أمي التي لا تبكي!

محمود مصطفى حلمي

مات أبي وأنا في العاشرة من عمري، كنت وحيداً ليس لي إخوة أو أخوات، يومها بكيت بشدة، لكن أمي نهرتي بعنف لبكائي.. لم تبكِ هي ولم تُرد لي البكاء، كانت ترى البكاء ضعفاً، ولا تحب أن يكون ابنها الوحيد ضعيفاً.

لم يكن لي في الحياة بعد أبي سوى أمي، كانت لي كل شيء، كانت سندي، معلمتي، بل كل حياتي، كانت أمي امرأة قوية، كجبل راسخ أمام كل العواصف، تمنّعت في وجه كل من حاولوا الزواج بها بعد أبي، بل كانت أشد صلابة في وجه متاعب الحياة، وفي وجه الحاجة التي واجهتنا بعدما صرنا دون عائل، لكنها لم تنحن قط أمام تلك الصعاب، لم أسمعها يوماً تشتكي من شيء رغم الكثير من المتاعب التي كانت تستحق الشكوى، كانت ابتسامتها لا تفارق وجهها أبداً حين تنظر إلي، كانت تريح قلبي بتلك الابتسامة، وتغمرني حناناً حين تلف ذراعيها حولي لتحتضنني، كانت أمي لا تبكي أبداً.

بالفعل لم أراها تبكي يوماً، كانت قوية أمامي، عصية على الخضوع لنوائب الدهر، تنقلتْ بين الكثير من الأعمال التي لم يكن معظمها مناسباً لها، لكنها لم تستسلم يوماً، حين كان يضيق بنا الحال كانت تبتسم في وجهي، وتقول كلمتها التي لم تكف عن قولها يوماً (ستفرج قريباً يا آدم)، وبالفعل كان الفرج يأتي من حيث لا نحتسب، لم أعلم يقيناً في الله مثل الذي كان يملأ قلب أمي، ولم أرَ من يتوكل على الله حق التوكل مثلما رأيت أمي، كانت عينا أمي لا تدمع أبداً.

ربما يعتقد الكثيرون أن البكاء ضعف، وهي لم تشأ أن أراها ضعيفة يوماً ما، فلا يمكن لمن أستمد منه قوتي في الحياة أن يكون ضعيفاً، بالفعل كانت قوية وصرتُ أنا مثلها، لم أبكِ أبداً، كانت الدموع بالنسبة إلي رمزاً للضعف والحاجة، وأنا لم أكن ضعيفاً، أو ربما لم أرد أن أكون، وكذلك لم أشعر بالحاجة يوماً لأن أمي اجتهدت ألا أشعر بذلك، لذا كنت قوياً ولم أحتج إلى شيء، بل الأحرى أنني كنت لا أطلب حتى لو شعرت بالحاجة، عشت مع أمي حياة لا تعرف الدموع طريقها، لم تسل الدموع في بيتنا يوماً، لم أبك أنا ولم تبك هي، فأمي كانت لا تبك أبداً.

يوماً ما وقع لي حادث، صدمتني سيارة أثناء عودتي من المدرسة، عندما علمت أمي هرعت إليّ في المستشفى التي نقلوني إليه، تسببت الإصابة في جرح مشى منه الكثير من الدماء، طلب الأطباء متبرعاً بالدم ولم يكن هناك ليتبرع لي سوى أمي، جلست قبالتي وأوصل الأطباء بذراعها خرطوماً لسحب الدماء، كنت ما زلت واعياً ورأيتُ وجهها وهي تنظر نحوي، رغم الحادث ورغم الألم، ورغم الدماء المفقودة لم تكن أمي تبكي، بل كانت تنظر نحوي بابتسامة جامدة، ولم أكن أدرك هل هي ابتسامة حقاً أم وضع ثبات انحبست فيه عضلات وجهها، لكن أمي لم تبك حينها، فأمي لم تبك أبداً.

حين كبرتُ وفرعت قامتي كنت أرى نظرات الإعجاب في عيني أمي، كانت تمطرني بنظرات لا أستطيع وصف ما بها من حنان، لكن الأبرز فيها أنها كانت تنظر إلي باطمئنان، كانت تراني قوياً لم أعرف البكاء يوماً صغيراً أم كبيراً، لم أنسَ كلمتها المعتادة (إياك أن تبكي يا آدم، فالبكاء طريق الضعف والضعف طريق الانهيار، والانهيار هاوية لا صعود منها).

ولم أشأ أنا أو أمي أن يعرف الانهيار يوماً طريقه إلى نفوسنا.

حين أقبلتُ على الزواج توقعتُ أن تبكي أمي، فكل القوانين الثابتة عند الأم قد تتغير حين ترى ابنها في حضن امرأة أخرى، لكن أمي كعادتها لم تسمح لقانونها أن يتغير يوماً، فقط ابتسمت وضحكت، حتى ما يسمى بدموع الفرح لم ألاحظها في عيني أمي، فالدموع أياً كان سببها غير مسموح بها لديها.

حين بلغت أمي المشيب أنهك المرض جسدها حتى أرقدها على فراش الموت، لم تشتك أمي يوماً من التعب الذي كان يبدو عليها بوضوح، كعادتها كانت ابتسامتها التي لم تتغير قط مرسومة على وجهها، واجهت الموت بثباتها المعهود، في لحظتها الأخيرة أطبقت بيديها على يدي وأوصتني خيراً بزوجتي وأبنائي، رحلت أمي دون أن أرى الدمع في عينيها أو الضعف بين قسمات وجهها، رحلت أمي دون أن أراها تبكي أبداً.

بعد عدة أسابيع من رحيل أمي عثرت زوجتي على عدة أوراق في صوان غرفتها وأعطتها لي، كان بها بعض الخواطر أشبه بمذكرات بخط أمي، بدأت أقرأها، كانت تقص فيها كل ما حدث في حياتها منذ رحل أبي، قرأت في بعض صفحاتها تلك الكلمات على لسان أمي.

"اليوم مات زوجي، مات سندي ورفيقي في الحياة، لم يتبق لي سوى آدم ولدي، أصبح هو كل حياتي الآن، أشعر بالضعف الشديد يهاجمني، أجد الخوار يتسرب إلى قلبي، لكني لن أظهر ضعيفة أبداً أمام آدم، اليوم منعته من البكاء أو الصراخ، تظاهرت أمامه بالقوة رغم انهياري من الداخل، لكني أريده قوياً ولن أسمح للضعف أن يعرف لقلبه طريقاً أبداً، ربما قد منعته من البكاء وتمنّعت أمامه، لكني الآن بغرفتي أبكي، أبكي بشدة حتى يكاد البكاء يقطع حلقي، أحاول وضع الوسادة فوق وجهي حتى لا يخرج صوت البكاء ويفضحني، ليس لي سوى البكاء الآن بديلاً عن الانفجار".

"اليوم طلب مني آدم مالاً ليشتري لعبة أعجبته، ولم يكن معي من المال ما يكفي، كان الأمر قاسياً على نفسي كثيراً، تفطر قلبي بشدة فلا توجد أم تستطيع تحمل رؤية ابنها في تلك الحاجة وهي عاجزة عن تحقيق رغبته، كعادتي تصنعتُ القوة أمامه، أخبرته أن الفرج قادم، أخبرته أن الحاجة ليست عيباً، لم أبك ومنعته أيضاً من البكاء، وحين انفردتُ بنفسي تفجرت أنهار الدموع من عيني، لو كانت الحاجة بشراً لتربصت به لأقتله بل كنتُ سأمزقه إرباً، كنت ضعيفة جداً في تلك اللحظة، وعاهدت صغيري أثناء تفقدي له وهو نائم أنني سأبذل قصارى جهدي حتى لا يحتاج لشيء مهما حدث، وحينما خلوت بنفسي فتحتُ باب حلقي للبكاء الذي كان يطرق عليه بشدة حتى كاد أن يحطمه، آمل أن يريحني البكاء منفردة قليلاً مما أعانيه".

