"يايوي كوساما".. فنانة تترجم هلوساتها إلى لوحات

أمير الشلّي


"يايوي كوساما Yayoi Kusama"، فنانة يابانيّة تُلقّب "بملكة التّنقيط"؛ ذلك لأنّ أعمالها الفنيّة تزخر بأنماط منقّطة تُغلّف كامل لوحاتها ومنحوتاتها ودفاتر رسوماتها، كما تستقرّ هاته الأنماط على كامل جدران الأروقة التي تعرض فيها أعمالها، بدايةً من السّقف مروراً نحو الأرضيّة التي تطؤها أقدام المتفرّجين. عدّتها مجلة تايمز الأمريكيّة واحدة من أهمّ الفنّانات المعاصرات وأكثرهنّ تأثيرًا في العالم، ما دعا دار الأزياء العالميّة "لويس فيتون" إلى التّعاقد معها، من أجل إصدار سلسلة من التّصاميم الّتي تحمل نقاطها. تجمع "كوساما" في أعمالها بين عديد التّيّارات الفنّيّة، حيث نرى في لوحاتها الهذيان السّرياليّ، وأسلوب التّبسيط المينيماليّ، وكذلك ديناميكيّة ألوان البوب الأمريكيّ.
 

وُلدتْ "يايوي كوساما" سنة 1929 في مدينة ماتسوموتو في محافظة ناغوانا اليابانيّة. واجهت "كوساما" في طفولتها صعوبة في الاندماج داخل البيئة الاجتماعيّة المحافظة الّتي كانت تنتمي إليها، ما دفعها إلى الاهتمام بالفنّ في سنّ مبكّرة. عانت "كوساما" من نوبات الوسواس القهريّ، ما اضطرّها إلى قضاء معظم حياتها في مصحّة للعلاج النّفسيّ. تقول الفنّانة عن مرضها: "في أحد الأيّام كنت أنظر إلى أنماط الزّهور الحمراء لمفرش المائدة على الطّاولة، وعندما نظرت للأعلى رأيت نفس النّمط يغطّي السّقف والنّوافذ والجدران، وجميع أنحاء الغرفة، وحتّى على جسدي وعلى كامل الكون، شعرت كما لو أنّني أغوص داخل دورة لا نهاية من الأنماط المتحرّكة، عندما أدركت أنّ ذلك كان يحدث بالفعل وليس فقط في مخيّلتي شعرت بالخوف، فهربت خشية أن أحرم من حياتي بسبب سحر الزّهور الحمراء، ركضت يائسة على الدّرج بدأت الخطوات الموجودة أسفل منّي في الانهيار فسقطت وأصبت كاحلي".

وقد ساعدها فنّ الرّسم في التّخفيف من حدّة هذه الرّؤى الّتي تطرأ عليها من حين لآخر. تقول "كوساما" في تصريح آخر لها: "لا أعتبر نفسي فنّانة، فأنا أمارس الفنّ من أجل مداواة مرضي الّذي أعاني منه منذ طفولتي. أنا أترجم رؤيا إلى لوحات ومنحوتات وتركيبات".

عاشت "كوساما" طفولة مضطربة وسط عائلة ممزّقة، بين والد كان زير نساء، ووالدة متسلطة لم تقدّر موهبتها أو تشجّعها يومًا. أبت "كوساما" الخضوع لإرادة والدتها الّتي مزّقت رسوماتها ونهتها عن الرّسم مرارًا، فقد زادها ذلك إصرارًا فرسمت المزيد ثمّ المزيد في كلّ مكان، على الورق، الأرض، القماش، وحتّى على أكياس البطاطا. في مرحلة المراهقة أقنعت "كوساما" والديها بالسّماح لها بحضور دورة تدريبيّة في الفنون، غير أنّ شعورها بالسّئم تجاه الأساليب التّقليديّة في الرسم الّتي تطالبها بالمحاكاة الدّقيقة أحال دون استمراها في حضور هاته الدّورات الّتي رأت أنها تحدّ من إبداعها.

انتقلت "كوساما" إلى نيويورك في عام 1958 على أمل أن تحقّق حلمها في أن تصبح فنّانة. وسرعان ما انفتحت لها أبواب النّجاح على مصرعيها بعد رحلة مليئة بالتحدّيات، فقد شاركت في العديد من المعارض الفرديّة والجماعيّة بأعمال مستوحاة من الهلوسات التي تطرأ عليها من حين لآخر. وقد اتسم أسلوبها في الرّسم بطابعه التّجريديّ، المتمثّل في مجموعة من الأشكال الدّائريّة المتكرّرة التي تعطي انطباعًا أنها أنماط إيقاعيّة متحرّكة. تتبع الفنّانة خاصيّة الإيهام البصريّ عبر رسم النّقاط بطريقة متوازية، مستقيمة أو متعرّجة مع التّغيير في أحجامها وألوانها. لا تكتفي "كوساما" بالرّسم على سطح اللّوح المسنديّ؛ إذ نجدها تغطّي كامل أرضيّة قاعات العرض وجدرانها برسوماتها التنّقيطيّة. ولتعزيز الانطباع بالإيهام البصريّ، تحشر "كوساما" أشكالاً نحتيّة دائريّة تبدو كما لو كانت تنبثق خارج الأرض والجدران. وأحياناً تحيط الفضاء الّذي تعرض فيه أعمالها بمجموعة من المرايا، فتحضر أعمالها التّنقيطيّة المتكرّرة بصورة تبدو كما لو كانت لا نهائيّة، وبهذا المنهج تخلق نوعًا من التّوتّر البصريّ في ذهن المشاهد مشعرة إيّاه بلانهائيّة أعمالها. لهذا تختار "كوساما" عناصرها التّشكيليّة بعناية حتّى تحقّق قدرًا عاليًا من التّأثير.

أقامت "كوساما" في الولايات المتحدة في أواخر الخمسينات عديد المعارض الفرديّة والجماعيّة، تلقّت على إثرها استحساناً واسعاً من قبل النّقاد والجماهير. لم تستمر إقامة "كوساما" في الولايات المتحدة طويلاً، فقد أصيبت بوعكة صحيّة تزامنت مع وفاة والدها، فأجبرت على العودة إلى اليابان لتلقي العلاج، فاستقرت في مستشفًى للأمراض العقليّة، حيث أسست ورشتها الخاصة بالقرب من هناك، مكرّسة كامل وقتها في الكتابة وإنتاج أعمال فنيّة ذات أحجام ضخمة عرضتها لاحقًا في أمريكا، طوكيو، ميلانو، وكذلك في البندقية. لقد أحدثت "كوساما" في فترة وجيزة ثورة في المشهد الفنيّ الذي كان يهيمن عليه الذكور في نيويورك، لم تكن نيويورك في أواخر الخمسينيات مكانًا يرحب بفنانة أجنبيّة شابّة، لكن "كوساما" نجحت في إثبات نفسها لتغدو اليوم أيقونة من أيقونات الفنّ والموضة، ألهمت تجربتها الأجيال اللاّحقة من المبدعين. توجد أعمال "كوساما" اليوم في عديد المتاحف حول العالم، أهمها متحف الفنّ الحديث في نيويورك، ومتحف تيت مودرن في لندن، كما يوجد متحف خاص بها يحمل اسمها في طوكيو.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها