تثار مسألة المتقادم والمهجور في الموسيقى العربية في علاقة بمقولات الخصوصية والهوية والأصالة، والحفاظ على الموروث الموسيقي، والتقدم والحداثة والتجديد... فهي مرتبطة إذن بأكثر من منظور للثقافة الموسيقية، وبأكثر من فهم لعلاقتنا بالآخر، وبموقعنا من التحولات العالمية العميقة المتسارعة.
ليس كل ما اندثر أو في طريقه إلى الأفول في الموسيقى العربية محكوم بحتمية الانتقال إلى طور تاريخي أرقى، ومن ثم لا يمكن أن نعتبر العولمة الثقافية قدرنا الذي لا بد أن تذوب فيه هويتنا الموسيقية؛ كي نقول إننا نواكب العصر، كما لا يقبل منطق التثاقف والتفاعل التقوقع حول التراث الموسيقي؛ ولا يكون الانخراط الإيجابي والبناء في التثاقف العالمي إلا على قاعدة الشخصية الثقافية، ولا يتأتى انسجامنا مع روح العصر إلا بقدر مناعتنا الثقافية التي تؤهل هويتنا الموسيقية للتفاعل والتأثير، لا الانفعال والتأثر السلبي، فالكيانات التي تفرط في ما يميزها ويجعلها مختلفة تكون عرضة للذوبان والزوال، كما أن الانغلاق غير ممكن في عالم اليوم المفتوح والآخذ في التحول المتسارع.
من هذا المنطلق يكون حديثنا عن المتقادم المهجور في الموسيقى العربية من منظور ينطلق من الخصوصية نحو العالمية، بعيداً عن التقديس والتماهي، والحداثة الموسيقية العربية قد تأسست على الخصوصية النغمية والإيقاعية والأجناسية وفرادة الآلة الموسيقية خاصة آلة العود، ثم قامت على الاستفادة من التقدم الهائل في علم الموسيقى، ومن الطفرة المدهشة في التكنولوجيا المرتبطة بالصناعة الموسيقية ومن تطور موسيقات العالم.
1 - الخصوصية النغمية:
تبنى الموسيقى على مكونين أساسيين اثنين: النغم والإيقاع، ويتكون النغم من مادة الدرجات الصوتية وترتيبها في السلم الموسيقي صعوداً ونزولًا، بينما يمدنا الإيقاع بالتقسيم الزمني للنغمات وتنظيمها ضمن حقول متقايسة وجمل موسيقية، ومقاطع تخضع للوزن أو للارتجال وفق منطق موسيقي رياضي خاضع للحساب والنسب، وتستسيغه الأذن انسجاماً لما تربت عليه في بيئتها الموسيقية.
وبهذا؛ فإن الخصوصية النغمية هي ما يميز أنغام ثقافة موسيقية ما، وهي إلى جانب الخصوصية الإيقاعية تشكلان الخصوصية الموسيقية؛ أي مجموع السمات التي تطبع ثقافة موسيقية ما، وتجعلها مائزة عن غيرها.
ترتبط الخصوصية النغمية بأربعة مكونات كبرى، وهي السلم والمقام وطبيعة الجملة اللحنية والبناء اللحني، أما السلم فهو عدد الدرجات الصوتية المعتمدة في التأليف الموسيقي وترتيبها صعوداً ونزولًا، وأشهر السلالم الباقية اليوم السلم السباعي المتكون من سبعة أصوات والصوت الثامن فيه هو جواب القرار: دو(قرار)، ري، مي، فا، صول، لا، سي، دو(جواب)، مع وجود سلالم توصف في الدراسة الموسيقية بأنها "غير مكتملة"؛ أي بها أقل من سبعة أصوات نغمية، ومنها السلم الخماسي، ونرى أنه علامة الخصوصية النغمية في الثقافة الموسيقية الإفريقية، وهو مستعمل في الجاز وفي التأليف الموسيقي العالمي، ومسألة "الاكتمال"، هنا حكم قيمة بخلفيةِ نظريةِ المركزيةِ الأوروبيةِ التي حكمت الكثير من العلوم ولم يسلم منها علم الموسيقى، ولطالما نظرت هذه المركزية إلى موسيقات الشعوب باعتبارها "بدائية".
وأما المقام فهو تركيب معين للنغمات صعوداً ونزولًا، بالاعتماد على بناء المسافات وفقاً للأبعاد وأنصافها وأرباعها، وهنا خصوصية الموسيقى الشرقية، وبينما يعتبر نصف البيمول "نشازا" وفق المعيار الموسيقي الغربي، تشكل مسافة ثلاثة أرباع نقطة فرادتنا النغمية.
أما الجملة اللحنية فهي أصغر تركيب للنوتات مفيد مبنى ومعنى، حيث يجمع حقولا متقايسة الزمن (من حقلين إلى أربعة حقول غالباً)، أو سلسلة نوتات غير متقايسة الحقول في المقطع الارتجالي، وتختلف الجملة اللحنية الشرقية بكونها متتابعة النوتات صعوداً ونزولا، قائمة على نواة لحنية تظهر في المقاييس الأولى، وتتكرر في المقاطع إلى أن تتغير غالباً مع تغير الإيقاع، أما في النسق النغمي الغربي فالنوتات في الجملة لا تخضع بالضرورة للتتابع، بل نجد فيها قفزات، مع تجنب اللحن تكرار نفس الجملة.
أما البناء اللحني أي النسق الذي يعتمد عليه تركيب الألحان، ويقوم في الموسيقى الشرقية على غنى المقامات وتنوعها، مع سيطرة الطابع المونوفوني؛ أي عزف الفرقة نفس الجمل والمقاطع مع حوار الآلات وعزفها المنفرد وسط العمل الجماعي، بينما يستعاض في الموسيقى الغربية عن البساطة المقامية بالبناء الهارموني والبوليفوني.
2 - المتقادم المهجور في الموسيقى العربية:
إن الموسيقى العربية التي دخلت زمن الحداثة منذ مطلع القرن العشرين مع مدرسة الغناء في مصر وعلى يد مؤسسين كبار من بينهم سيد درويش ومحمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب... وترسخت مع مدرسة الغناء بلبنان على يد الرحابنة وفيروز، ومع مدرسة العود بالعراق على يد منير وجميل بشير وسلمان شكر... ثم نصير شمة، ثم ترسخت مع عباقرة المشرق والمغرب على حد سواء، كالسنباطي والموجي وبليغ حمدي... وأحمد البيضاوي وعبد الرحيم السقاط وعبد النبي الجراري وعبد القادر راشدي، ولطفي بوشناق ومارسيل خليفة... وحققت الكثير من التجديد والتطوير منذ بداية القرن العشرين، قد بدأت تفقد - مع نظام العولمة القائم على التنميط الثقافي - الكثير من سماتها الجوهرية، منها ما يتعلق بإهمال العديد من المقامات الموسيقية الشرقية، خاصة تلك الحاملة لربع البعد، ويصطلح عليها في علم الموسيقى بـ"مسافة السيكاه"، وفي حكم المهجور تدخل الكثير من الإيقاعات الثقيلة المركبة بحكم الاهتمام المفرط بالسرعة، وإلى جانب هذا وذاك تتقادم العديد من الأجناس الموسيقية التي يصطلح عليها بقوالب الموسيقية العربية الآلية كالسماعي واللونغة والبشرف والغنائية كالموال والموشح.
في العشرية الأخيرة نلاحظ عدة مظاهر لبداية اندثار الموسيقى الشعبية في البوادي المغربية، نظراً لانتشار ذهنية التحريم، بعد أن كانت تعرف ازدهاراً كبيراً في العقود السابقة، وهكذا تراجعت مشاركات النساء في المجموعات الموسيقية والفلكلورية في الأطلس وشرق المغرب والريف، وأخذت صناعة الآلات الموسيقية التقليدية في الانقراض كالرباب والوتار والسويسدي وغيرها.
3 - أفول مقامات السيكاه من التأليف الموسيقي العربي:
تتكون البنية النغمية الشرقية من ثلاثة أنواع من المسافات النغمية، تعتبر بمثابة اللبنات التي ينبني بها المقام الموسيقي العربي والشرقي عامة:
أ- المسافة الكبيرة: هي مسافة البعد الكامل، أي مسافة كاملة بين درجة نغمية وأخرى، وهي في السلم دو الكبير أو العجم بالاصطلاح العربي خمسة أبعاد: [دو - ري]، [ري - مي]، [فا - صول]، [صول - لا]، [لا - سي].
ب- المسافة الصغيرة: هي مسافة نصف البعد بين درجة نغمية وأخرى، وهي في مقام العجم في موضعين: [مي - فا] و [سي - دو] وتسمى أيضاً مسافة البيمول، وتعني خفض البعد الكامل بنصف مسافة.
ج- مسافة السيكاه: وهي مسافة ربع البعد بين درجة نغمية وأخرى، وتنتظم في شكل بعد محذوف منه ربع، فتأخذ المسافة ثلاثة أرباع، وهي -مثلا- في مقام الراست صعودا [ري- مي نصف بيمول]، [مي نصف بيمول- فا]، [لا- سي نصف بيمول] و [سي نصف بيمول-دو]، وتكون مسافة السيكاه بخفض البعد الكامل بربع درجة، وتكون أحياناً برفع نصف البعد بربع درجة، مثل [مي – فا نصف دييز] لنحصل على المسافات المذكورة متكونة من ثلاثة أرباع البعد.
وبينما تقوم سلالم الموسيقى الغربية على المسافتين الكبيرة والصغيرة (البعد ونصف البعد) إذ لا تستسيغ الأذن الغربية مسافة السيكاه (ربع البعد)، تشترك الموسيقى العربية والشرقية مع الموسيقى الغربية في اعتماد المسافتين الأولين (البعد نصف البعد)، وتفترق عنها وتتميز باعتماد مسافة السيكاه، وهي عنصر فرادة وخصوصية نغمية.
وبينما -أيضاً- لا نجد المقامات الغربية الثلاثين إلا تصويراً لاثنين منها وهما الكبير (العجم) والصغير (النهاوند)، تزخر الموسيقى الشرقية بعدد هائل من المقامات ومن ضمنها تلك الحاملة لمسافة السيكاه.
لقد عرف التأليف الموسيقي العربي في غالبيته منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي وإلى اليوم أفول العديد من المقامات، خاصة ذات مسافة السيكاه (نصف بيمول)، وهو ما يمثل المهجور المتقادم النغمي لأحد أقوى عناصر الهوية الموسيقية العربية، ولا يمكن تبرير التفريط فيه بسنة التطور التي لا تقتضي التماهي مع البنية المقامية الغربية.
وعندما نقف اليوم على التأليف الموسيقي الجديد خاصة في الأغاني، نجده لا يقوم إلا على بضعة مقامات خالية من نغمة السيكاه، وهي أساساً العجم والنهاوند والكرد والحجاز، ويتم التخلي عن استعمال مقامات بارزة وذات حمولة إبداعية ثرة كالراست والسيكاه والبياتي والصبا... والأدهى من ذلك أن الكثير من الألحان تبتسر المقام وتطمس أسراره التعبيرية؛ إذ لا تستعمل منه غير بضعة درجات، جرياً وراء "الذوق" العام الآخذ في تمثل النمط المقامي الغربي، وركوباً للموجات الجديدة السطحية المفتقرة إلى الأصالة والابتكار والعمق، بل نلاحظ ما هو أخطر في إعادة توزيع بعض الأغاني، إذ تفرغ من الانتقالات المقامية نحو مسافة السيكاه، ليبقى اللحن حبيس المسافتين الكبيرة والصغيرة، ونظراً لضعف التربية الموسيقية، وركوب الملحنين والموزعين الجدد موجات التنميط، واللهاث نحو "العالمية" بخلفية تغريبية، فإنه بدأ يصعب على الأجيال الحاضرة استساغة مقامات نصف بيمول، فيميل الشباب إلى الكرد وهم يريدون الترنم على البياتي، أو يميلون إلى العجم والنهاوند مع الراست.
أما المقامات الأندلسية، وتسمى بالطبوع، فرغم كونها لا تحمل مسافة السيكاه إلا أن بنيتها أغنى وأوسع من بنية المقام الكبير والمقام الصغير في الموسيقى الغربية، وتحمل الكثير من الأسرار النغمية والطاقات التعبيرية، وقد بقيت اليوم محصورة في المتوارث الموسيقي لفنون الآلة والطرب الغرناطي والمالوف والموسيقى الشعبية المتأثرة بها، كالملحون والحوزي والشكوري في بلدان المغرب الكبير، وهي بدورها مهددة بالاندثار، ما حدا بباحثين في علم الموسيقى إلى تدوين النوبات الأندلسية، كالمجهود القيم الذي قام به الأستاذ يونس الشامي في تدوين نوبات طرب الآلة الإحدى عشرة، وذلك بالنوتة الموسيقية ووفق روايات كبار شيوخ هذا الطرب الأندلسي، كما يجب التنويه هنا بالجهد المبذول من قبل جمعيات الموسيقى الأندلسية ميدانياً في تلقين هذا الموروث الموسيقي الثر للأجيال الجديدة، وضمنها جهود جمعيات الطرب الغرناطي بوجدة، وخاصة المجهود الميداني والعلمي للدكتور أحمد طنطاوي الباحث في الطرب الغرناطي، وأحد شيوخه البارزين بشرق المغرب، كما يحسن التنويه بجهود الموسيقي الأكاديمي الأستاذ أحمد الدريسي الغازي في تدوين مختلف ألوان الموسيقى الشعبية المغربية أمازيغية وعربية بمقاماتها، وإيقاعاتها المتعددة الغنية والمهددة بالاندثار تدويناً موسيقياً علمياً، وكذا التنويه بالتدوين الموسيقي للأستاذ عبد الله رمضون لمختلف صنوف الموسيقى المغربية خاصة الإيقاعات والمقامات والطبوع الأندلسية.
وتبقى هذه الجهود الفردية الهامة حبيسة الرفوف، ولا تستفيد منها الموسيقى المغربية في تعزيز شخصيتها الوطنية، ما لم تتبناها الدولة ضمن منظومة التدريس والبحث الأكاديمي الموسيقي في مسالك التعليم الموسيقي المتخصص، ومنتديات التربية الموسيقية بجميع الأسلاك المدرسية والجامعية.