"اليوم وقع حادث أليم لآدم، صدمته سيارة أثناء عودته من المدرسة، حين علمت الخبر أحسستُ بخدر طال كل أعضاء جسدي، للحظات كنتُ في حالة شلل تام عن الحركة، لكن الله أعطاني القوة لأهرع إلى المستشفى التي نقلوه إليها، طيلة الطريق لم تجف دموعي، ولم يهدأ صوت نشيجي، حين اقتربتُ من مكانه جففت دموعي، وبدلت ملامح وجهي لابتسامتي التي اعتاد آدم أن يراها مرسومة على وجهي، حين رأيته في تلك الحال تفطّر قلبي بشدة، كيف لأم أن ترى ابنها جريحاً ولا تبكي، تباً لتلك القوة المزعومة، لكني استطعتُ أخيراً أن أتمالك نفسي، ولم أُخيّب اعتياد آدم في قوة مواجهتي، لكني كنتُ كلما خرجت من غرفته أو ذهبت إلى الحمام أُطلق العنان للبكاء حتى يسير قطارة بأقصى سرعته، علّه يريح بعضاً من ألم فؤادي".

"اليوم تزوج آدم، وأيّ فرحة تلك حين رأيت ولدي الوحيد وبجواره عروسه في الفستان الأبيض الناصع، أخيراً صار آدم زوجاً، ربما أغار من تلك الحسناء التي تعلق بها قلبة، فتلك فطرة الأمهات، لكن فرحي يغلب غيرتي بكثير، الآن أريد أن أبكي أيضاً، ربما فقط لفرحتي بزواج آدم، في النهاية أنا امرأة، البكاء هو وسيلتي في الدفاع وفي الهجوم، في التعبير عن الفرح والحزن والرغبة والرفض، والغضب وكل شيء، تمنعتُ كعادتي من البكاء أمامه لكني الآن في غرفتي أمسك بصورته وأبكي بشدة، كبر آدم أخيراً وصار زوجاً، ربيته ليكون رجلاً وزوجاً قوياً لا يعرف الضعف يوماً، ولا يجد البكاء طريقه إليه أبداً، أعلم أن البكاء ليس عيباً أو درباً من الضعف، ربما لم أشعر بالراحة يوماً إلا عندما كنتُ أبكي بكثرة، لكني كنت مضطرة لأن أغرس عكس ذلك في آدم، هذا اليتيم الذي لو كان بكى يوماً لرأى رماح الدنيا تصوب نحو حلقه ليصمت عن البكاء أو ليذهب بعيداً ويبكي وحيداً، لم أكن إلا أماً تربي يتيمها ليصير قوياً في مواجه تلك الحياة، الآن صار اليتيم كبيراً وزوجاً قوياً بما يكفي ليواجه كل صعب فيها، والآن أنا أبكي بحرية فرحاً بما استطعتُ فعله رغم الحواجز التي واجهتني".

بعدما انتهيتُ من قراءة كلمات أمي شعرتُ بقلبي ينتفض بقوة داخل سياج صدري، كيف استطاعت أمي أن تعيش أمامي كل تلك السنين، بعينين جامدتين وشفتين مبتسمتين، وفي الخفاء تطلق عينيها لتسيل الدموع منها، وتفتح حلقها ليُخرِج أنواع النشيج كلها، سكتُ للحظات أفكر وأتذكر كل مواقف أمي التي تصنعت فيها القوة أمامي على عكس ما كان داخل قلبها، كانت امرأة حديدية بالفعل، لكني الآن متحير بين ما ربتني وصرت عليه، وبين الخفاء الذي كان وراء الكواليس، اعتقدتُ أن عيني قد جفت للأبد ولن تبكي أبداً من فرط ما خاصمت البكاء، ومن شدة يقينها في أن البكاء بالنسبة إليّ كان مُحرماً، الآن وبعد كل ذلك اكتشفتُ أن أمي التي منعتني من البكاء أعواماً كانت تبكي عقوداً خلف الجدران، لكن الأهم الآن أنني إن شعرت بالحاجة إلى البكاء فلن أشعر بالحرج لذلك، بل ربما سأحاول البكاء أمام الجميع دون خجل ولن أفعل مثل أمي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها