ليست كل أرض توقظ في الشاعر نبوءته، كما تفعل مصر.
منذ أزمنة غائرة، كانت أرض الفراعنة أكثر من مجرد موقع جغرافي أو حضارة مندثرة، كانت استدعاءً داخليًا لما يسكن الوعي البشري من توق إلى المعنى والدهشة والبقاء. إنها "الزمان الحجري للحلم"، كما وصفها بعض المتصوفة الأوروبيين، ومسرح الأسرار الذي يختبر فيه الكائن هشاشته أمام الكثافة الزمنية للحجر، أمام صمت أبي الهول، أمام تمثال يرمقنا منذ آلاف السنين وكأنه ينتظر السؤال لا الجواب.

إن راينر ماريا ريلكه، أحد أنبياء الشعر الحديث، لم يكن استثناءً في هذا الانجذاب الغامض. فزيارته إلى مصر عام 1911 لم تكن رحلة سياحية، ولا حتى استكشافية بالمعنى التقليدي، بل كانت –على نحو ما– نداءً داخليًا في لحظة أزمة، وانتقال من شتات روحي إلى محاولة لالتقاط جوهر الكتابة. وكأن الشعر نفسه كان بحاجة إلى امتحان الصمت في مكان مفعم بالصدى.
هذه المقالة تتتبع أثر مصر في وجدان ريلكه، كما عكسته رسائله، وتخمر لاحقًا في قصيدته "مراثي دوينو" و"سونيتات إلى أورفيوس". لكنها تتجاوز أيضًا الشاعر إلى سؤال أكبر: ما الذي يجعل المكان –بعينه– يولد الشعر؟ هل الأمر يتعلق بجغرافيا الضوء؟ بالصمت المكثف؟ بالتاريخ؟ أم أن بعض الأمكنة -كالأشخاص- تُحب الشعراء وتنتظرهم؟
من خلال تتبع سيرة رحلة ريلكه، وتفاصيل نص أدبي عميق ترجمه أحد عشاق الأدب الألماني ممن عرفوا مصر عن قرب، نحاول هنا أن نفكّك العلاقة المعقدة بين الشعر والمكان، بين الرحلة والكتابة، بين الحضور والغياب.
"حُمّى مصر" رحلة عبر الزمن والانبهار:
اجتاحت "حمّى مصر" أوروبا على دفعات متقطعة. من أصيب بها، كان ينجذب بقوة سحرية إلى هذا البلد المفعم بالأسرار والحضارة المذهلة. بدأت أخبار هذه الجاذبية منذ العصور القديمة: فقد قاد الشوق الإسكندر الأكبر إلى واحة سيوة ليستشير العرّاف الشهير، واستمالت الأسطورة مارك أنطونيوس ويوليوس قيصر إلى الإسكندرية حيث كليوباترا الفاتنة، وقصد الإمبراطور هادريان تماثيل ممنون ليسمع منها الغناء السماوي، وغرق رفيقه أنتينوس في مياه النيل، ليعود منها مؤلهاً. أساطير مثيرة، وسحر، وافتتان.
ثم غابت أرض الفراعنة عن وعي الأوروبيين قرونًا طويلة، حتى أعادها نابليون إلى الأذهان في حملته على مصر. حين عُثر عام 1799 على حجر رشيد قرب الإسكندرية، ومع فك رموزه على يد شامبليون عام 1822، فُتحت فجأة نوافذ على أعماق سحيقة من التاريخ الإنساني. وُلد علم جديد بين عشية وضحاها: علم المصريات. فتدفقت جحافل علماء الآثار إلى ضفاف النيل، ليكشفوا عن الكنوز المدفونة. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف تيار المغامرين والمسافرين من الشمال، بل أخذ يعلو وينخفض بحسب الاكتشافات المثيرة أو الأعمال الفنية العظيمة التي غذّت بدورها المخيلة الأوروبية. في النصف الأول من القرن الماضي، تفاعلت المعرفة العلمية والفن بشكل متبادل، حتى بلغا ذروة الحماسة والافتتان.
في فبراير 1914، سافر ماكس سلفوجت إلى مصر، وأنتج خلال أربعين يومًا 21 لوحة زيتية، إلى جانب العديد من الرسوم المائية والاسكتشات – حالة من النشوة الإبداعية. أما باول كلي، فجمع انطباعاته البصرية خلال شتاء 1928/1929 من الإسكندرية والقاهرة والأقصر وأسوان، ليبتكر أعمالاً فنية بدت وكأنها تستدعي روح الفن المصري القديم بأسلوب جديد كليًا.
أما توماس مان، فقد تجلى افتتانه بمصر في رباعيته الروائية الضخمة "يوسف وإخوته"، والتي لم يبدأها إلا بعد أن اختبر شرارته الأولى في فلسطين عام 1925.
حين يُصبح المكان كاتبًا والشاعر مكتوبًا:
قلّما نلتفت إلى دور المكان في تشكيل التجربة الشعرية، ليس بوصفه مجرد خلفية جمالية أو مادة للإلهام، بل بوصفه كيانًا فاعلًا، كائنًا يكتب في الشاعر كما لو كان الكاتب الحقيقي للنص. من هنا تنبع أهمية تتبع أثر الأماكن الكبرى على الشعراء الكبار. ومن بين هؤلاء، يبرز راينر ماريا ريلكه، أحد أعظم شعراء الحداثة الأوروبية، الذي زار مصر عام 1911، فخرج منها بصمت طويل لم يُكسره إلا بعد قرابة عشر سنوات، حين كتب قصيدته "في الكرنك"، التي تُعد من أواخر ما كتب، وواحدة من أكثر قصائده كثافة وغموضًا وأثرًا.
إن زيارة ريلكه إلى مصر ليست مجرد رحلة شاعر أوروبي إلى الشرق، بل تجربة انخطاف داخلي، التحم فيها الجسد بالزمن، والذات بالعدم، والكلمة بالحجر. وقد تكون مصر من بين أماكن قليلة في العالم التي تُجبر الشاعر على الصمت أولًا، لا لأنها تُبهره فقط، بل لأنها تُغيّره. وهذه التغيّرات لا تُكتب مباشرة، بل تنتظر التخمّر، كما تنتظر العروق العميقة نزول المطر في صبر شاقّ.
في هذا المقال، نحاول تأمل هذه العلاقة المركّبة بين الشاعر والمكان، من خلال تحليل قصيدة "في الكرنك"، واستنادًا إلى رسائل ريلكه خلال رحلته. إن ما نبحث عنه ليس "ماذا قال ريلكه عن مصر"، بل: ماذا فعلت مصر بريلكه؟ كيف كتبته؟ وكيف تحولت القصيدة إلى سجل للدهشة، والرهبة، والسكينة، والرسالة؟
الشاعر كعابر طقسيّ: عبور ريلكه في المكان المقدس
حين زار ريلكه مصر، لم يكن مجرد سائح، ولم يتعامل مع معالمها كأطلال، بل كمحطات عبور روحي. وقد وجد في الكرنك، لا موقعًا أثريًا، بل تجربة طقسية، كأن دخول المعبد تكرار لدخول الإنسان في أسرار العالم. لم يكن يزور المعبد بل كان "يُدخَل إليه". وكأن قوى غير مرئية قادته نحو هذه الأعمدة، لا ليشاهدها، بل ليُختبر من خلالها.
في إحدى رسائله، كتب: "إن المعابد لا تريد أن تقول شيئًا، بل تطلب منا أن ننصت. صمتها لا يشبه الفراغ، بل الثِقل. هناك نوع من الوجود لا يُفهم بالكلمات، بل يُعاش".
هذا الصمت هو جوهر القصيدة التي كتبها لاحقًا. لم يكتب ريلكه عن مصر "في حينها"؛ لأنه كان يختبر ما لا يمكن صياغته بعد، ما يحتاج إلى زمن طويل ليأخذ شكل اللغة.
الكرنك: حين يتحول الحجر إلى وحي
في قصيدته "في الكرنك"، يظهر ريلكه وكأنه في حالة اندهاش بدائي. في الافتتاحية، يقول:
"لم أكن يومًا وسط عالم قمري بهذا الشكل… أهذا ممكن؟ أن تتضخم العظمة بداخلي"؟
هذه الأسئلة ليست تعجبًا جماليًا، بل تعبير عن اهتزاز الكينونة. الشاعر لا يرى فقط، بل يشعر أن هناك شيئًا "يتضخم" فيه، كأن دخوله إلى الكرنك فتح فيه حيزًا أكبر مما كان يعرف. الكرنك إذًا ليس معلمًا أثريًا، بل قوة متعالية تتسلل إلى داخله وتوسّعه.
وهنا الجملة المفصلية: "هذا الذي يكتبني". الكرنك هو الذي يكتب ريلكه، لا العكس. العمود الحجري يتحول إلى يد تُمسك بقلم غيبي، وتبدأ في النقش على ذاته. الحجر لا يُقرأ، بل يكتب. والكتابة لا تصدر عن الداخل، بل تُملى عليه. نحن هنا أمام انقلاب في الفعل الشعري نفسه: لم يعد الشاعر هو من يُشكّل القصيدة، بل المكان هو من يُشكّله.
زمن آخر: مصر بوصفها زمنًا لا مكانًا
الكرنك، ككل معابد مصر القديمة، ليس مجرد أثرٍ محفوظ أو بناء حجري شامخ، بل هو كتلة زمنية متجسدة، كيانٌ يجمع بين السكون والحركة، بين ما كان وما لن ينتهي. إنه لا ينتمي إلى اللحظة العابرة، ولا ينخرط في الزمن الخطي الذي تقيسه الساعات والتواريخ، بل ينهض في قلب زمن نوعيّ، متعالٍ، يجعل من الوقوف فيه تجربة وجودية لا زمنية.
حين تطأ قدمك أرض الكرنك، لا تدخل إلى موقع أثري بقدر ما تُسحب إلى داخل زمن آخر، أشبه بالأسطورة. إن جدرانه، وأعمدته، ونقوشه، لا تشهد فقط على "ما مضى"، بل تعيد إنتاجه في كل لحظة. تشعر أن الزمن لا يمضي هنا، بل يدور حول نفسه. كأنك تدخل في لولب أبدي، حيث الماضي لا يُستذكر بل يُستحضر.
هذا هو الفارق الجوهري بين المعمار المصري القديم ونظيره الحديث أو الأوروبي: في المدن الغربية، تُظهر لك المباني مرور الزمن عبر التغيّر، والترميم، والتآكل، والتحديث. أما في مصر، فالحجر يُصِرّ على البقاء، لا لكي يتحدى الزمن فحسب، بل لكي يتحوّل إلى زمن بديل، زمن لا يتحرك بل يسكن فينا.
ولذلك، كان ريلكه محقًا حين قال: "اللامحدود دخل في أبعاد التضحية". فاللامحدود هنا ليس فكرة نظرية، بل حضور مادي، محسوس، محفور في الحجارة. الأعمدة لا تمثل فقط بنية معمارية، بل هي أعمال تضحية مجسدة: تضحيات الكهنة، والبنّائين، والملوك، وعامة الناس الذين منحوا أعمارهم ومهاراتهم وروحهم من أجل بناء شيء لا يفنى، شيء لا يقبل أن يُطوى في الزمن.
إن كل عمود، وكل جدار، وكل ظلٍّ في الكرنك، هو شكل من أشكال الزمن المتجسد، شهادة على أن الإنسان القديم لم يكن يرى في الزمان مجرد عابر، بل كيانًا يمكن نحته وتثبيته. وهو ما جعل من المعابد المصرية، لا أماكن عبادة فقط، بل أدوات لقياس الأبدية.
في هذا السياق، لم يكن ريلكه يرى في الكرنك مجرد موقع أثري ملهم، بل واجه فيه شيئًا يكاد يكون نقيضًا لكل ما اعتاد عليه: فكرة أن للزمن شكلًا، وأن له وزنًا، وأن الإنسان يمكن أن يثبّته في المادة، كما تُثبت الروح في الجسد.
وهكذا، لم تعد القصيدة بالنسبة لريلكه فقط محاولة لالتقاط أثر الزمن، بل وسيلة للمشاركة في هذا الزمن المتعالي. حين كتب "في الكرنك"، لم يكن يصف ما رآه، بل كتب انفعالًا داخليًا أمام قوة حضارية استطاعت أن تُحوّل الزمان إلى حجر، والتاريخ إلى طقسٍ حيّ، لا يزال يهمس حتى الآن.
أبٌ يرسل ابنه: المعنى الأسطوري للرحلة
في قصيدة ريلكه، تتجلى مصر ليس فقط كوجهة جغرافية أو مكانٍ للسياحة الروحية، بل كمرحلة وجودية، كقدرٍ على هيئة أرض، وكمنطقة فاصلة بين الطفولة والرجولة، بين الشك واليقين. ولهذا لا يبدو غريبًا أن يتخيل ريلكه نفسه أبًا يرسل ابنه في "سنة القرار"، تلك السنة الحاسمة، التي لا تعني مجرّد لحظة زمنية بل لحظة انكشاف داخلي:
"لو كان لي ولدٌ، لبعثته في سنة القرار… حيث يسعى كل واحد وراء الحقيقة الواحدة".
إن ما يقترحه ريلكه هنا ليس فقط اقتراحًا شعريًا، بل رؤية أسطورية: أن الرحلة إلى مصر، أو بالأحرى، إلى الكرنك، ليست سفرًا سياحيًا أو فعلًا ثقافيًا، بل شعيرة روحية، بعثة وجودية. فكما يرسل الإله في الأساطير القديمة بطله ليخوض غمار العالم ويواجه تحدياته ويعود بالحكمة، يتصور ريلكه أن مصر هي أرض الابتلاء والتجلّي، حيث يُمتحن الإنسان أمام الحقيقة العارية.
تبدو هذه الصورة مشبعة بروح الميثولوجيا القديمة، حيث الأب لا يرسل ابنه إلى مكانٍ معلوم، بل إلى مصيرٍ مجهول – نوع من الطقس العنيف الذي يعيد صياغة الذات. "سنة القرار" ليست عامًا محددًا بل وقت الانعطاف، الوقت الذي يُطلب فيه من النفس أن تتخلّى عن سذاجتها وتواجه المعنى في أكثر أشكاله جذرية.
تحت هذه العدسة، يتبدى الكرنك كأكثر من معبد: إنه الكهف الأفلاطوني المقلوب، حيث لا يهرب المرء من الظلال إلى النور، بل يدخل الظلال ليُبصر الحقيقة. وهذا ما يجعل فعل "البعث" في القصيدة معادلًا رمزيًا لفعل الحَجّ، لكنه حجٌّ من نوع آخر. فكما يُسافر المريد إلى الأماكن المقدسة ويعيش تجربته الصفاء والتجلي الروحية ويعيد ولادته، يُبعث الابن هنا إلى مصر، ليواجه الأسئلة الكبرى، ويتقشر من أوهامه، ويخرج من حضانة الزمن اليومي إلى فضاء الزمن الكوني.
إن المثير هنا أن ريلكه، في تصويره لهذه الرحلة، لا يتحدث عن ذاته بل عن "ابن مفترض"، كأن الحقيقة، في صورتها المصرية، شديدة العمق والرهبة بحيث لا يجرؤ الشاعر نفسه على خوضها من جديد، لكنه يرى فيها امتحانًا ضروريًا لمن سيأتي بعده. كأن مصر لا تفتح أبوابها لكل قادم، بل تنتظر أولئك المستعدين للتضحية، أولئك الذين بلغوا سنّ القرار.
وهكذا؛ فإن حضور مصر في القصيدة لا يقتصر على دورها كمصدر إلهام ثقافي أو جمالي، بل كمسرح كونيّ للتجربة، كأرضٍ تُرسل إليها الأرواح لتعرف حقيقتها. وتتحول العلاقة بين الأب والابن، في هذا السياق، إلى رمز لعلاقة الروح بذاتها: الروح التي ترسل جزءًا منها، في جسدٍ شاب، إلى أرض الامتحان، على أمل أن يعود، إن عاد، بالحكمة – أو بالحقيقة الواحدة.
الربح الحديث مقابل الثمن القديم:
في مقطع لافت من القصيدة، يكتب ريلكه:
"الناس والبهائم يأخذون الأرباح التي لا يعرفها الإله".
هذا السطر ليس فقط تعبيرًا شعريًا لافتًا، بل اختزال حاد لواحدة من أعمق المفارقات الوجودية التي يؤمن بها ريلكه: التوتر بين منطق العصر الحديث ومنطق القدماء. إنه نقد مزدوج للحداثة، من حيث انفصالها عن القيم الروحية من جهة، ومن حيث ولعها المَرَضي بالمنفعة من جهة أخرى. الإنسان الحديث، في نظر ريلكه، لم يعد يقدّر "الثمن"؛ لأنه لم يعد يؤمن بشيء يستحق أن يُدفع فيه ثمن.
في الحضارات القديمة – ومصر الفرعونية نموذجها الأسمى في القصيدة – لم يكن الإنسان يقدم القرابين ليأخذ مقابلًا، بل ليحفظ توازنًا كونيًا. كانت التضحية جزءًا من علاقة مقدسة مع الوجود، ومع الإله، ومع الزمن. لم يكن هناك ما يُعرف بـ"الربح"؛ لأن الفعل نفسه كان غاية، وكان له طابع شعائري مطلق. العمود الذي يُنحت في المعبد لم يكن هدفه التزيين أو استعراض السلطة، بل المشاركة في بناء عالم رمزي، تكون فيه الحجارة نفسها ناطقة بالقداسة.
أما في العالم الحديث، فكل شيء يُحسب بمقابل. لم تعد هناك تضحية، بل استثمار. حتى العلاقات، وحتى الفنون، وحتى الأديان، يجري تسليعها. والعبارة التي يكتبها ريلكه تصبح، في هذا السياق، نوعًا من النبوءة السوداء: لقد انحدر الإنسان إلى مصاف البهائم، لا لأنه صار حيوانيًا، بل لأنه فقد قدرته على التمييز بين الفعل المجاني والفعل النفعي. صار يقيس كل شيء بالمردود. "الناس والبهائم" يتشاركون في هذا الجهل الجديد: الجهل بالثمن الحقيقي، الجهل بأن القيمة لا تُستمد من الربح بل من المعنى.
وهكذا يبدو أن "الربح الذي لا يعرفه الإله" هو نوع من الأرباح المزيفة، تلك التي لم يباركها الوجود، لأنها لا تمرّ عبر الألم، ولا عبر الانتظار، ولا عبر التضحية. الإله، في شعر ريلكه، ليس كائنًا منفصلًا، بل مقياسًا للمعنى. فإن لم يعرف الإله هذا الربح، فذلك لأنه لا يمتّ بصلة إلى المعنى، بل إلى الفراغ الذي يخلقه الإنسان حين يستبدل الروح بالمصلحة.
ومن هذه الزاوية، يصبح المعبد القديم مرآة للزمن الذي كان يعرف أن كل شيء ثمين لا يُنال بلا ثمن. لم يكن هناك فصل بين الفعل وقيمته، ولا بين الجهد والمعنى. كل حجر رُفع كان يُرفع بنية تتجاوز الفرد، وكان الثمن المدفوع – من وقت وحياة وعرق ومهارة – مقبولًا لأنه يؤدي إلى شكل من أشكال الخلود الرمزي. أما اليوم؛ فإن الربح يأتي بلا جهد، أو على حساب الآخرين، أو على حساب الروح نفسها.
وهنا يكمن ألم ريلكه: إحساسه بأن العالم الذي كان يعرف كيف يقدّم، كيف يضحي، كيف يُسهم في بناء معنى أوسع من الفرد، قد انتهى. وأن العالم الجديد، برغم كل ضجيجه، فقدَ البوصلة الأخلاقية والروحية التي كانت تمنح الأشياء ثقلها. المعبد، إذًا، ليس مكانًا فقط، بل أخلاق. وعندما اختفت تلك الأخلاق، صار الإنسان معاصرًا للربح... وغريبًا عن المعنى.
التمثال الذي يبتسم: الشعر في الصمت
من أجمل صور القصيدة ما يظهر في نهايتها:
"يبتسم للطفل الذي يُقدّم له هدية، ويأخذها، دون أن يفقد نسمة الحياة".
في هذا المشهد الختامي، يصل ريلكه إلى ذروة تأمله الشعري: التمثال، ذلك الكائن الحجري الصامت، يبتسم. لا يضحك، ولا يتحرك، ولا يُصدر صوتًا، لكنه يبتسم. ليس أمام جمهور، بل أمام طفل صغير، يقدم له هدية على سبيل البراءة، لا على سبيل التوقع أو التبادل. والتمثال، بكل ما فيه من صمت وأزلية، يتجاوب. يأخذ الهدية – ولكن دون أن يفقد شيئًا من صفائه، ومن سكونه، ومن طبيعته التي تتجاوز الحياة والموت.
هذه الصورة العميقة تكشف عن جوهر الشعر كما يراه ريلكه: الشعر ليس قولًا صريحًا، بل إدراكًا لما لا يُقال. الشعر الحقيقي، في نظره، لا يصرخ ولا يشرح، بل يهمس داخل التجربة. هو صمت مشبع بالحضور، مثل تمثال حجري يبتسم. الابتسامة هنا غير مرئية، ولكنها محسوسة بكل جوارح الذات. إنها تحدث داخل القارئ، لا على وجه التمثال.
التمثال، وهو رمز الإله، أو الزمن، أو المعنى الأبدي، لا يتكلم. لكنه لا يتجاهل. إنه حاضر، يشارك في الطقس، يتلقى العطاء – ولكن دون أن يساوم، ودون أن يفقد طبيعته المتعالية. هذه القدرة على التفاعل دون أن يتحول، على القبول دون أن يتنازل، هي ما يجعل التمثال، في منظور ريلكه، أكثر إنسانية من الإنسان المعاصر. إنه لا يحتاج إلى إثبات وجوده، لأنه ببساطة هو الوجود ذاته.
وهنا تظهر المفارقة الكبرى التي يصوغها ريلكه: إن الشعر، في أعمق حالاته، ليس فعل نطق، بل فعل إنصات. ليس تعبيرًا عن الذات، بل انفتاحًا على حضور صامت يفوق الذات. إن الشاعر، كالصبي في القصيدة، يقدم هدية إلى المجهول، إلى ما لا يفهمه تمامًا، ويرجو فقط أن تُستقبل بقبول لا يُقال. والتمثال، في رمزيته، هو هذا الآخر الذي لا يُقال عنه شيء، لكنه يشعر بكل شيء. الابتسامة هنا لا تُرى بالعين، بل تُرى بالقلب.
هذا التفاعل بين الحجر والطفل، بين الصمت والعطاء، يلخص تجربة الشعر كما يفهمها ريلكه: لقاء بين الطرفين المختلفين، حيث لا يُفرض معنى، بل يُولد من بين الصمتين. من بين الجمود والحركة، ينشأ الحس. من بين الماضي السحيق (التمثال) والبراءة المستقبلية (الطفل)، تولد لحظة شعرية خالدة، تتجاوز الزمان والمكان.
والأهم من ذلك، أن هذا التمثال الذي يبتسم، لا يُفقد "نسمة الحياة"؛ أي أنه، رغم أزليته، لا يصبح قاسيًا. بل يبقى حيًا، ولطيفًا، ومتجاوبًا، دون أن يتخلى عن طبيعته الصامتة. وهذه، بالنسبة لريلكه، ذروة الوجود: أن تكون صامتًا، ثابتًا، ولكن مشعًا بالحياة. أن تستقبل العطاء لا بالرفض أو المطالبة، بل بابتسامة هادئة، فيها من الشعر ما لا تستطيع القصيدة نفسها أن تقوله.
في هذه الصورة الأخيرة، يختتم ريلكه رحلته مع مصر. ليست رحلة سائح، ولا مجرد وقفة شاعر أمام آثار، بل تجربة وجودية مكتملة. فمصر، كما رسمها ريلكه، ليست مكانًا يرى فيه التمثال، بل مكانًا يشعر فيه التمثال. والابتسامة التي لا تُرى، هي الختام المثالي لقصيدة لا تقول الحقيقة، بل تُلمّح إلى أن الحقيقة، مثل التمثال، لا تنطق... لكنها تبتسم.
لماذا كتب متأخرًا؟ فن التخمر الشعري
ربما يُثير التساؤل أن ريلكه، رغم شدة تأثره بمصر، لم يكتب عنها أثناء وجوده هناك. لكنه أجاب على هذا بنفسه، في إحدى رسائله:
"ما عشته هناك لم يكن جاهزًا للغة بعد. كانت التجربة أكبر من أن تُقال، وكان لا بد لها أن تُترَك تختمر". هنا ندرك أن الشعر الحقيقي لا يأتي بالاستجابة المباشرة، بل بالبطء. بالإنضاج. القصيدة ليست رد فعل، بل أثر بعيد، كالصدى الذي يتردد بعد أن يمر الصوت بزمن طويل. في مصر، بدأ الصوت. لكن القصيدة لم تُكتب إلا بعد أن عبر الزمن، وتهدّج الصوت داخله، وأصبح همسًا يصلح للكتابة.
الفنانون الآخرون و"فشلهم الناجح":
كان مع ريلكه أثناء الرحلة فنانون كبار مثل الرسام ماكس سلفوجت، والرسام باول كلي، وقد قاموا برسم لوحات مستوحاة من مصر. لكن المفارقة أن ريلكه لم يكتب شيئًا حينها، بينما هم رسموا كثيرًا.
هنا يطرح ريلكه سؤالًا ضمنيًا: ما الذي يفعله الفنانون؟ يرسمون السطح؟ اللحظة؟ الضوء؟ أما الشاعر، فهو لا يلتقط، بل يُلتقط. الشعر يتطلب أن تهتز الذات حتى العظم، لا أن تنبهر فقط.
الرسم يمكن أن يكون رد فعل بصريًا. أما الشعر، فيطلب "حالة وجودية" كاملة. ربما لهذا، فشل الرسامون –وإن نجحوا فنيًا– في أن يُلامسوا ما لمسته قصيدة ريلكه.
حين يعلّمك الحجر كيف تُصغي:
الكرنك، بالنسبة لريلكه، لم يكن موقعًا بل درسًا في الإصغاء. وقد تكون هذه أعظم هبة منحها له المكان: أن يُدرك أن الشعر لا يبدأ من الكلام، بل من الإصغاء. الإصغاء إلى الصمت، وإلى الحجارة، وإلى ما لا يُقال.
كل عمود في المعبد كان بمثابة حرف من أبجدية غير ناطقة. وكل ظل كان سطرًا شعريًا خفيًا. ولهذا لم يكتب الشاعر، بل كُتِب.
من يكتب من؟ مصر التي تكتب الشاعر
في نهاية المطاف، ليست التفاصيل الجغرافية هي ما يهم في تجربة الشاعر، ولا حتى عدد المعابد التي رآها أو أسماء المواقع التي زارها. ما يبقى، ويثقل كفة التجربة، هو ما حدث في داخله: التحوّل الهادئ والعميق الذي أحدثه المكان في كيانه. لقد دخل ريلكه إلى الكرنك شاعرًا يحمل الكلمات، وخرج منه كأنّه نُقش في الكلمات نفسها. لم يعد كاتب القصيدة، بل أصبح هو نفسه سطرًا منها، عمودًا يقف في النص، شاهدًا على ما لا يُقال، وشاهدًا على نفسه وقد تغيّرت.
إن لحظة التحول هذه –من شاعر يصف إلى شاعر يُعاد تكوينه– هي ما يمنح النص قوته. لم تعد مصر بالنسبة له مكانًا للزيارة، بل كيانًا حيًّا يكتب الشعراء، لا يُكتب. ومن هنا يمكننا أن نقول: لم يكن ريلكه يكتب عن مصر، بل كانت مصر تكتب ريلكه. كانت تنقشه كما نُقشت جدران معابدها، وتحفر فيه أثرها كما يحفر النيل مجراه في الحجر.
الشعر، في ضوء هذه التجربة، لا يعود تمرينًا فنيًا أو ترفًا ثقافيًا، بل يصبح نوعًا من الانصهار. يصبح فنًّا روحيًا يطلب من صاحبه أن يتنازل عن شيء من ذاته، أن يضع نفسه قرب المذبح، حتى يُصاغ من جديد. مصر، كما فهمها ريلكه، ليست موضوعًا شعريًا، بل هي محراب الكتابة، والمكان الذي تجرّده من لغته ليكتشف لغة أعمق، وأصدق، وأكثر صمتًا.
الأماكن العظيمة، كما تعلّمنا قصيدته، لا تُوصف بالكلمات، بل تُعاش بالتجربة. لا تدخلها لتروي ما رأيت، بل لتكتشف من تكون في حضرة ما لا يُقال. وكل من دخل مصر –لا كموقع سياحي، بل كأفق داخلي– خرج منها وقد تغيّر، خرج وقد حمل أثرها في أعماقه، كمن حمل توقيعًا غير مرئي على جدران روحه.
وهكذا، لم تعد مصر مجرد حضارة قديمة، أو تماثيل شاهقة، أو معابد باهرة، بل أصبحت رمزًا للحقيقة التي تختبرك، وللشعر الذي لا يُكتب إلا إذا ضحّيت ببعضك في سبيله. لقد غادر ريلكه مصر، لكن مصر لم تغادره. سكنت فيه كشاهد، كنداء صامت، كإله قديم لا يطلب الطاعة بل الصمت. مصر التي كتب عنها، هي مصر التي أعادت كتابته، لا بالحبر، بل بالحضور.