فَنُّ الوَشم الشَّعبِي.. بين الماضي والحاضر

د. نفيسة الزكي


يعد فن الوشم من الفنون التي انتشرت في المجتمعات البشرية القديمة؛ فقد عُرف عند الصينيين والهنود والسومريين والآشوريين والبابليين والفرس والفراعنة وغيرهم، وقد كان يتخذ لأغراض متعددة؛ إذ استعمل عند بعض القبائل كعلاج وآلية لإبعاد السحر والحسد، فيما اتخذته بعض القبائل الأخرى كقربان لفداء النفس أمام الآلهة أو تعويذة ضد الأرواح الشريرة، كما استخدم الوشم لتحديد الانتماء القبلي، وتمييز مجموعة بشرية معينة عن غيرها، فيما كان يستعمله الكثيرون ولا زالوا للزينة؛ إذ يضفي على الجسد سمة الحسن والبهاء والجمال، والغرض من ذلك هو جذب الآخرين وإثارة انتباههم، بمعنى أن الوشم يستعمل كنوع من "الماكياج" من أجل التجميل وإثارة الإعجاب، فيستحيل بذلك الجسد كصفحة للقراءة، أو كنص يصبح الوشم فيه كخطاب.
 


وقد عُرف الوشم عند العرب في الجاهلية، حيث كانت النساء يشمن على الوجه واليدين والزِّند، وقد اهتم الشعراء آنذاك بهذه الظاهرة كقول زهير بن أبي سُلمى:
وَدَارٌ لَهَا بِالرَّقْمَتَيْنِ كَأَنَّهَا .... مَرَاجِعُ وَشْمٍ في نَوَاشِرِ مِعْصَمِ

وقول طرفة بن العبد:
لِخَوْلَةَ أَطْلالٌ ببُرقَةِ ثَهْمَدِ ... تَلوحُ كباقي الوَشْمِ في ظاهر اليَد

وقول الأعشى:
تَرُدُّ مَعطوفَ الضَجيعِ عَلى ... غَيلٍ كَأَنَّ الوَشمَ فيهِ خِلَل

والوشم كما صرح عبد الكبير الخطيبي في كتابه "الاسم العربي الجريح": هو عبارة عن علامة سيميوطيقية أو أيقونية يضعها الإنسان على أطراف جسمه، كأن تكون في وجهه لإخفاء تجاعيد الزمان وندوبه، أو فوق كتفه، أو في ذراعه، أو في يده كفاً ومعصماً، أو في أطرافه السفلى... وينقش ذلك كله بالإبرة أو بآلة حادة، ثم يملأ الوشم بالحنّاء، أو الكحل، أو النّيل، وبعد ذلك، يتخذ أثر الوشم في الجسم لوناً أزرق أو أخضر. ومن هنا، فالوشم عبارة عن اختراق للجلد شقاً أو خدشاً، وهو بذلك عملية دقيقة جداً، تتميز بقواعدها وشروطها وطقوسها الخاصة.

والوشم كما هو ملاحظ يتخذ عدة أشكال هندسية، ورموز وعلامات لها دلالات مختلفة؛ منها النقطة أو سلسلة من النقط، ومنها الخط المستقيم وما يتفرع عنه من زخارِف بسيطة أو مركبة، ومنها الزخارف الصليبية أو النجمية الشكل، ومنها الأشكال الدائرية، والمنحنيات المتماثلة وغير المتماثلة، ومنها الخطوط المتوازية، والخطوط الملتوية، والخطوط المائلة، والخطوط المتشابكة، والخطوط المتداخلة والمتقاطعة، ومنها المثلثات، والمربعات، والمستطيلات، والدوائر، ومنها الحروف، وعلامات زائدة، ومنها الشارات العسكرية، والزوايا المتعارضة أو القائمة أو المتوازية، ومنها الأشكال النباتية والحيوانية والطبيعية، ومنها المشبكات، والأشكال الخماسية، والتيجان وغيرها.

وقد لاحظ كثير من المتتبعين والدارسين لهذا الفن أن النساء أكثر تعاطياً له، فقلما نجد امرأة بدون وشم ولاسيما في البوادي والقرى، وهو ما حدَا بالباحثة فاطمة الزهراء زعيم صاحبة "الوشم تميز هوياتي ونضج جنسي" إلى الاعتقاد بأن الوشم فوق جسد المرأة هو دليل على الاكتمال والنضج الجنسي لديها، وعلامة العافية والخصوبة، فلا توشم إلا الفتاة المؤهلة للزواج، فهو رمز على اكتمالها جمالا، وقدرتها على تحمل أعباء الحياة الزوجية، كما تحملت آلام الوخز.

غير أن هناك من يخالف هذا القول، ويظن أن الوشم بكل ما يعنيه من وخز وألم كان يستعمل لكبح جماح الغريزة، وتدبير الطاقة الجنسية لدى الفتاة، ويستندون في تبرير ظنهم هذا بوجود الوشم لدى بعض النساء في أماكن حساسة ومستورة من جسدهن كالثديين والفخذين، وهو ما قد يكون علاجاً زجرياً لهن في حالات الفوران الجنسي.

وفي الإطار نفسه يرى الباحث الأنثروبولوجي بلقاسم الجطاري في "الوشم كظاهرة سيميوطيقية في الثقافة الأمازيغية": أن الوشم في بعض المناطق المغربية يكون خلال الاحتفال ببلوغ الفتاة سن الرشد؛ أي بعد أول حيض لها، حيث تستخدم الكبيرات من نساء القبيلة المشارط لعمل خطوط معينة تحت الشفة السفلى، إلا أن وشم النساء لدى معظم القبائل، يبقى في الغالب علامة من علامات التعبير عن الذات، وكثيراً ما يأتي استجابة لطلب الرجل الذي يرى فيه إقراراً بامتلاكه التام لزوجته، فجسم المرأة ليس ملكاً لها كما يعتقد، بل لزوجها، فله الحق في وضع خاتم ملكيته عليه، كما هو الشأن في النقطة الحمراء التي يضعها نساء الهنود على جباههن.

أما عند الرجال فينتشر الوشم ذو الطابع الكتابي، حيث ترسم بعض الكلمات أو السطور على الأذرع والسّواعد خاصة حتى يتسنى للرائي قراءتها، ويرجح عند الكثيرين أنها عبارة عن أفكار ورغبات أبى الفرد أن يبوح بها فكان البديل بالنسبة إليه تجسيدها على جسمه، إلا أن هذه الكتابات تحمل في كنهها دلالة نفسية واجتماعية، بمعنى أنها قابلة للتفسير، فقد اكتشف التحليل النفسي أن أغلبها ذات معنى، من حيث هي تعبير حتمي عن انفعالات ورغبات مكبوتة في اللاّشعور.

الوشم إذن؛ يمارس في كثير من الحالات دور اللغة المنطوقة بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ فهناك أشخاص يرسلون رسائل وآخرون يستقبلونها ويفسرونها ويتأثرون بها، فالوشم ليس مجرد رسومات ورموز كما يعتقد البعض؛ وإنما هو لغة مفهومة وذات مقاصد واضحة بين جل أفراد المجتمع، فغالباً ما يهتدي من يمارسون هذا الفن إلى رموز وكتابات معينة يستعملونها نيابة عن لغة الكلمات، ويجسدونها في رسوم يختصرون بها العديد من الجمل، فالوشم بالمحصلة لغة قائمة بذاتها تختزل قصصاً، وتعبر عن رغباتٍ، وتدل على أنماطٍ من الشخصيات، يتخاطب بها أفراد العشيرة أو القبيلة أو المجتمع في صمت، بعيداً عن لغة الحروف والإشارات، وبعيداً حتى عن الإيماءات الوجهية.

هكذا إذن؛ يتبين لنا أن الوشم تعبير صادق عن أحاسيس الفرد وانفعالاته إزاء الطبيعة والآخرين، لكن ما يمكن التنبيه عليه هو أن الوشم كما أكّدت مختلف الدراسات العلمية له أضرار ومضاعفات جانبية، كالإيدز والسرطان وغيرهما من الأمراض الأخرى، فضلاً عن تلك التشوهات التي يتعرض لها الجسم الموشوم إثر محاولة إزالة تلك الرسوم أو الرموز، إلا أنه رغم ذلك لا زالت بعض الفئات الاجتماعية في عصرنا الحالي، ولاسيما في المجتمع الغربي تلجأ إلى هذه الممارسة اعتقاداً منها أنها "موضة" العصر.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها