بين حضارة الصورة.. وفلسفة الفنون الجديدة

نجاة مكي: من عالم الفن التشكيلي إلى عالم الفن الرقمي

إبراهيم الحجري


تنخرط الفنانة نجاة مكي في التحولات الثقافية، وتسعى لتفكيكها بوعي، ثم تستدرج عناصر منها لتقحمها في تجربتها التي تحاول أن تجعلها مستوعبة لكل مناحي الحياة، ومكتشفاتها، وتلتقط مادتها التشكيلية من كل العناصر التي يمكنها إغناء المنجز، ومنحه دلالات أعمق، وأكثر تجذراً في الحس البشري! إنها لا تتعصب للحوامل المسندية، ولا للمواد الصباغية، ولا للأدوات التقليدية التي تعاملت معها سنوات، وراكمت فيها عدداً كبيراً من اللوحات عرضت داخل الإمارات وخارجها؛ ونالت إعجاب المتذوقين من فنانين وجمهور مهتم، ونقاد فنيين، نظراً لما تتميز به هاته التجربة من عمق وفرادة، وهي فوق ذلك، لا تعتد بأي تقنية أكثر من أخرى، ولا تتعصب لاتجاه مخصوص بعينه؛ لأنها راكمت فيه تجارِبَ، بل تنتصر لروح العصر، وهبات الحداثة المتواصلة التي لا تستقر على طريق حتى تجد غيره، وكلما تطورت وسائل التواصل؛ وتقنيات التفاعل، وتكنولوجيا الإعلام، تجاورت الفنون؛ وتلاشت الفوارق بينها؛ وساد بينها نوع من التقارب والتعاون والانفتاح، فكانت الفنانة مكي تعي هاته المتغيرات، وتتجاوب معها معلنة انسلاخها النسبي عن مرحلة لتدخل مرحلة أخرى، بما يستلزمه ذلك من تجديد في الأدوات، والتقنيات، وتنويع في مصادر المادة، ووسائط العرض، وشكل المنجزات، وأفق دلالاتها المستغرقة في تفاصيل العالم من حولها.

1. الانفتاح على الممارسات الثقافية

عطفاً على ما سلف؛ يلاحظ أن نجاة مكي تنوع من مادتها التشكيلية، وتسعى لاستضمار أكبر عدد من الممكنات والوسائل المتاحة لها، وتقحمها في اللوحة المسندية، فهي بقدر ما تظل وفيةً للقماش والمواد الصباغية؛ تلح على تلقيح تجربتها بإقحام الأتربة، والأثواب المزخرفة، والزجاج، والكريستال؛ والخزف، والعقيق، والحجر اللامع، والصور، والجرائد، والخطوط العربية، والمخطوطات، وغيرها من المواد المتنوعة؛ كما أنها تدرج ضمن إطار اللوحة، كتابة بخطها الشخصي: كلمات وجمل وعبارات توضع بشكل فوضوي في فضاء اللوحة، أحياناً لها معنى؛ وأحياناً أخرى لا تحمل دلالة في ذاتها؛ لكنها تدل في إطار علاقتها المتجاورة والمتشابكة بكون اللوحة في شموليتها؛ لكونها تؤسس مع العناصر الأخرى؛ مجموع المؤشرات البصرية المشيدة لروح المدلول الكلي الذي لا ينتسب لعنصر بعينه، بل يرتبط بالنظرة الكلية الملحمة لكون اللوحة؛ وتقحم أحياناً أخر؛ أبياتاً شعرية لشعراء عرب؛ تفتتن بها؛ وترى فيها قوة ورصانة؛ وقرباً من رؤياها للعالم؛ بغير انتظام في فضاء لوحتها؛ لتزيد من غنى كونها البصري، وتعدد محمولاتها الدلالية.

واستناداً لوعيها البصري والجمالي؛ وتكوينها الأكاديمي في جمالية العملات المعدنية والنقود التقليدية العريقة؛ باتت تشتغل على عالمها التشكيلي؛ انطلاقاً من هذا الحضور الواعي لجمالية العملة النقدية المعدنية، فجعلت منها مادة لمشروع كبير انشغلت به سنوات طوال بتؤدة وصبر. وهذا يتناغم مع تصورها لتكوين اللوحة والشكل البصري الدال؛ إذ تعتبر اللوحة عالماً مفتوحاً على الاشتغال مثل قصيدة لا تنتهي، تظل أمام عينيها، تطفح بالمعاني المتدفقة كلما راجعتها أو عادت إليها؛ فهي تضيف إليها وتغنيها مع الوقت؛ لتطول حياة العمل عليها، وليس للوحة التشكيلية -في منظورها- من شكل جاهز مسبقاً؛ بل إنها كون منفتح على التعديل والتنقيح والمحو والتشطيب، في انشغال دائري متواصل. ومن هنا؛ تنسجم نظرتها مع طبيعة الفن الرقمي؛ من حيث الآفاق المفتوحة على المتغيرات المستمرة بسلاسة، وإتاحته لهذه الإمكانيات أكثر مما تتيحه أساليب العمل التقليدية.

إن الفنانة نجاة مكي تشرع في لوحة ما بتصور معين، باعتباره منطلقاً مبدئياً؛ ثم سرعان ما يفتح لها العمل أفقاً آخر؛ فتضطر لتعديل ممكناتها ورؤاها لكون اللوحة؛ وتستبدل وسائلها بوسائل جديدة تطور الأداء الجمالي والبصري؛ وتبدو لها في الأفق أخيلة لوحات أخر، مترابطة، ومتعالقة مع سابقاتها، في شكل توليدي متراكب يتراءى في تجل يشبه الأسقف المتراكبة. وهذا يتطابق مع طبيعة اشتغالها الفني الذي يؤطره مشروع متناغم مشدود الأهداف، مسنود بوعي نظري، وخلفيات معرفية، وتبصر بالواقع، وقراءة دقيقة للمعادلات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تهم المجتمعات العربية برمتها، في علاقة بما يجتلب من وقائع وتحولات ضمن محيط دولي يغلي بالتحولات، وينبض بالمخاضات.

2. حضور بصمة النوع

نلفي في كل المنجزات التشكيلية التي راكمتها الفنانة نجاة مكي، حضوراً باذخاً لبصمة المرأة بمعناه الإيجابي؛ سواء من حيث اختيار المواد التي تنتقى من عالم المرأة، مثل: الخيوط والثوب النسائي، والألوان القوية الفاتحة، والأشكال الزخرفية المتميزة، ذات الميول النسائي، أو من حيث ميلها إلى توظيف الطبيعة بنفس رومانسي باذخ، أو من حيث العمل على مركز متكرر في مختلف الأعمال بشكل أو بآخر؛ وهو تردد أطياف نسائية تلح على حضور الكون التشكيلي بشكل مثير للتساؤل.

تحضر أيضاً شخصية المرأة في تنظيم العالم التشكيلي، ومنحه تلك الصبغة الجمالية المتفردة التي تغيب في كثير من المنجزات الرجالية، فيبدو عالماً أنيقاً، متلفعاً بوقار وهيبة؛ ومستنيراً بخيوط من الدهشة الفطرية التي تتقنها المرأة الخلاقة؛ وكأنك في عالم شهرزادي يستدعي من ليالي الشرق القديم بهاءه وسحره.

بالتأكيد، لا تتعصب الأعمال في أي بعد من أبعادها، لقضية المرأة أو أسئلتها النوعية؛ بل إن الغالب عليها هو النظرة الشمولية لقضية الإنسان؛ وهمومه وانشغالاته دون تمييز، وكأن المشروع الفني لدى نجاة مكي؛ لا يميز أبداً بين المرأة والرجل؛ من حيث الأسئلة الكلية، ولا ترى أبداً مدعاة أو ضرورة لذلك. لكن لمسة الأنثى تحضر ضمنياً من خلال الأسلوب الجمالي المقتفى؛ وشكل توزيع نظام العالم التشكيلي؛ دون نسيان الميولات السلسة نحو المضامين الشفافة، والانثيالات الدلالية والرمزية الرقراقة، والمواد والمشغولات النسائية؛ والاختيار الواعي أو اللاواعي للمفردات الرقيقة، مع التمسك بالتفاصيل، التي قلما ينتبه إليها الرجل، فضلاً عن انتقاء إيقاعات لونية وضوئية حالمة تستقي فلسفتها من ميول فطري مشبع بحب الحياة، والنظر للعالم والأشياء بعفوية وإيجابية، مع الاحتكام للبساطة وحسن التموقع الرمزي بين الذات والآخر، دون إفراط أو تفريط. كل ذلك، إذا ما تعزز برمزية الأطياف النسائية التي تسجل حضورها القوي في مشروع الفنانة نجاة مكي البصري برمته، سواء في لوحة المسند، أو في الأشكال المنحوتة، أو تلك المعالجة رقمياً وتفاعلياً.

3. الوسيط التكنولوجي.. وأفق الانتقال والتحول

تؤمن نجاة مكي بالمتغيرات، وتعتبر التحولات التي يعرفها الإنسان أمراً طبيعياً بحكم الحركية العلمية والتكنولوجية التي تعرفها الساحة الدولية، وترى أن الانخراط في هاته السيرورة شيء حتمي على كل الشعوب والأفراد تماشياً مع ضرورة مواكبة العصر، وروح المستجدات الراهنة التي تتفاعل في أفق تغيير متواصل؛ لذلك فهي لا تتوانى لحظة في مواصلة كشوفاتها، مستغلة كافة الآفاق والإمكانيات التي تضعها التكنولوجيا والعلم رهن إشارتها دون تموقف، أو أحكام مسبقة.

لم يصرفها انشغالها بلوحة المسند، وعالم المنحوتات، عن مواكبة كافة الإنتاج البصري الفني؛ من فنون الشارع، والأنستليشن، وفنون العرض، والبوب آرت، وفن الفيديو، والفن المفاهيمي، والكاليغرافية، وفنون الأداء، الفوتوغرافيا، وغيرها من الفنون البصرية التي بدأت تنتشر بسرعة مستفيدة من خدمات التكنولوجيا البصرية تحديداً، كما أنها لم يفتها ركوب مغامرة الفن الرقمي، حيث بدأت تتفاعل مع رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وتنشر أعمالها عبرها، محققة تفاعلا جيداً مع متابعي أنشطتها؛ مثلما عرضت أعمالها في غاليريات ومعارض رقمية، وإلكترونية. ولها في العمل بما يسمى بالفن الرقمي، تصور خاص؛ ذلك أنها تبدأ عملها بشكل أولي على القماش أو الورق، ثم بعد ذلك تحولها إلى جهاز الحاسوب، عبر جهاز السكانير، وبعدها تواصل العمل عليها رقمياً، مستفيدة من خدمات التكنولوجيا البصرية، وبعض البرانم الخاصة بتجويد الصورة، وتحسين المشهد العام، وإقحام بعض المواد الجديدة عليه، وهي خيارات متوفرة بشكل جيد، تتيح للفنانة، التحكم أكثر في المنجز الفني، وتعديله بسهولة، والاحتفاظ به إلكترونياً بعيداً عن العبئين المادي واللوجستيكي، واشتراطات المساحة وإكراهات الحيز المكاني، وغير ذلك من السياقات المصاحبة.

وتتحفظ نجاة مكي في نظرتها للفنانين من الجيل الجديد الذين يرتمون في أحضان التقنية مباشرة، ويلجون عالم الفن الرقمي دون سابق خبرة لعالم الفن التشكيلي، وأحياناً بلا وعي مسبق بأصول المادة البصرية، وظروف اشتغالها، وإرهاصات تكون اللحظة الفنية، وفكرتها المرجعية، وكأن الفن ببساطة، حسب تصورهم المتسرع؛ هو مجموعة من الممارسات ذات الطابع الآلي الجاف، والتقني الصرف، ضاربين عرض الحائط اشتراطات الموهبة والتجربة والصقل، والخبرة اللازمة بالمادة التشكيلية، واللمس التفاعلي للأدوات العملية، والاحتكاك بعالم اللوحة وأسنادها ومحمولاتها قبل كل شيء. إنها تراهن على جيل منفتح على التقنية، ومتفاعل مع عصره التكنولوجي بوعي وذكاء وانتقائية، وحس عال من المسؤولية تجاه الإرث الفني والتراث الجمالي، بما يطعم الذاكرة الفنية العربية الإسلامية، ويجدد نسقها، لكن بدون وعي اختزالي، ونظرة تجزيئية لعالم الفن ومدخلاته ومخرجاته، مقترحة أن تكون النظرة شمولية لا يشوبها القصور من أية زاوية، نظرة ترى، في التراث الفني، سحره وبهاءه وتاريخه، ومجده الزاخر، وتتطلع في مستقبل الحداثة وتكنولوجياتها إلى أفقها المفتوح، وألقها البعيد، في انسجام بين المعرفة والوعي، والتجربة والممارسة، والفكر والغايات المؤسسة على النضج والسؤال المعرفيين، وإدراك الخصوصية الفنية للهوية والذات، في تناغم بين المواقف والمنتج، واصطفاف إلى جانب حضارة الصورة، وفلسفة الفنون الجديدة التي لا تؤمن بالحدود والفوارق والمسافات والجغرافيات.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها