◁ سرقة الحجر الأسود
هناك محاولات كثيرة عبر التاريخ الإسلامي لسرقة الحجر الأسود من الكعبة، معظم هذه المحاولات كانت تبوء بالفشل قبل اكتمالها، وكان يقع عقاباً شديداً على مَن حاول سرقة الحجر الأسود أو اقتلاعه من مكانه يصل للقتل والحرق، ولعلّ أحد أهم هذه المحاولات وأكثرها شهرةً ما فعله أبو طاهر القرمطي ملك البحرين وزعيم القرامطة، بهجومه على بيت الله الحرام في يوم التروية، ومحاربة الحجيج أثناء قيامهم بمناسك الحج، وقتل الكثير منهم، وكذا من أهل مكة وزوارها من البلاد المحيطة بها، واستطاع بعد هذه المعركة أن يقتلع الحجر الأسود من مكانه، كما قام بخلع باب الكعبة أيضاً.
ويذكر في الكثير من المصادر التاريخية الموثقة أن عدد القتلى جراء هجوم القرامطة على الكعبة، واقتلاع الحجر الأسود من مكانه زاد عن ثلاثين ألف قتيل، نعم الرقم الذي قرأته صحيح، قتل القرامطة في هذا اليوم من عام 317 هجرية، والموافق 892 ميلادية ما يزيد عن ثلاثين ألفاً من الحجاج، ومن غير الحجاج، حتى امتلأت ساحة الكعبة بالدماء التي كانت تكفي لأن تغوص فيها أقدام السائرين، ولم يكتف القرمطي ببشاعة جريمته بقتل كل هؤلاء الناس، لكنه أمر أيضاً أتباعه بأن يتم إلقاء القتلى داخل بئر زمزم وردم البئر بجثثهم، ووقف صارخاً كالمجنون أمام الكعبة وهو يقول: " أنا الله، والله أنا.. أخلق الخلق وأفنيهم أنا".
وبعدما نهب القرمطي أموال الحجيج وما استطاع عليه من كنوز مكة، حمل القرامطة الحجر الأسود وخرجوا به من مكة متوجهين إلى بلادهم، وعندما لحق بهم أميرها محاولا التفاوض معهم لأخذ الحجر الأسود، ومنحهم الأموال التي يريدونها رفضوا فقاتلهم، لكن القرامطة تغلبوا عليه فقتلوه وقتلوا معه الكثير من أهل بيته، وأكمل القرامطة سيرهم بالحجر الأسود وأموال الحجيج إلى بلادهم، وهناك وضعوا الحجر الأسود في دار واسعة في منطقة الإحساء، وأمروا الناس وخاصة ممن يسكنون منطقة القطيف المجاورة أن يطوفوا من حوله ويتبركوا به، ومعظم من أمر بذلك رفض الأمر، وهو ما تسبب أيضاً في مقتل الكثير من أهل القطيف.
◁ 22 عاماً
ظل الحجر الأسود خارج مكانه من جدار الكعبة لمدة 22 عاماً، وهو في قبضة القرامطة، حتى تمت إعادته عام 339 هجرية، والموافق 951 ميلادية بعد موت أبي طاهر القرمطي في نفس العام، وبالرغم من بشاعة تلك الحادثة إلا أن محاولات سرقة الحجر الأسود لم تتوقف بعد هذا التاريخ؛ وإنما استمرت لعدة محاولات أخرى ليس هنا مجال ذكرها، لكن تظل محاولة القرامطة هي المحاولة الأكثر دموية، والأكثر رعباً في كل حقب التاريخ الإسلامي.
◁ سرد وقائع ما جرى في مسرحية الحجر الأسود
الأعمال الدرامية والفنية التي تناولت قضية سرقة الحجر الأسود نادرة إلى حد بعيد، ومنها هذا النص، نص مسرحية "الحجر الأسود" والذي كتبه د. سلطان بن محمد القاسمي، والنص لا يعالج حادثة السرقة فقط، بل يمتد تاريخياً لما قبلها، من تلك اللحظة التي أعلن فيها عبدالله بن المعتز في عام 296 هجرية توليه منصب خليفة المسلمين بعد موت الخليفة المعتضد، وإرسال بن المعتز بالمنادي ليجوب أنحاء بغداد ليعلن عن توليه الخلافة، وخلع المقتدر بن المعتضد عن كرسي الحكم، الذي كان طفلا صغيراً آنذاك، لكن كان لأم الخليفة المقتدر بن المعتضد -والذي لم يتجاوز عمره13 عاماً- رأي آخر في ذلك، لقد جيشت الجيوش وأرسلتهم لقتال بن المعتز حتى هزموه، وجاءوا به إليها مسلسلا في الأغلال وتم وضعه في السجن.
على الجانب الآخر يَودّ مؤسس وزعيم القرامطة أبو سعيد الجنابي غزو بغداد ومحاربة الخليفة المقتدر، والذي يرى أنه لا يقوى على حماية بلاده، يعد الجنابي العدة لذلك، ومعه قادته الخمسة لكن خادم الجنابي "الخادم الصقلبي"، والذي كان جندياً في جيش المعتضد، وله من الأهل والأقارب في بغداد ما يخشى عليه، يُقرّر منفرداً قتل الجنابي ليمنعه من غزو بغداد، وبالفعل يستطيع أن يقتل الجنابي ومعه أربعة من قادته الكبار.
إلى هنا لم يكن قد ظهر بعد في الصورة صاحب حادثة سرقة الحجر الأسود "أبو طاهر سليمان الجنابي القرمطي"، وهو الابن الأصغر لسعيد الجنابي، بعد موت الأب سعيد الجنابي مؤسس القرامطة على يد "الخادم الصقلبي" ظهر ابنيه "سعيد، سليمان"، حيث تولى سعيد في البداية زعامة القرامطة لكن سرعان ما أزاحه أخوه سليمان (أبو طاهر القرمطي) عن الحكم، وحل محله في زعامة القرامطة إلى أن وصل به الأمر لسفك الدماء وسرقة الحجر الأسود.
كما يتطرق النص بعد حادثة سرقة الحجر الأسود إلى ظهور أبي الفضل زكريا مدعي الألوهية، والذي نجده يردد بصوتٍ عالٍ مخاطباً الناس كإله:
"أيها الناس.. أسقطت عنكم الصلاة والصيام، وأبحتُ لكم اللواط ونكاح المحرمات وشرب الخمر، وآمركم أن تجعلوا في هذه البلدة أربعة بيوت في كل الاتجاهات توقد فيها النار ليل نهار". (النص، ص: 43).
وخوف "أبو طاهر القرمطي" من هذا الرجل مدع الألوهية في بداية الأمر هو خوف مرضي؛ إذ لا يقبله العقل السليم المتوازن، ثم انقلابه عليه وقتله ذبحاً بالسكين بعدما تيقن أنه كذاب، وأنه هو من قتل زوج أخته واغتصب أخته، ففكرة اقتناع "أبو طاهر القرمطي" بألوهية "أبو الفضل زكريا" في البداية تكشف لنا عن عقليته المرتبكة، المشوشة والمهووسة، تلك العقلية التي تتسق مع ما أقدمت عليه من حوادث قتل مرعبة، بهذا الشكل الذي ظهر داخل أحداث النص.
وبعد التخلص من مدع الألوهية "أبو الفضل زكريا" تمر السنوات داخل النص -عبر قفزة زمنية لملاحقة الأحداث التاريخية الكثيرة لحادثــة سرقة الحجر الأسود- لنصل إلى عام 339 هجرية، وهو العام الذي مات فيه "القرمطي" بسبب الجدري، وأعيد فيه أيضاً الحجر الأسود بعد وفاته مباشرة إلى مكانه في جدار الكعبة -وهو ما يصوره الفصل الخامس والأخير من النص- لتنتهي بذلك أحداث النص المسرحي، وينتهي أيضاً فصل من العبث والدموية تسببت فيه القرامطة.
◁ أسباب للسرقة
والمتأمل لحادثة السرقة لا يجد تفسيراً منطقياً دفع بأبي طاهر القرمطي لذلك، ولقد أكد ذلك النص المسرحي عبر مقولة للقرمطي، ففي ص: 36 نجد أبا طاهر يقول:
"ذهبت للحج، فلم يعجبني ذلك الحج، فخرجت مع جماعتي على الحجاج يوم التروية، فأخذت أموالهم، وقتلت الكثير منهم، وأمرت بأن ترمى جثثهم في بئر زمزم، ونزعت كسوة الكعبة وشققتها بين أصحابي، وقلعت الحجر الأسود... ومن بقي على قيد الحياة من الحجاج، يقول: لا.. لا، وأنا أقول: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل".
فشخصية أبو طاهر القرمطي من تلك الشخصيات المهوسة بالزعامة، ذلك النوع من الهوس الذي يجعلها تصل في لحظة لادعاء الألوهية؛ لذا فنحن نجده يصل إلى مرحلة كبيرة من تضخم الذات، عندما نجده يردد داخل النص المسرحي تصوره المبالغ فيه عن نفسه [ص، 37]:
"هذا هو الحجر الأسود، أحضرته، طوفوا حوله، ورددوا معي: (أنا الله والله أنا). والوصول لتلك المرحلة من الهوس والإحساس المبالغ فيه بالعظمة لا يستطيع أن يوقفه أحد، لذا نراه يستمر في عنفه ويقتل كل من يرفض طريقته الجديدة في الحج بالطواف حول الحجر الأسود، الذي اقتلعه من جدار الكعبه ووضعه في سياق آخر غير سياقه الأصلي، فالأمر كله من البدايه للنهاية ليست له أية علاقة بعقيدة دينية أو غير دينية، عقيدة ما أيا كانت هي لكنها على الأقل متماسكة فكرياً لدى أبي طاهر القرمطي، فتلك العقيدة وهذا التماسك الفكري الذي يخرج عنها لا يوجد منهما شيء لديه، فقط تصرفاته تنبع من هوسه الشخصي ورؤاه الدموية للواقع.
◁ رؤية حول العنف
النص المسرحي "الحجر الأسود" لا يصور درامياً مقتل الحجيج حول الكعبة، بل يكتفي فقط بذكر ما حدث لهم عن طريق السرد، ذلك السرد الذي يأتي غالباً داخل النصوص المسرحية، بعد أن يكون الحدث الدرامي قد تم وانتهى بالفعل، وهذا هو شأن النص في الكثير من مواطنه؛ إذ تغلب عليه الطبيعة السردية كبديل للتصوير الدرامي، وعدم تصوير مشهد مقتل الحجيج واقتلاع الحجر الأسود من جدار الكعبة غالباً يعود -عبر الرؤية التي يتبناها النص- لقداسة هذه الأماكن وعدم الرغبة في تجسيد ما هو مقدس.
ومما يؤكد تلك الوجهة من النظر أن النص يحتوي على مشاهد تماثل في العنف مشهد قتل الحجيج، ومنها مثلًا مشهد قتل الخادم الصقلبي لأبي سعيد الجنابي ولأربعة من قادته الكبار في حمام المنزل، وهو المشهد الذي استهلك صفحات الفصل الثاني من 23 إلى 32، ومن المشاهد العنيفة الأخرى التي تضمنها النص المسرحي أيضاً، وقام بتصويرها درامياً مشهد قتل أبي الفضل زكريا ذبحاً بالسكين على يد سعيد الجنابي:
"سعيد يذبح أبا الفضل، فتسيل الدماء على صدره، ويسقط جثة على الأرض" [ص: 51].
وهذا المشهد على ما به من عنف ظاهر لا ينتهي عند هذا الحد، بل نجد أخت سعيد بن حسن الجنابي، والتي اغتصبها أبو الفضل زكريا بعد أن قتل زوجها، نجدها تطالب استكمال حالة العنف بطلبها:
"الأخت: شق بطنه يا سعيد! اخرج لي كبده حتى آكلها! [ص: 51].
وهو الأمر الذي ينفذه سعيد:
"سعيد يخرج كبد أبي الفضل زكريا، ويناولها لأخته فتأخذ في نهشها والدماء تسيل من فمها..." [ص: 52].
إذن؛ فكرة العنف غير مرغوب فيها -داخل النص المسرحي الحجر الأسود- إذا ما اشتبكت بما هو ديني ومقدس، وغير ممنوعة وجائزة فيما عدا تلك الجزئية، وهو في نهاية الأمر أسلوب مسرحي خاص بكتابة هذا النص، وهي وجهة نظر خاصة به إيزاء تصوير مشاهد العنف.
◁ سمات شكلية ومضمونية
توجد مجموعة من السمات الكتابية الأساسية التي تسيطر على شكل كتابة نص "الحجر الأسود"، منها ما هو كمي يتعلق بالشكل الذي وضع عليه النص، والخاص بتقسيم أحداث النص وتوزيعها على خمسة فصول بشكل كلاسيكي، هذا بالرغم من أن هذه الفصول قصيرة جداً، وقد تصلح لأن تكون مجرد مشاهد أكثر منها فصولا، ومنها ما هو مضموني ودرامي، فالزمن الدرامي مثلا يمتد بأحداث النص لعدد كبير من السنوات، تبدأ بعام 296 هجرية، عندما أعلن عبدالله بن المعتز توليه الخلافة، وتمتد الأحداث متقافزة في الزمن حتى نصل إلى عام 339 هجرية، عام عودة الحجر الأسود إلى جدار الكعبة مرة أخرى، وبعد غياب 22 عاماً؛ أي أننا ندور في فلك زمن درامي يزيد عن الـ35 عاماً، وهو نفسه زمن الحبكة الدرامية، وبالرغم من أن النص كان من الممكن أن يختار زمناً أقصر لحبكته، يصور عبره حادثة درامية واحدة من تلك الأحداث الكثيرة التي يحتوي عليها، ثم عن طريق: التقديم والتأخير، الحكي، الاسترجاع المسرحي... يتم سرد بقية الأحداث الواردة بالنص كلها، إلا أنه اختار طريقته الخاصة في التعبير على هذا النحو الذي أوردناه.
هناك -أيضاً- تقافز في الزمن لملاحقة أحداث الفترة التاريخية -الكبيرة نسبياً- كلها، والتي يمكن لعدد من كتاب الدراما التوقف عند كل ثيمة منها، وبناء عمل مسرحي كامل عليها، فالنص يزخر بمثل تلك الثيمات، نرى منها مثلاً: قتل الخادم الصقلبي لزعيم القرامطة وقادته، ادعاء أبو الفضل زكريا للألوهية... ومنها أخيراً حادثة سرقة الحجر الأسود، لكن النص اختار تلك الرؤية البانورامية.
◁ الالتزام بالتاريخ
يختار النص فترة زمنية هامة جداً، وحقبةً من حقب التاريخ الإسلامي في غاية الخطورة، ويأبى النص تغيير هذا الواقع بل يقدمه مكثفاً وفق شروط الدراما ليمنحك تلك الجرعة الدرامية المكثفة مرة واحدة، فهناك التزام بالوقائع التاريخية وبسنوات حدوثها، وكذا بالشخصيات التاريخية وأماكن الأحداث، وهو ما يعني نوعاً من مسرحة التاريخ وإظهاره في شكل درامي بهدف إلقاء بؤرة من الضوء عليه، فالنص حلقة مكتملة للصراع الدامي ما بين القرامطة، وما بين دولة الخلافة العباسية، يمكن لقارئه الإلمام بأهم الحوادث التاريخية مما حدث في هذه الفترة التاريخية الشائكة، كما أن ذلك لا شك سيثير فضوله لقراءة المزيد عن هذه الصراعات وتلك الفترة، بهدف الاستزادة من المعرفة أو الاستفادة من وقائع التاريخ التي دأبت كل فترة على تكرار نفسها، وبالرغم من هذا فلا أحد يتعلم.
النص يجمع ما بين السرد المسرحي، وحالة من حالات الحكي لما لا يمكن تجسيده على خشبة المسرح كمشهد قتل القرامطة للحجيج كما قلنا، وكذا مشاهد الحروب المختلفة، كما أنه يستعين بوسائل تعبيرية مختلفة، إضافة لوسيلة الحوار المسرحي ومنها: الرقص، الغناء، التشكيلات والتكوينات الحركية، وهو ما يعني مزج الكلمة المنطوقة كمفردة مسموعة بالحركة الراقصة كمفردة مرئية، تضافر السمعي بالحركي، والتشبث بأكثر من وسيلة مسرحية يثري الشكل الدرامي، ويساعد كثيراً على إثارة خيال أي مخرج يتناول تجسيد مثل هذا العمل المسرحي.
إجمالاً:
نحن أمام لحظات تاريخية جاذبة درامياً يعالجها هذا النص، لحظات بها الكثير مما يمكن أن يضيء الواقع، فما فعله القرامطة حسب فهمهم للدين يمكن أن تجد ترديداً له فيما يفعله الدواعش الآن حسب فهمهم المشابه للدين، الماضي داخل النص يزحف على الواقع الآني، ويعيد تفسيره عبر بناء بسيط وزمن درامي ممتد، ولغة سهلة لا تتشبث بما هو ملغز ولا تلوي عنق الكلمات، لغة تقصد مباشرة إلى ما تريد قوله دون تزيينات أو اشتقاقات فارغة.
وبالرغم من القطع الطباعي المتوسط للكتاب -كتاب مسرحية الحجر الأسود- وصغر حجم النص، وتقسيمه رغم ذلك لخمسة فصول؛ يمكننا أن نكرر أننا أمام عدة نصوص مسرحية في كتاب واحد، عدة ثيمات تكفي كل واحدة منهن كما ذكرنا لأن تصلح لبناء عمل درامي مستقل، وما فعله هذا الكتاب -النص المسرحي- هو نوع من إلقاء الضوء، وتركيز بؤرته على هذه الحواث التاريخية المهمة، كلها دفعة واحدة مجتمعة، عبر اختياره واعتماده لتلك الرؤية البانورامية.
لقد كان أمام معالجة تلك الفترة التاريخية أمران، أولهما اختيار ثيمة واحدة بزمن درامي قصير يتكاثف داخله ما شئنا من أحداث ماضوية وحاضرة، أو اختيار تلك الرؤية البانورامية الواسعة، لكنه اختار الأمر الثاني، وقدم لنا بنيانه الدرامي الذي رأى أنه الأنسب للتقديم من وجهة نظره.