في خضم الحروب المدمرة التي تندلع بين الفينة والأخرى في مناطق مختلفة من الكرة الأرضية، وتخلف الدمار والموت والخراب، نتذكر شهادة شاعر فرنسي معاصر، أبدع في التنديد بالحرب من خلال نص شعري لطيف، ما زال يمتلك راهنيته وقدرته على التوعية بمخاطر الحروب واستنكارها.

◄ جاك بريفير
جاك بريفير “Jacques Prévert” شاعر فرنسي شهير ولد في ضاحية باريس في 4 فبراير سنة 1900، لأب يواكب الحياة الثقافة والفنية، وأم تمارس التجارة وتعشق القراءة، وعاش في باريس ومقاطعة بريتايني، لم يحصل على تعليم عال، لكنه تعلم من الحياة والشارع ما لم يتعلمه بين جدران المدرسة التي غادرها مبكراً، ليبدأ حياته بائعاً في شارع رين في باريس، وبعد أداء الخدمة العسكرية، عاد إلى باريز عام 1922 لاستئناف حياته وممارسة مهنه البسيطة، ومواكبة الحركات الثورية السياسية والثقافية والاجتماعية، والاشتراك في الفعاليات الثقافية والفنية، حيث انضم إلى الحركة السريالية، التي كانت تجمع عدداً من الشعراء والفنانين، وبعد حل الحركة عام 1930، اتجه إلى تلحين عدد من قصائده وأغانيه مع الملحن جوزف كوزما فحققت انتشاراً واسعاً، لموضوعاتها القريبة من هموم الناس، ولغتها البسيطة، وإيقاعها الخفيف، ثم انصرف بعد ذلك إلى تأليف المسرحيات الشعبية والكتابة للسينما، لكنّه لم ينقطع عن كتابة الشعر طوال هذه المدة.
عبّر الشاعر في قصائده وأغانيه، وفي مسرحياته وأفلامه، عن مواقفه الاجتماعية، فتغنى بالحياة والطفولة والمحبة والسعادة، وتعاطف مع الفقراء والمهمشين وضحايا الحروب. كان شاعراً حراً متحرراً، اختار لتعبيره لغة شعرية بسيطة، واللعب بالكلمات، فوظف تكرار الكلمات، والترادف واختلاف المعاني، وتحرر من صرامة القواعد، فجاءت نصوصه سهلة الحفظ والترديد والانتشار، وعُدَّ من أعظم شعراء القرن العشرين. توفي في الحادي عشر من نيسان سنة 1977.
كان بريفير شاهداً على الدمار والتقتيل الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، وفي ديوانه الشهير "كلمات" الذي صدر عام 1946، عدة قصائد تشهد بذلك. ولعل أهمها قصيدته الشهيرة "باربارا" التي يتحدث فيها بأسى شديد، وأسلوب مبتكر عن قصف مدينة "بريست" الفرنسية وتدميرها خلال هذه الحرب.

◄ قصيدة باربارا
تتكون القصيدة من 58 سطرًا. كسائر قصائده، التي يعبر فيها عن ميله للحرية الشعرية، فالقوافي غير منتظمة، وعلامات الترقيم غائبة، ما يضمن له حرية التصرف في الأسلوب والتكرارات، والتحكم في إيقاع النص. ما جعل قصائده أقرب إلى كلمات الأغاني الشعبية، ويسر تلحينها وإنشادها.
عنوان القصيدة "باربارا" اسم شابة التقاها الشاعر في يوم ممطر بشارع "سيام" في مدينة "بريست" في أقصى الشمال الشرقي لفرنسا، تطل بمينائها على المحيط الأطلسي.
يمكن تقسيم القصيدة إلى قسمين، الأول من ستة وثلاثين سطراً يتوجه فيه الشاعر إلى "باربارا"، يذكرها باليوم المطير الذي شاهدها فيه، ولقائها بحبيبها، وفي القسم الثاني من خلال الأسطر المتبقية، يغير نبرة الخطاب وأسلوب النداء، ليتحدث بأسى عميق، عن القصف الجوي خلال الحرب العالمية الثانية، الذي أمطر المدينة بكم هائل من القنابل ودمرها.
تبدأ القصيدة باستدعاء الذكريات، يستدعي الشاعر ذكرى لقائه بالفتاة، في يوم مطير، ويدعوها لتذكر ذلك:
"كانت تمطر بلا انقطاع على بريست ذلك اليوم
وكنتِ تمشين باسمة
مُتفتّحة، مبتهجة، مبتلة
تحت المطر
تذكري باربارا
كانت تمطر من دون توقف في برست
وأنا لاقيتك في شارع "سيام"
كنت تبتسمين
وأنا كنت أبتسم أيضاً"
وبمودة وألفة، وبدون كلفة يكلمها بضمير المخاطب، ويمجد لحظة من السعادة لمحها بينها وبين الرجل الذي انضمت إليه. يستحضر المعالم والأماكن المألوفة في المدينة، والراسخة في الحياة اليومية لسكانها.
باربرا، بابتسامتها وبشاشتها، وإطلالتها الجميلة تمثل المرأة بشكل عام، كانت تسير باسمة، متفتحة، فرحة مبللة بالمطر. حتى لمحت صديقها الذي ناداها، فأسرعت نحوه، وارتمت في أحضانه. يذكرها الشاعر بهذا اللقاء الرومانسي في اليوم المطير. ويعتذر عن جرأته بتوجيه الكلام إليها بتلقائية وبدون كلفة، مثل كل الذين يحبهم، أو كل الذين يتحابون، حتى لو لم يعرفهم.
"تذكري
تذكري مهما يكن ذلك اليوم
لا تنسي
كان ثمة رجل يحتمي تحت سقيفة من المطر
وصاح باسمك بابارا
وركضت إليه تحت المطر
مبتلة، مبتهجة، متفتحة
ثم ارتميت بين ذراعيه
...
تذكري ذلك باربرا
لا تغتاظي إذا رفعت الكلفة بيننا
فأنا أفعل ذلك مع كلّ من أحبّ
حتى ولو أنني رأيتهم مرة واحدة
أفعل ذلك مع كل العشاق
حتى ولو أنني لا أعرفهم"
يصر على أهمية هذا الحدث بتكرار خطاب التذكير "تذكري يا باربارا" عدة مرات في القصيدة، حتى لا تنسى اللحظة السعيدة، التي انهمرت فيها قطرات المطر اللطيفة على وجهها البشوش، وعلى المدينة السعيدة، وعلى البحر، فالسماء شملت العالم بكرمها ومطرها، ولم تستثن شيئاً، حتى مستودع السلاح، ومراكب البحر. فصورة المطر هي تعبير عن السعادة وتمثيل لتطهير القلوب والمدينة.
في القسم الثاني تعرف القصيدة تحولًا جذرياً، وتتغير النغمة والإيقاع، وتغيب الألفة التي طبعت لغته، ويتكسر الأسلوب الشعري للقسم الأول. فبدل سؤال باربارا هل تتذكر اليوم الممطر في بريست، يستعمل الشاعر أسلوب الندبة والأسى، "آه يا باربارا"، التي يكررها في هذا القسم، ويطلق صرخته المدوية التي ينعت فيها الحرب بالقذارة والبذاءة. ويتبعها بأسئلته المعبرة عن قلقه على مصير العاشقين اللذين لمحهما، باربارا وصديقها.
"آهٍ باربرا
يا لها من حرب قذرة
ماذا حل بك الآن
تحت هذا الوابل من الحديد
من نار فولاذ ومن دم
والذي كان يضمك بين أحضانه بمحبة
هل مات وغاب، أم لا يزال حيّاً"
الشاعر يرفض الحرب التي تدمر المحبة والصفاء، فعبر عن إدانته لها بطريقة مبتكرة وغير مسبوقة، عاطفية وقوية التأثير وبليغة، فحول بذكاء مشهداً واحداً هو المطر المنهمر من السماء، المرتبط بالسعادة والمحبة، إلى انهمار القنابل، وما يرتبط به من موت وتدمير وخراب. يزرع اليأس والحزن، ويفرق بين المحبين ويفجعهم، فعبر عن إدانته للحرب بشكل بليغ وعاطفي مؤثر. فالعاصفة المحملة بالمطر الذي يطهر المدينة والقلوب، أصبحت محملة بالحديد والنار والدم في القسم الثاني، والسحب التي كانت ترتبط بالخصب والخير والسعادة، حلت محلها سحب مثل كلاب نتنة، تدنس المدينة وتدمرها وتمحو طهرها.
"آه باربرا
إنها تمطر باستمرار على بريست
كما كانت تمطر من قبل
لكن ليس كما قبل، فكل شيء تالف
إنها أمطار الحداد الرهيب المدمرة
إنها لم تعد بعد الآن عاصفة
الحديد، الفولاذ، الدم
فقط مجرد غيوم
تنفق ككلاب
كلاب تجرفها
مجاري المياه في بريست
سرعان ما ستتعفن بعيداً
هنالك بعيداً جداً عن بريست
التي لم يتبق منها شيء".
تنتهي القصيدة بعبارة دالة على يأس كبير يغمر الشاعر، يدل على انتصار الموت والدمار على المحبة والحياة، فبعد تساؤله المقلق عن مصير بارابارا وصديقها، وبعد وصف سحاب عاصفة الحرب القذرة بالكلاب التي تنفق بعيداً، وتتعفن، يظل الخراب هو المهيمن، اللاشيء هو الصورة الباقية لبريست. وهي الصورة نفسها التي تتكرر اليوم في مناطق أخرى في أوروبا ذاتها.
◄ التنديد بالحرب
إن التنديد بالحرب، خطاب سياسي، يكاد يكون حكراً على رجال السياسة والإعلام، ما يجعل خطابهم مستهلكاً، قليل الفعالية، لا يثق فيه الناس، لكن الشاعر ندد بها، بخطاب عاطفي، بلغة بسيطة، شعبية، قريبة من اللغة المتداولة، بتعابير مؤثرة في المشاعر الإنسانية، مثيرة للوجدان، متلاعباً بأسرار اللغة، والإيقاع، والتكرار، ما أضفى على النص التنديدي سهولة وصفاء ووضوحاً، وقوة تأثير، رابطاً بذكاء بين القصف الجوي والمطر، فإذا كانت السماء تحنو على الإنسان بالمطر الخصب، ليكون وجه الأرض جميلاً ومنعشاً، فإنّ مطر الحروب والقصف الجوي، لا يكون إلاَّ فولاذاً ليعمّ الجوع والخراب على وجه البسيطة، فالشاعر يستنكر الحرب التي تجعل الكراهية تحل محل المحبة، والموت محل الحياة، والدماء محل البناء.