بين التراجيديا والطقوس الاحتفالية

مدخل إلى المسرح الإغريقي

بدر الدحاني


يُعد المسرح الإغريقي القديم بمثابة تمهيد لفن المسرح الذي أبدعته الديمقراطية الأثينية في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد نشأ المسرح الإغريقي القديم من الدين والطقوس الاحتفالية التي كانت تحتضنها اليونان، وبخاصة الاحتفالات الدينية التي كانت تقام على شرف الآلهة، كالإله ديونيسيوس الذي كان يُعبَد من طرف الشعب اليوناني على أنه إلههم الخاص، ويسمى أيضاً باخوس إله الخصب والخمر. فلا يمكننا الحديث عن المسرح الإغريقي دون الإشارة إلى التراجيديا باعتبارها شكلاً مسرحياً ودرامياً نشأ وترعرع في كنف المسرح الإغريقي. فكيف إذن نشأت التراجيديا اليونانية؟ وما علاقتها بالطقوس الاحتفالية؟ وما المحددات والخصائص الفنية والشكلية للتياترو (المسرح) الإغريقي؟
 

 

حول نشأة التراجيديا الإغريقية

يقول أرسطو طاليس في كتابه فن الشعر "لقد نشأت التراجيديا في الأصل -شأنها شأن الكوميديا- نشأة ارتجالية. فالتراجيديا نشأت على أيدي قادة الديثرامب"1. والديثرامب هو نشيد تتغنى به في أعياد واحتفالات الديونيسيوس، وهي فرقة غنائية تنشد وترتل قصيدة أو مرثية، ويطلق على هذه الأناشيد "العنزية"؛ لأن أفرادها كانوا يرتدون جلود الماعز أثناء الإنشاد والغناء. ومن هنا بمقدورنا القول بأن عملية تجانس الموسيقى والرقص والغناء هي من مميزات وخصائص المسرح الإغريقي.

ويعرّف أرسطو طاليس التراجيديا بأنها "محاكاة لفعل جاد تام في ذاته، له طول معين، في لغة ممتعة لأنها مشفوعة بكل نوع من أنواع التزيين الفني. كل نوع منها يمكن أن يرد على انفراد في أجزاء المسرحية؛ وتتم هذه المحاكاة في شكل درامي، لا في شكل سردي، وبأحداث تثير الشفقة والخوف، وبذلك يحدث التطهير من مثل هذين الانفعالين"2. وللتطهير وظيفة جوهرية تنضاف إلى باقي الوظائف الأخرى التي تتسم بها التراجيديا الإغريقية، باعتبارها خصائص هامة تتشكل منها النصوص التراجيدية (الدرامية).

لا يمكننا الحديث عن التراجيديا الإغريقية ونشأتها، دون استحضار الكاتب المسرحي اليوناني الشهير اسخيلوس الذي يعتبر أب الدراما اليونانية، ومؤسس الجنس التراجيدي في الأدب اليوناني. لقد ذهب اسخيلوس إلى أبعد مدى من ثسبيس فيما يخص تطوير المسرح الإغريقي؛ إذ أدخل الممثل الثاني في المسرحية. ومن أهم أعماله: (الفرس، المتوسلات، بروميثيوس في الأغلال...)، وغيرها من الأعمال التراجيدية.
 

في علاقة التراجيديا بالطقوس الاحتفالية

يعود ميلاد التراجيديا وأصلها إلى الطقوس الاحتفالية التي كانت دينية في طابعها، وارتبطت بعبادة الديونيسيوس في عروضها المسرحية، إذ شكَّلت جزءاً من الاحتفالات التي تقام في أثينا تكريماً لديونيسيوس. "أسست التراجيدية الإغريقية –إذن- داخل الأشكال الاحتفالية العتيقة التي كانت أعياد ديونيسيوس مناسبة لها، نوعاً جديداً من الفرجة استطاع أن يترجم مظاهر من التجربة الإنسانية"3. ومن احتفالات تكريم ديونيسيوس إلى عروض المآسي التي كانت تقدم على شكل مسابقات من لدن شعراء المآسي. "ويرتبط بمنشأ المأساة الإغريقية ارتباطاً وثيقاً تأثير المناسبات التي كانت تخرج فيها هذه المأساة في القرن الخامس قبل الميلاد. فلم تكن المآسي عند الإغريق تعرض عرضاً خاصاً، أو لأغراض تجارية؛ وإنما كانت تقدم في أثينا مرتين في العام: الأولى في لينيا وهو احتفال كان يقام في أواخر يناير (كانون الثاني)، والثانية في احتفال مدينة ديونيسيا في شهر مارس (آذار)"4. شكَّلت الطقوس الاحتفالية، وخاصة منها الدينية، البيئة التأسيسية لميلاد ونشأة التراجيديا الإغريقية في اليونان القديمة. لقد تعددت الاحتفالات وتنوعت، من الطقوس الاحتفالية الدينية المحضة، إلى المآسي التي كانت تُقدَّم على شكل مسابقات كان يحضرها قضاة يتم اختيارهم رسمياً، ويعرضها شعراء المآسي.

حول عناصر التراجيديا الإغريقية

للتراجيديا أجزاء ستة أساسية حدَّدها أرسطو طاليس في كتابه فن الشعر، وهي: "(الحبكة، الشخصية، اللغة، الفكر، المرئيات المسرحية، والغناء). ويشكل جزآن من تلك الأجزاء مادة المحاكاة، وجزء منها يمثل طريقة المحاكاة، أما الأجزاء الثلاثة الأخرى، فتشكل موضوع المحاكاة الدرامية، ولا شيء يضاف إلى تلك الأجزاء الستة"5. تشكل هذه العناصر البناء التركيبي للتراجيديا الإغريقية، والحبكة بوصفها الهيكل الحكائي للمسرحية وقوامها، فهي تقوم على أساس رسم وبناء سلسلة الأفعال والأحداث الدرامية، والفعل دائماً مرتبط بالدراما، فهو لدى أرسطو ذلك الذي ينشأ ويحصل بين الشخصيات المسرحية، ويصدر عنه ردود أفعال تساهم في تطور الأحداث الدرامية.

مع التراجيديا الإغريقية بدأت تتضح ملامح الكتابة المسرحية والدرامية، إنها عناصر ومحددات رئيسة تُسهِم في بناء الشكل الدرامي ونسق العرض التراجيدي. فالفعل في العمل التراجيدي لا يكشف عن دلالة المواقف بين الشخوص فحسب، بل أيضاً، عن الدوافع والأسباب التي أدت إلى الفعل الدرامي، الناتجة عن السلوك الإنساني وطبائعه النفسية والعقلية والوجدانية. وهكذا يتشكل النسق الدرامي بحيثياته وجزئياته الفكرية واللغوية، التي تصيغها -في إطار تركيبي مُنَظَّم- كل من (الحبكة، والشخصية، واللغة، والفكر، والغناء، والمرئيات المسرحية)، التي تعد بمثابة أجزاء وعناصر التراجيديا.

حول البناء الهندسي والفني للمسرح أو (التياترو) الإغريقي

يعد البناء الهندسي والفني للمكان المسرحي (المَرسَح أو مكان العرض)، بمثابة تصميم يشتمل على مجموعة من العناصر المكانية والهندسية والفنية التي تُشَكِّل بناية المسرح وفضاءاته. ويمكننا القول بأن شكل وتصميم المسرح الإغريقي مختلف تماماً من حيث البنية والهندسة التصميمية، والأمكنة والمناظر المسرحية، مقارنة مع ما نشاهده الآن في التصاميم الفنية للمسرح المعاصر.

ويبدو من خلال البحث في شكل البناء الهندسي للمسرح اليوناني، على أنه كان "مسرحاً بسيطاً تطور من مساحة الرقص الدائرية، والتي تحاط بالمقاعد الخشبية المقامة على منحدرات التل الملاصقة للأكروبولوس6، وتحيط بثلثي حيط الأوركسترا، وترتفع حتى قمة التل (...). ثم انتقل هذا المبنى عند عروض المسرحيات الكبيرة واحتل خلفية الأوركسترا، وتم استقطاع جزء من الأوركسترا وأقيم عليه رصيف مرتفع على الأرض لاعتبارات فنية منها تسهيل رؤية الممثلين"7. أما فيما يخص المناظر المستخدمة في المسرح اليوناني القديم، فقد كانت جد بسيطة ذات أبعاد دلالية، بالرغم من أن غالبية العروض الدرامية كانت تقام في المعابد الدينية.


مخطط للمسرح اليوناني (مأخوذ من كتاب فن المسرحية لميليت وبنتلي، ص: 64)


كان مكان الرقص في المسرح اليوناني أهم مكان ضمن باقي الأمكنة المسمى من لدن اليونان بالأوركسترا. في هذا المكان كانت تُقدَّم عروض الرقص والغناء، إلا أن الممثلين كانوا يأتون إلى هذا المكان لتأدية أدوراهم المسرحية. وعن الشكل الفني للعروض المسرحية اليونانية؛ فإنها كانت بدورها تُوظِّف المناظر المسرحية، والأزياء، والمؤثرات الضوئية، والحيل والأقنعة المسرحية. صحيح أنه لا يمكن لهذه العناصر أن ترقى لما يتوفر عليه الآن المسرح المعاصر من إمكانيات فنية وتقنية وجمالية، إلا أنه كان لتوظيف بعض هذه المكونات بشكلها القديم في المسرح اليوناني، ضرورات تخدم السياقات الدرامية للعروض المسرحية.

فيما يخص المؤثرات الضوئية كانت العروض تقدم في النهار، وبالتالي يتم استغلال الإضاءة الطبيعية في سائر المشاهد المسرحية. إلا أنه في بعض الأحيان يتم اللجوء إلى البيرياكوتا، إذا تطلبت المسرحية في بنائها الحكائي عملية الإيحاء أو الإيهام بالزمن في مشهد درامي معين. أما بخصوص المناظر المسرحية فكانت أغلبها مرسومة توحي بالمكان، بالإضافة إلى استخدام القطع الخشبية وتثبيتها لغاية التأثيث الفني للديكور المسرحي آنذاك. كما كانت تستخدم أيضاً بعض الحيل للدلالة على واقعية المواقف الدرامية، كجرائم القتل مثلاً التي كان يُعبَّر عنها بصراخ (كفعل دال) خارج المَرسَح، وبعدها يتم الاستعانة بآلات لحمل الجثث أمام الجمهور لتحقيق (المدلول) المرئي8. أما الأزياء فكانت عبارة على حذاء وعباءة خارجية وثوب، وأشياء أخرى تُستخدم لغطاء الرأس وبعض جوانب الجسد كاملاً. كما أدى القناع في المسرح اليوناني دوره في تشخيص الأدوار وبناء ملامحها التعبيرية، فكانت الأقنعة تأتي على شكل ملامح بشرية تُصنع من القماش، ويتم تحديد جزئياتها عن طريق الرسم والتزيين.

ومما تقدَّم، فالمسرح الإغريقي القديم تضمن عناصر فنية ودلالية لتأثيث مكان العرض المسرحي آنذاك؛ إذ تنوعت وتعددت الأشكال والمكونات التي كانت تحاكي العصر اليوناني الأثيني، لأن المسرح الإغريقي لم يخرج من دائرة محاكاة قضايا المدينة وإشكالياتها الاجتماعية للشعب اليوناني، بغض النظر عن الطقوس الاحتفالية التي كانت تقام للتكريم والاحتفال الديني، وبالتالي كان من الضروري الاستعانة بعناصر فنية حسب الإمكانيات المتوفرة آنذاك، لتشكيل وتأثيث الفضاء الدرامي للعروض المسرحية.

وعلى سبيل الختام، يمكننا القول بأن المسرح الإغريقي نشأ وترعرع داخل الطقوس الاحتفالية سواء في المناسبات الدينية، أو في حفلات التكريم التي كانت تقام على شرف الآلهة، أو في غيرها من المناسبات التي لا يمكنها أن تخرج من دائرة الطقس الاحتفالي. ومنذ بداية المسرح الإغريقي القديم من ثسبيس والممثل الواحد، إلى اسخيلوس والممثل الثاني في العرض التراجيدي، وباقي التطورات الأخرى التي شهدها المسرح الإغريقي على مدى سيرورته الزمنية من حيث البنية الشكلية والفنية للعروض المسرحية اليونانية، سواء على مستوى التصميم الهندسي للمَرسَح (مكان التمثيل) وبنايته وآلياته، أو على مستوى المكونات والعناصر الفنية والدرامية التي ساهمت في التأثيث المشهدي للتياترو اليوناني.


الهوامش: 1. أرسطو طاليس، فن الشعر، ترجمة: إبراهيم حمادة، مكتبة الأنجلو المصرية، 2019. ص: 81. | 2.  المرجع نفسه. ص: 95. | 3. عبد الواحد ابن ياسر، حياة التراجيديا: في فلسفة الجنس التراجيدي وشعريته، منشورات الاختلاف ودار الأمان، الطبعة الأولى، الرباط والجزائر 2011. ص: 49. | 4. فرد ب. ميليت وجيرالد ايدس بنتلي، فن المسرحية، ترجمة: صدقي حطاب، دار الثقافة - بيروت. ص: 56. | 5. أرسطو طاليس، فن الشعر. مرجع سابق. ص: 96. | 6. أكروبولوس من المعالم التاريخية القديمة في أثينا، وهو معبد يعود لليونانيين يقع على هضبة عالية من الصخور. ويعد من أجمل المواقع التاريخية في اليونان. | 7. كمال الدين حسين، مدخل لفنون المسرح، مركز الإسكندرية للكتاب، الإسكندرية 2007. ص: 83. | 8. لتعميق المعرفة أنظر كتاب: كمال الدين حسين، مدخل لفنون المسرح (الصفحات: 85، 86، 87).

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها