تأتي رواية (ناي في التخت الغربي) للروائية السورية ريما بالي الصادرة عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر سنة 2023 في بيروت لتحكي قصة الهجرة والهُوية خلال ثلاثين فصلاً يتأرجح فيها السرد ما بين أسلوبي السيرة الذاتية والرسائل، حيث ترافقنا ناي (ناديا النجار) في رحلة حافلة بالألم والذكريات من حلب إلى بروكسل وصولاً إلى لاس پالاس في جزر الكناري، إذْ ينفتح النص على الماضي عبر تقنية الفلاش باك، ليعيد تشكيل معالم الحياة بين الوطن والمهجر، لتواجه صراعاً مع جغرافيا جديدة، وتحديات عديدة أبرزها: الهُوية، والانتماء، وعلاقة الآخر بالمهاجرين في عالم يتغير من حولها.

تقدم الرواية تصويراً دقيقاً للهجرة كرحلة وجودية معقدة، أكثر من كونها مجرد انتقال جغرافي. إنها دعوة لاستكشاف المعاناة النفسية والثقافية للمهاجرين، بالإضافة إلى التفاعل بين الشرق والغرب، وكيف يُنظر إلى هؤلاء المهاجرين.
أولاً: البنية المكانية والزمانية
يقوم الفضاء المكاني في النص بدور محوري في تشكيل الوعي، فالشرق يظهر بوصفه ذاكرة حية، ممتلئة بعلاقات وروابط وعادات، بينما يتجلى الغرب كفضاء مفتوح لكن مشروط، يَعِدُ بالحرية من جهة، ويضع المهاجر دائماً موضع شك ومراقبة من جهة أخرى. هذا التوتر المستمر بين فضاءين يشكل المعنى العميق للاغتراب الذي تصفه الرواية.
أما الزمن، فهو زمن مُفكك؛ لا يتقدم في خط مستقيم، بل ينفتح باستمرار على الماضي من خلال تداعيات الشخصية الرئيسة ناي ليكون هنا أقرب إلى حالة نفسية منه إلى تاريخ منضبط؛ زمن يلتبس فيه الماضي بالحاضر، وتتشابك فيه الذكريات مع ما تريد الشخصية نسيانه أو الاحتفاظ به. الزمن في الرواية ليس مجرد مسار زمني، بل هو زمن وجودي يبرز الصراع الداخلي للشخصيات، حيث يتداخل فيه الفردي مع الجمعي للمجتمع الذي ينتمي إليه المهاجر.
ثانياً: اللغة والأسلوب
تتميز لغة الرواية بنبرة شاعرية شفافة، تتأرجح بين السرد التأملي والبوح الوجداني. تنبض بالعاطفة دون أن تقع في الانفعال تجمع في أسلوبها بين العمق التأملي والبساطة التعبيرية، وتوظف الحوار الداخلي بكثافة، فتتيح للقارئ ملامسة الهواجس الداخلية للشخصيات، كما تمزج بين الفصحى والعامية الحلبية وهي قليلة جداً في النص لتأكيد الانقسام الثقافي الذي تعيشه الراوية ناي بين عالمين: عالمها الشرقي الذي تحاول أن تحمله معها، وعالم الغرب الذي تحاول أن تتكيف معه.
الأسلوب الأدبي في الرواية يعتمد على التداخل بين الأزمان والفضاءات اللغوية، فاللغة التي تتأرجح بين الشِفافيّة والواقعية تمنح الرواية قدرة على تمثيل التجربة الإنسانية للمهاجر دون تهويم أو خطابية مما يجعل الكاتبة تنجح في الحفاظ على توازن دقيق بين التعبير عن المعاناة النفسية للشخصيات وبين مخاوفها وهواجسها، ليكون النص الروائي بمثابة شهادة أدبية على أبعاد الاغتراب.
ثالثاً: الشخصيات
تأتي الشخصيات كمرايا متعددة لتجربة الهجرة القسرية، وناي ليست مجرد بطلة وراوية، بل هي وعي روائي يتطور عبر العيش والتذكر والانكسار، إنها امرأة تقف في منطقة وسطى بين التشبث بهويتها الأولى وبين الانفتاح على عالم ثقافي جديد، ومع كل شخصية من الشخصيات الثانوية، تتكشف جوانب مختلفة من الصراع مع الذات ومع العالم.
1- ناي (ناديا النجار)
تمثل ناي الشخصية الرئيسية التي تنتقل من الشرق (سوريا) إلى الغرب (بلجيكا)، وتناضل لتعيش بين عالمين مختلفين.
هي امرأة متمردة على التقاليد الشرقية، لكنها في الوقت ذاته لا تستطيع الفكاك من جذورها، يتجسد صراعها الداخلي في محاولاتها المستمرة للتوفيق بين ثقافتها الأصلية التي تحملها معها، وبين ما يريده المجتمع الغربي الذي يتطلب منها تكيُّفاً في لغة وثقافة جديدة. ناي تعيش على حدود الهُوية، فهي دائماً في حالة بحث عن مكان في هذا العالم المتغير.
2- غسان
هو زوج ناي وشريكها في تجربة المنفى. يمثل غسان الهدوء والصلابة في بداية الرواية، ولكنه يتحول تدريجياً إلى شخصية محطمة داخلياً، حيث يعبر عن معاناة المهاجرين الذين يعيشون بين الانتماء إلى الوطن الذي لم يعد موجوداً، والاندماج في ثقافة لا تعترف بهم دائماً. وهو يشكل جزءاً من ذاكرة ناي الذي تحاول التخلص منها فتنفصل عنه: (انتهت قصة حبنا أنا وغسان، وذابت كل المشاعر والوعود كقرص شمس أرجواني يذوب في بحر من شحوب... وأسأل نفسي إن كنت أحببته يوماً؟ هل غيرتني الحرب؟ هل غيرتني الهجرة)؟ لكننا نكتشف أن لناي سبباً آخر في تغيرها وكرهها لزوجها وهو وقوعها في حب سيزار الذي تعرفت إليه مؤخراً عن طريق جارتها وصديقتها سيسيل الصحفية البلجيكية من أم لبنانية والمهووسة بالأثنولوجيا وعلم الأجناس والأعراق البشرية. وهو تجسيد للعلاقة الجديدة مع الآخر (سيزار) الذي يمثل الواقع الغربي العاطفي الذي سرعان ما يتخلى عنها، بعد أن ينال مراده.
3- طارق الحلبي
يُعدّ طارق الحلبي إحدى الشخصيات التي تُظهر تجربة الاغتراب بوجهها المعقد. وكان من الأوائل الذين حاولوا الاندماج في المجتمع الغربي بشكل كامل من خلال استثماره لمطعم وفندق في لاس پالاس بمشاركة محمد المغربي وماريا الدومينيكية، لكنّه بعد فترة يجد نفسه في صراع داخلي مع هويته الأصلية التي يريد المحافظة عليها من خلال تمسكه بقيمه الدينية وتقاليده الشرقية. وهو شخصية تتبدل مواقفها من الاندماج إلى التمرد على واقع جديد يحاول التأقلم مع مايناسبه منه، ولكن الأخير يأبى قبوله، ويشك به لأنه لا يزال متمسكاً بتلك القيم، ويصوّر طارق في رواية بالي تجربة المهاجر الذي يشعر بأنه مغترب في وطنه الجديد، ويظل يبحث عن جذوره المفقودة.
4- محمد المغربي شريك طارق بالفندق والمطعم والغربة
يظهر محمد المغربي في الرواية كإحدى الشخصيات التي تعكس الجانب المادي من المهاجرين. تمثل الهجرة، بالنسبة له، فرصة للنجاح الاجتماعي والاقتصادي، وهو من النوع الذي يعتقد أن الاندماج يجب أن يتم على حساب فقدان بعض جوانب الهُوية، وشخصية محمد تمثل المهاجر الذي يتأقلم بسرعة مع الثقافة الغربية، لكنه في هذا سيسير في طريق فقدان ارتباطه بكل ما هو شرقي، فيأخذه الإدمان على الكحول بعيداً عن زوجته وأسرته وإلى حد ما عمله.
5- ماريا الدومينيكية
تظهر ماريا كإحدى الشخصيات التي تمثل حالة من الانفصال الثقافي بين الشرق والغرب، حتى وإن كانت لا تعيش الهجرة بحد ذاتها فهي أجنبية، لكنها غريبة في كل مكان، وعلاقتها باللاجئين غير قائمة على التعاطف أو الاستيعاب الكامل، بل تنطوي على غربة إضافية، حيث لا تشعر بالانتماء لأحد رغم علاقتها العاطفية بطارق الحلبي، و مساعدتها لناي في البحث عن مطعم في لاس پالاس لاستثماره، وكذلك في محاولاتها العثور على حقيبة ناي التي فقدتها في المطار حين حضورها إلى مدينة لاس پالاس، و تعكس شخصيتها شعوراً من التشظي الثقافي الذي يعانيه العديد من الأفراد في مجتمعات المهجر.
6- سيزار
شخصية تمثل التكيف التام مع البيئة الجديدة إذْ يبدو على السطح شخصاً قادراً على الاندماج الكامل في المجتمع الغربي، لكنه في الحقيقة يُعاني من صراع داخلي بين الهُوية القديمة والفرص الجديدة. شخصية سيزار هي نموذج للمهاجر الذي يسعى إلى تحقيق النجاح الشخصي بأي ثمن، مستعداً لتجاهل ثقافته الأصلية لصالح العيش في مجتمعه الجديد، فيعمل لصالح الأمن البلجيكي في مراقبة وملاحقة المهاجرين العرب، مستغلاً ناي للإيقاع بهم حين يقنعها بالعمل معه، دون الاكتراث بالارتباط العاطفي الذي جمعهما مع بعضهما، ومضحياً بها في النهاية بعد أن حقق هدفه وليختفي بعدها دون سابق إنذار.
7- سيسيل البلجيكية
أخيراً، تأتي سيسيل الصحفية البلجيكية من أم لبنانية المهووسة بالأثنولوجيا وعلم الأجناس والأعراق البشرية، والتي تتوصل من خلال دراستها المتأثرة بهدا العلم إلى أنه: (ليس هناك عرق صافٍ، والهُوية قشرة وهمية لمزيج كثيف مهجن ومتراكم عبر العصور)، ومن خلال دراساتها ترى أيضاً أن "العنصرية مجرد إقصاء للآخر وإدانته بجرم نحمله في خلايانا... والجنسية مجرد بطاقة نحملها ليكون لنا اسم لنعبر به الحدود التي اخترعها الإنسان على هذه الأرض"، لتصل في نهاية دراستها إلى رؤية نقدية عميقة للغرب تجاه الوجود المهاجر، إذْ ترى في الغرب مجتمعاً لا يتقبل الآخرين بسهولة، وتعتبر أن الهُوية تبقى دوماً محاصرة في إطار يتم تحديده من قبل المجتمع. تقول سيسيل: "أنت لن تكون جزءاً من هذا العالم مهما حاولت؛ لأنهم لا يرون فيك إلا صورة ملوّثة. حتى وإن حاولت أن تكون منهم، ستظل دوماً غريباً في عيونهم". وهي بهذه الرؤية تشكل نقداً لاذعاً للمجتمعات الغربية التي تدعي التعايش، والحرية، لكنها لا تستطيع قبول المهاجرين بشكل كامل، بل هم في عينها موضع شك واتهام دائمين".
رابعاً: صورة الغرب ونظرته للمهاجرين
تكشف الرواية عن رؤية الغرب للمهاجر بوصفه "آخر". رغم الخطابات الإنسانية والشعارات التي يرفعها، يستمر الغرب في التعامل مع المهاجرين ضمن حدود هوية مشروطة، إذْ يُنظر إليهم بعين الشك والريبة ويظلون في نظره غرباء وإن منحهم جنسية بلده وفرص الدراسة والعمل فيها، مهما حاولوا الاندماج.
وبهذا تكون الرواية في إحدى رؤاها العميقة المتعددة قد وضعت يدها على معاناة المهاجرين ومسألة اغترابهم التي قسمت قلوبهم بين قلبين ووطنين.