
في ديوانها الرابع،{حين أردت أن أنقذ العالم}، تختبر الشاعرة المصرية جيهان عمر علاقة الذات بالعالم والوجود ودور الشعر في تمثُّل الذات لنفسها وعالمها، ودور الشاعر في إنقاذ العالم. تبدو قصائد هذا الديوان كمشاهد أو أفكار ورؤى تتداعى على الوعي، وعي الذات الشاعرة، وتتضام في التحام صوري وتشكُّل إيقاعي للرؤى التي يقدِّمها الخطاب الشعري.

من عنوان الديوان، حين أردت أن أنقذ العالم، الذي لا يأتي عنوانًا لأي من قصائده، وإنَّما جاء تحويرًا لأحدى جمل قصيدة منه، "سيرة ذاتية للبحر"، تتبدى مواجهة الذات للعالم وانهمامها به. ثمة همٌّ وجوديٌّ يشاغل الذات ورؤية فلسفية في الوعي بالعالم يطرحها الصوت الشعري عبر نصوص هذا الديوان، كما يلوح أنَّ ثمة أزمة ما، أو خللاً، تحس به الذات في وعيها الوجودي بالعالم.
هوية الذات وعلاقتها بالعالم
يبدو الشعر، في نص جيهان عمر، كمرايا وجودية، تعاين عبره الذات نفسها وتستكشف العالم بل وتعيد صياغة فهمها الوجودي من خلال الشعر، فالذات تعيد تعريف نفسها من خلال الشعر، كما تفهم العالم وتصوغ مفاهيمه له، حيث الصوت الشعري يقدِّم هوية الذات بغنائية مُرهَّفة في وسائل التشكيل الشعري والتخييل التصويري، كما في قصيدة "لا تُعِد السمكات إلى البحر":
أُشبه الماء..
أتدفق دون أن أعلم إلى أين
فكلما وجدتُ شقًّا عبرت
لا أستطيع التوقف حتى لو أردت
لن أستطيع...
حتى حينما يكون التوقف ضروريًّا
أجدني في أماكن غريبة
لم أخطط الذَّهاب إليها
لأنني قابلتُ منحدرًا
أحيانًا يكون الماء قويًّا
أحيانًا دون إرادة
لا أحد يتنبأ بخطوتي المقبلة
أو يقبض عليَّ بأصابعه
لذلك أفشل دائمًا في الحب..
كل رجل يعتقد أنني هنا
يجد يدًا فارغة
يتعجب من وجودي
يتعجب من استحالتي
من قطرة واحدة تبلل الظمأ
حتى الطمعِ الذي يجلب الغرق
تستعمل الصياغة الشعرية استعارة "الماء" تمثيلاً للذات، في هويتها الإشكالية وأحوالها المتعددة، في انسيابها العابر وتدفُّقها الوجودي، وتمددها اللامحدود، ذات لا يحدها مكان أو تقيدها أطر ثابتة، ذات متأبية على التنميط وعصية على التطويع، وقد تذهب بها حركتها إلى ما يخرج عن المألوف، "أماكن غريبة"، فتبدو استعارة الماء تمثيلاً للقدر الذي يذهب بالذات إلى أماكن/ أحوال لم تكن تعلمها، حيث يبدو في تَمثُّل الذات لنفسها شعورها بأنَّ ثمة قوة خفية تحركها.
تعتمد جيهان عمر في بنية التخييل لديها على الاستعارة المُرشَّحة التي توالي في تتابع صور الماء في أحواله وحركته وتناقضاته تمثيلاً لأحوال الذات وما تقابله في عالمها، فتتبدَّى ذروة الترشيح الاستعاري في الاستعارتين اللتين تبدوان معبرتين على حال نقيضين: (استحالتي/ من قطرة واحدة تبلل الظمأ/ حتى الطمعِ الذي يجلب الغرق)، لكنَّهما يبرزان مدى الذات بين الرقة وبساطة التكوين (قطرة واحدة)، وفعل المنح الذي يحيي الآخر ويبلل ظمأه، والانسيال الهادر المُهلِك (الذي يجلب الغرق)، فيعمل الترشيح الاستعاري على تنامي الصورة الشعرية وتمدُّدها.
جدوى الشعر
مما يحضر كموضوع رئيس وهم يشاغل الخطاب الشعري لجيهان عمر في عدد من نصوص ديوان "حين أردت أن أنقذ العالم"، جدوى الشعر وماهيته التي تبدو كسؤال غير محسوم الإجابة، فالشعر كما الذات، عصي على التحديد، وكذلك دور الشاعر، وأيضًا التساؤل حول جدوى الشعر ومدى احتياج الآخر/ العالم إلى الشعر، فتقول في قصيدة "وظيفة شاعرة":
كلما قرأت تلك العبارة
"وظيفة شاغرة"
تسقط النقطة من أعلى الكلمة الثانية
فأقرؤها هكذا
"وظيفة شاعرة"
أفكر أنَّني أبحث عن عمل
لكن كيف يحتاج المرء إلى شاعرة؟
ثم تعود النقطة من تلقاء ذاتها
لا أتوقف عن الوقوع في فخاخ الكلمات
ولا أعرف أية مهمات سأتولى
تنقية الورود من الحقيقة
ورود الشك الصغيرة
التي يمكنها أن تطفو فوق البحيرة
تلك التي صنعتها الدموع
خلف باحة المنزل
تمارس الصياغة الشعرية لعبة المفارقة المعتمدة على آلية الجناس الناقص بين كلمتي "شاغرة" و"شاعرة" نعتًا لكلمة "وظيفة"، ما يفضي إلى تساؤلات حول وظيفة الشعر ومدى احتياج الناس إليه، فتتوارد على الوعي تصورات عديدة حول مهمات الشاعر/ة، كـ"تنقية الورود من الحقيقة"، فهل يكون الشعر إرجاءً مستدامًا للحقيقة وإعمالاً للشك؟ وتتبدى سوريالية التخييل الشعري في استعارة "ورود الشك الصغيرة/ التي يمكنها أن تطفو فوق البحيرة/ تلك التي صنعتها الدموع/ خلف باحة المنزل"، فتبدو استعارة "ورود الشك" غير تقليدية، فليس من المألوف أن يقترن الشك بالورود، فهي استعارة مغايرة وبعيدة عن أفق التوقع وتلقي القارئ، أما استعارة "البحيرة/ تلك التي صنعتها الدموع" فتعمل على استكمال البنية الصورية، فيبدو الشك طافيًا على سطح بحيرة الدموع أي الألم، أما مكان بحيرة الدموع تلك، "خلف باحة المنزل"، فهل تتجاوز رمزية "المنزل" حد تمثيل الداخل في مقابل الخارج والعالم إلى كونه رمزًا إلى الذات؟ وهل يكون "خلف باحة المنزل"، حيث بحيرة الدموع تلك، هو اللاشعور بالنسبة إلى الذات؟ باعتبار أنَّ اللاشعور هو ظهير الشخصية ومستودعها الخلفي للرغبات المقموعة والمكبوتات النفسية.
ثم تتصاعد وتيرة التساؤل حول جدوى الشعر والدور الممكن أن يكون للشاعر/ة في هذا العالم:
ماذا ستفعل الشاعرة في العمل؟
تصنع طريقًا طويلًا
لغزلان شاردة
كي تحررها من خيالها..
تنحني قليلًا
على وجه العالم
لتطفئ الحروب
كما لو أنَّه
كعكة عيد ميلاد صغيرة
قد تجدل حبالًا تتدلى من السماء
لتتأمل الأرض من منظور جديد
سيتمسك كل واحد بحبل
يتأرجح يمينًا ويسارًا
باحثًا عن بيته الضئيل
فيبدو العالم وقتها قابلًا للذوبان
أو تُجهِّز ملفًّا ضخمًا عن اكتئاب الأفيال
تكتب سؤالًا يوميًّا على باب المؤسسة
كيف يكون الزمن رغيفًا من الخبز الساخن؟
تقضمه بشهية
ثم تكتشف بعد فوات الأوان
أنك تأكل نفسك..
تُفجِّر الشاعرة ينابيع التساؤل بسؤال جوهري: (ماذا ستفعل الشاعرة في العمل)؟ حول دور الشاعر/ة، وعمل الشعر ووظيفته، أما الإجابات أو الاحتمالات عن هذا السؤال، فتجلي غير رؤية أو غير مدرسة لمفهوم الشعر بين التصوُّرات الرومانسية حول العالم: (تصنع طريقًا طويلًا/ لغزلان شاردة/ كي تحررها من خيالها)، بتَمثُّل الحرية لموجودات العالم (الغزلان الشاردة)، أو بتقديم صور فنيِّة تقليدية، أو التصوُّرات "الخلاصية" المنطلقة من مخيال رومانسي، التي ترى للشعر دورًا في إنقاذ العالم: (تنحني قليلًا/ على وجه العالم/ لتطفئ الحروب/ كما لو أنَّه/ كعكة عيد ميلاد صغيرة)، بلعب دور في تخليص العالم من أزماته الطاحنة وحروبه المُهلِكة، أما استعارة (وجه العالم)، (كما لو أنَّه كعكة عيد ميلاد صغيرة)، واستعارة (تطفئ الحروب)، فتبدو بالغة الجدة، بما تحمله من تهكُّم مبطَّن من التصوُّرات المؤدلِجة للشعر باعتباره قادرًا على "إنقاذ العالم" وتخليصه من حروبه الضارية. أما ثالث الطرق في رؤية الشعر فتتمثَّل في رؤية العالم من منظور مختلف، يبدو حالمًا: (قد تجدل حبالًا تتدلى من السماء/ لتتأمل الأرض من منظور جديد)، بتَمثُّل وشائج تصل السماء بالأرض، والنظرة إلى الأرض من السماء. إنَّها نظرة مثالية، وتطلع لتبصُّر جديد مختلف في تأمل الأرض ورؤية العالم، فيتبدى أنَّ ثمة نبرة تهكمية حتى ولو كانت خافتة تتقصد الرؤى المثالية التي تزعم إنتاج تصورات وجودية جديدة. ويسفر نزول الذات من السماء إلى الأرض حالة من التأرجح، عدم الثبات، بحسب الاستعارة: (سيتمسك كل واحد بحبل/ يتأرجح يمينًا ويسارًا/ باحثًا عن بيته الضئيل) التي تكشف ببحث كل واحد عن بيته الضيئل عن انزواء الذات في هذا العالم وانكفائها على نفسها، أما البديل عن الأحلام اليوتوبية للشعر فهو الهروب من الواقع كما تبين الاستعارة: (أو تُجهِّز ملفًّا ضخمًا عن اكتئاب الأفيال) التي تكشف عن إغراق بعض الخطابات الشعرية في مقولاتها الموضوعاتية في التغريب والانفصال عن الواقع.
غير أنَّ خلاصة تأرجحات الذات تفضي بها إلى تساؤل وجودي: (تكتب سؤالًا يوميًّا على باب المؤسسة/ كيف يكون الزمن رغيفًا من الخبز الساخن)؟ ولكن لم تكتب الشاعرة سؤالها على باب المؤسسة؟ هل لإحساسها بأنَّ المؤسسة التي تمثِّل أجهزة تنظيم العالم وتشكيل وعي الأفراد تسهم في تبدُّد الزمن من الأفراد ومغافلته لهم؟ كما تكشف استعارة: (كيف يكون الزمن رغيفًا من الخبز الساخن/ تقضمه بشهية/ ثم تكتشف بعد فوات الأوان/ أنك تأكل نفسك) في تمثيل لأزمة الزمن لدى الذات واستغراقه لها، في تجسيد للزمن، لكن الجدة في لعبة الاستعارة، هنا، في إحلال الذات نفسها محل المشبَّه به (رغيف الخبز)، إبرازًا للعبة الزمن الخادعة الذي مهما بدا من طزاجة تغري بفتح شهية الذات، إلا أنَّه يفضي بالذات إلى أنَّها تأكل نفسها، أي تستغرق عمرها، فلا أحد ينتصر على الزمن.
ثم تعلن الذات الشاعرة عن ترددها كشاعرة في مسألة الأحلام، والاختلاف عن الروائي حولها:
لو أتسلَّم هذه الوظيفة غدًا
سأحشو الوسائد بالأحلام..
لكن صديقي الروائي المعتزل
يكره كلمة أحلام
يقول:
لا يجب أن نضعها في النص.
لأنني أثق به
سأفرغ الوسادة من الأحلام
سأتركها شاغرة
عوضًا عن الوظيفة
تجلي الذات الشاعرة التمايز المنظوري والتقابل الرؤيوي بين الشاعر/ة، والروائي بخصوص الأحلام، فبينما تتأهب الذات الشاعرة لأن يكون من وظيفة الشعر هي "الأحلام"، تزاحمها مقولة الروائي برفض مقولة الأحلام، في إبراز لاختلاف الشعر عن الرواية في التعاطي مع العالم، فتبدو الرواية فنًا معنيًّا بالواقع، بينما الشعر معنيًّا بالحلم بيوتوبيا ما ينتظرها الشاعر، وهو ما تتراجع عنه الشاعرة، فيبدو في هذا المقطع من قصيدة جيهان عمر تمثيل لحالة التردد الرؤيوي حول علاقة الشعر بالأحلام، في تجسيد للذبذبات النفسية وترددات الفكر التي تعتمل في دواخل الذات الشاعرة.
القدرية وكسر النمطي
في آخر قصائد الديوان المعنونة بـ"مارثون" تتبدى خلاصة رؤية أو رؤى الذات بالنسبة للحياة والشعر معًا، في تمازج مُحكَم وتكثيف مجازي، فيتجلى أنَّ ثمة ارتباطًا وثيقًا أو تماثلاً جوهريًّا بين الحياة والشعر في نظرة الذات إلى كلِّ منهما، لكن هذه الرؤية للحياة والشعر أو بالأحرى لمصير الذات في هذا العالم وهذه الحياة من ناحية وللشعر من ناحية خرى، لا تأتي مما هو كائن لكن مما تتمناه أن يكون:
أحب أن يحترق الطعام
أن يختار مصيرًا آخر..
أحب الأرقام التي تطلبني عن طريق الخطأ
ويفاجَؤون بصوت غريب
فأعترف أنني لست أنا..
أحب الحقائبَ التي تبدلت في المطارات
كأنْ آخذ أوراقًا مهمة
قد تُغيِّر حيوات بشر غيري
ويأخذوا قميصي القطني
الذي أرهقته بحبي..
خطاباتِ شركة الدعاية في الدور السابع
التي تدق بابي..
الطفلةَ التي أمسكت بذيل فستاني في السوق
لأنَّه يشبه فستان أمها..
الحجرةَ الخاطئة في الفندق
حيث وجدت شالًا حريريًّا على حافة البانيو..
طلباتِ السوبر ماركت التي أتت في الصباح
أشياء لم أفكر يومًا في شرائها
اعتادتها امرأة أخرى
في الشقة المقابلة..
يتبدى رغبة الذات في مخالفة المصائر المتوقعَّة والأحكام التقليدية فيما يخصها من الأفعال الحياتية والأحداث الوجودية، ثمة انتظار لمصير آخر مغاير لما هو مرسوم سلفًا وما هو نمطي. فالذات تتوق لأفعال قدرية تغيِّر مسارات الأحداث عن مآلاتها المنتظَّرة، في محاولة للتخلَّص من أقدارها المسبقَة والفرار من نمطية الخواتيم لأفعالها، بل ومبادلة حظوظها بحظوظ آخرين، ثمة رغبة في التعرُّف على "آخر"، ذوات أخرى، لم تكن الذات قد عرفتهم من قبل، ولو عن طريق الخطأ والمصادفة، ولو بشكل عابر لبرهة من الزمن، بل تريد الذات أن تكون "آخرًا" غيرها، هذه الرغبة التي تحمل ضمنيًّا شعورًا دفينًا بعدم توافقها مع عالمها، ورغبتها الملحّة في كسر نمطيته والتخلُّص من رتابته.
تؤسس الصياغة التصويرية نسقًا استعاريًّا مرشحًا، من خلال دفقة من الاستعارات المعبِّرة عن الفكرة من وجوه عديدة وزوايا متعددة، فاستعارة (أحب أن يحترق الطعام/ أن يختار مصيرًا آخر) فثمة تطلُّع إلى ذلك المصير الآخر المغاير، حتى لو بدا هذا المصير أمرًا سلبيًّا لدى الآخرين، أو بدا مكلِّفًا تكلفة فادحة، ثم رغبة من الذات في الالتقاء بآخرين يطلبون ذاتًا أخرى غيرها: (أحب الأرقام التي تطلبني عن طريق الخطأ/ ويفاجَؤون بصوت غريب/ فأعترف أنني لست أنا) بالتقاطع مع رغبة أخرى بالتملُّص من أناها، فتبدو الذات في انتظار الأخطاء القدرية كما في استعارة: (أحب الحقائبَ التي تبدلت في المطارات/ كأنْ آخذ أوراقًا مهمة/ قد تُغيِّر حيوات بشر غيري) لتعلب دورًا قدريًّا في تغير مصائر الآخر، وتحضر ثنائية الأخذ بحصول الذات على ما ليس لها، والتخلي بترك الذات ما كان لها والتخلُّص منه، كما في استعارة: (ويأخذوا قميصي القطني/ الذي أرهقته بحبي) التي تؤكِّد مجددًا رغبة الذات في تغيير هويتها النمطية ولو بالتخلُّص من ملازمات شكلها، فتبدو رغبة الذات في التخلُّص مما تحب شعورًا مغايرًا، وكاسرًا، أيضًا، للنمطية النفسية، كما تسفر استعارة (خطاباتِ شركة الدعاية في الدور السابع/ التي تدق بابي) عن رغبة الذات أن تسبدل ذاتية اعتبارية (شركة الدعاية) بذاتيتها الخاصة الفردية، هي تريد خطابًا آخر مغايرًا لما كان ينتظر أن تسمعه، حتى لو كان هذا الخطاب موجهًا للغير، للآخر، سواء شخصيات أخرى، كما في المحادثات الهاتفية التي أخطأت في طلب رقم هاتفها أو في خطابات ومكاتبات رسمية أخطأت الموضع المكاني الذي كان يجب أن تتوجَّه إليه، كما في الخطابات الموجهِّة إلى شركة الدعاية، كما تكشف استعارة: (الطفلةَ التي أمسكت بذيل فستاني في السوق/ لأنَّه يشبه فستان أمها) عن رغبة الذات في الاقتران بذات أخرى طفولية كأم لها، بما تحملها الطفولية من معاني البراءة والنقاء النفسي وأيضًا حالة الفطرة الخالصة والعفوية، حتى تبرز استعارة: (الحجرةَ الخاطئة في الفندق/ حيث وجدت شالًا حريريًّا على حافة البانيو) عن رغبة الذات في الاستحواذ على أشياء لم تكن لها، أي نيل مصير لم يكن لها، وتستحضر استعارة "الشال الحريري" صورة بطلها شال حريري أيضًا من قصيدة أخرى من نفس الديوان بعنوان "شال حريري يسقط إلى أسفل": (قد يحدث أن تنزلق حياتك ناعمة/ في غفلة منك /مثل شال حريري على كتفي امرأة/ سقط أسفل قدميها)، فيبدو الشال الحريري كاستعارة عن الحياة التي قد تسقط من صاحبتها في غفلة، في تمثيل استعاري لفعل الزمن ودرس الحياة المخاتل، كما تسفر مثل هذه الاستعارة، "الشال الحريري"، عن خصوصية بعض استعارات جيهان عمر التي تتولَّد من رحم حس أنثوي بالعالم، ثم تأتي استعارة: (طلباتِ السوبر ماركت التي أتت في الصباح/ أشياء لم أفكر يومًا في شرائها/ اعتادتها امرأة أخرى/ في الشقة المقابلة) على رغبة الذات في أن تمارس أفعال ذات أخرى غيرها. لذا نجد عبر سلسلة الاستعارات المرشحَّة رغبة عارمة لدى الذات في تثوير هويتها واستبدال كينونتها بأخرى، لكن عبر فعل المفاجآت القدرية، فالذات تنتظر حدوث خطأ يغير مصيرها المرسوم سلفًا.
تبدو التنويعات الاستعارية لدى جيهان عمر في التمثيل المجازي كتنويع نغمي لجملة موسيقية يُعاد عزفها بآلة موسيقية مختلفة عما سبقتها، في إطار معزوفة متدفقة النغمات، كما تبدو استعارات جيهان عمر وتحديدًا المشبَّه به توظيفًا لمواقف عابرة، مصادافتية، تفجِّر شعريتها وتعمل على التمثيل لفكرتها ومقولاتها عبر وفرة من الصور المتدفِّقة في انسيابية وتناغم سلس.
وفي الشطر الثاني من القصيدة تتجلى رؤية الذات للشعر وتمثلها للقصيدة التي تتمناها أن تكون لها:
الخطأَ المطبعي
الذي يوجه القصيدة وجهة أخرى
فأتركه دون أن أخبر أحدًا
كأن شبحًا يريد أن يكتب معي
فأرحب باقتراحاته الغامضة
أحب الخطأ
لأنَّه يحميني من قضبان وهمية
أرسمها كل صباح
وأسير عليها
بحرص من تتعلم المشي للمرة الأولى
حتى لا تلتصق الألوان بقدمي
قبل أن أصل إلى نهاية اليوم
وأتسلَّم الجائزة...
وبمثل انتظار الذات في الحياة للأحدث القدرية المغايرة للنمطي والمخالفة للمألوف؛ فإنَّها كذلك أيضًا في الشعر تنتظر المخالف للقاعدة الذي يمكن أن يغير وجهة قصيدتها، ثمة توق مرحب بقوة ما غامضة، خفية، كشبح، أو لنقل إنَّها الذات البديلة، القرين الذي يمضي بالذات الشاعرة في كتابتها لنصها إلى مآل لم تكن تخطط له أو تتوقعه، إنَّه الشعر الذي تنتظر الذات خارج التوقُّعات، المخالف للقواعد الراسخة والتقاليد الثابتة.
ولكن ما القضبان الوهمية التي ترسمها الذات وتحب الخطأ أن يحميها منها؟ هل هي قضبان الحقيقة المطلقة؟ أم هي قضبان المكرَّس جماليًّا والنموذج الشعري المثالي؟ هل هي قضبان التعابير الشعرية المألوفة والأكلاشيهات المستهلكة؟ ولكن كيف تمشي الذات على تلك القضبان بحرص من تتعلم المشي للمرة الأولى؟ هل ذلك هو قلق المبدع وتوتره إزاء قواعد الكتابة التي قد تبدو بمثابة "طوطم" ملزم أو كـ"تابو" له مهابته ويتعذر كسره؟ يتبدى أنَّ اللاوعي الإبداعي للذات الشاعرة ينهض بدور تحريضي يوجهها نحو شعرية مضادة و"كتابة ضد الكتابة"، كتابة مضادة للقواعد والإملاءات الجمالية المسبقة، وهذا هو الشعر وتلك هي روح الفن، بالقدرة على تثوير الفعل الإبداعي والتجاسر الخلَّاق على ما يشبه القواعد الجمالية المطلقة والتمرُّد العفوي على قيود النوع الأدبي.
تمتاز استعارات جيهان عمر بالتمثيل المشهدي للأفكار المجرَّدة وببساطة المشبَّه به وأيضًا التركيب في آن، كما في استعارة: (أحب الخطأ/ لأنَّه يحميني من قضبان وهمية/ أرسمها كل صباح/ وأسير عليها/ بحرص من تتعلم المشي للمرة الأولى/ حتى لا تلتصق الألوان بقدمي)، فما بين وجوب المشي على تلك القضبان وحرص عدم التصاق ألوانها/ وسمها بالذات تتشكل الصعوبة والمعاناة التي تواجهها الذات في ممارستها للإبداع في نسقه التقليدي التي تحاول الفكاك منه.
وفي مختتم القصيدة المعنونة بـ"مارثون" التي هي النص الأخير في هذا الديوان تتبدَّى الخلاصة الوجودية التي تبلغها الذات الشاعرة عن الحياة والشعر معًا باعتبارهما "مارثون"، سباق طويل ممتد له قواعده الشاقة، غير أنَّها تتنظر أخطاءً تكسر هذه القواعد، تحلم بالفكاك من أسر نمطية رتيبة مسبقة في الحياة والشعر، تريد حياة أخرى غير التي تعيشها بأقدار مغايرة، وتحلم بشعر آخر، غير مألوف وغير خاضع لتوهُّمات اشتراطات النوع الجمالي.
وفيما يتبدَّى، فإنَّ ثمة تعددًا في طرائق البناء الاستعاري في قصيدة جيهان عمر، فإذا كان كلٌّ من قسم القصيدة الأول، عن رؤية الذات في الحياة، ومقطع القصيدة الثاني حول رؤية الذات في الشعر يأتي في نسق استعاري مرشَّح، عبر عدد من الاستعارات التي تمثِّل للفكرة من وجوه عديدة- فإنَّ قسم القصيدة الثاني الذي يتشكل من استعارة مرشحَّة تمثِّل لعلاقة الذات بالشعر الذي تنتظره من خلال خطأ غير متوقع، يكوِّن والقسم الأول بنية من التوازي الاستعاري القائم على التناظر، بين نسق الاستعارات في كل قسم في مقابل الآخر، بما يعبِّر عن تماثل رؤية الحياة ورؤية الشعر في وعي الذات الشاعرة، فتمسي القصيدة بمثابة استعارة كبرى مركَّبة.