما المعاصرة، وكذلك بالنسبة للتلفزيون الذي أصبح جهازاً تقنياً بامتياز.

لو استطعت لوضعت الكاميرا إلى جانبي حتى عندما أكون نائماً، لتسجل ما حدث أثناء غيابي عن الحياة، أو ما يحدث لي أثناء نومي.

لم أفكر أبداً في تصنيف ما أعتبره دائماً ضرورة؛ أي مراقبة ووصف الأفكار والمشاعر التي تدفع الإنسان في مسيرته للسعادة أو للموت. ولم أعد أهتم بإدخال قضايا في أفلامي، أنا بكل بساطة أحاول أن أخبر، أو على وجه الدقة أن أظهر بعض تقلبات الحياة التي تجري، آملاً أن تحظى باهتمام المشاهد، بغض النظر عن مدى المرارة التي قد تكشف عنها. الحياة ليست دائماً هينة، وعلى الإنسان أن يتحلى بالشجاعة للنظر إليها من كافة جوانبها.. أفلامي تعرض الحياة وجهاً لوحهٍ.

في محاولة إيجاد طبيعة الاختلاف بين كتابة الرواية وصناعة الفيلم يقول "فلوبير: إن مهنتي ليست العيش؛ وإنما الكتابة"، ليؤكد أن السينما هي مهنة العيش، حين أصور فيلماً فإن حياتي الشخصية لا تتوقف بل تصبح أكثر كثافة؛ إنها طريقة في المساهمة بصنع إرثنا الشخصي، وعندما سيعرض الفيلم على الجمهور تتحول الانعكاسات الشخصية للمخرج من الذاتي إلى العام. إن التعرض لضعف المشاعر الإنسانية في العمل الأدبي والفني، هو نوع من الاغتراب لمأساة الوجود الإنساني. والعديد منا لا يدركون بأن للاغتراب عدة أشكال، هناك الاغتراب الذي تحدث عنه (ماركس)، والذي تحدث عنه (فرويد)، واغتراب (هيكل)، واغتراب (بريشت). وكذلك بالنسبة لـ(مايكل أنجلو)؛ فإن الاغتراب لديه ليس مقالة أدبية، وعلينا السعي للبرهنة على أفكارها. كل ما أريده هو "أن أحكي قصة ويأتي المعنى في ما بعد، في نهاية الفيلم، أو في نهاية الحياة..". إما أن تتكيف أو أن تموت.. وهذا هو موضوع فيلم "الصحراء الحمراء"، صحيح أن الإنسان الآن يتكيف مع السيارات، وتلوث الجو... ولا بد من آثار نفسية لعملية التكيف هذه.. أعتقد أن أقرب شخصيات إلي هي شخصية الصحفي في فيلم "المسافر"، فأفلام هيليست ليست أفلاماً سينمائية وحسب، بل هي فصول من حياتي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها