اليدُ والذاكرة: الحِرَف في قلب المملكة!

محمد حسن فايد


الحِرَف التقليدية.. سردية وطن كامل:

الحِرَف التقليدية في السعودية ذاكرة حيّة يومية، تظهر على الأبواب الخشبية المنقوشة، وعلى السجاد المنسوج بخيوط من صوف وإيمان، وفي وجوه من يستيقظون باكراً لإعادة تدوير ما تمنحه الأرض من نخيل وطين وحجر. سردية وطن كامل تمتد من الدهناء والنفوذ إلى تهامة وعسير، ومن سواحل البحر الأحمر إلى خليج يحتضن عيون الأحساء، تتحوّل المواد الخام إلى علامات على الهُوية والذائقة والاقتصاد المحلي. هذه الحِرَف دخلت ورشاً حديثة ومراكز تدريب، ارتدت ثوب ريادة الأعمال، وأثبتت قدرتها على المنافسة في السوق المعاصر مع الحفاظ على جذورها التراثية.

في قلب نجد، حيث البيوت الطينية والساحات الداخلية المغلقة، الخشب سيد التفاصيل. نجّارو الرياض والدرعية والقصيم وحائل حولوا جذوع السمر والطلح إلى أبواب ذات مصاريع ثقيلة ترد حرّ القيظ، وشبابيك مزخرفة بضفائر دقيقة تعكس خصوصية البيت وشغفه بالظل والهواء. هذه الصناعة هندسة اجتماعية تحدد حركة الضيوف داخل المجلس، وتضع الإطار الذي تُقدّم فيه القهوة وتُنثر فيه القصص، فتتحوّل كل قطعة خشب إلى سردية المكان. وفي جدة التاريخية، وجه آخر للخشب يظهر في "الرواشين" المتدلّية على واجهات البيوت البحرية، بنقوش هندسية تؤدي وظيفة التهوية والخصوصية، وتترك أثراً بصرياً لا يخطئه العابر.
 

السدو بيت متنقل:

على امتداد البوادي، السدو يمتد كما يمتد البيت تحت السماء، لغة النساء ودفتر الذاكرة الملون. أوتاد المنول تُثبّت، وتبدأ الخيوط في التقاطع، صوف الضأن ووبر الإبل بألوان مستخلصة من نباتات وأصباغ طبيعية، وزخارف تحفظ خرائط القبيلة ومسارات الرعي وأسماء المطر. السدو بيت متنقل، يُنسج منه ستار الخيمة ويُفرش منه المجلس، وتُخاط منه "العدول" وأكياس المؤن. اليوم السدو قطعة فنية تدخل الفنادق والبيوت المعاصرة والمنتجات الصغيرة، محتفظاً بنبضه الأول، حرفة اجتماعية تورث الحس والنمط والبصر. في الطائف وعسير والباحة وجازان ونجران، صيغة محلية للنسيج تظهر في مفارش ومعلقات وحبال تُستخدم في تخزين المحاصيل والاحتفاء بالمناسبات.

من سعف النخيل تولد حياة أخرى:

في الشرقية والأحساء والقطيف والقصيم ونجران والمدينة، النساء والرجال يحوّلون السعف إلى سلال وأطباق ومراوح وسفر ومهفّات. فن الخوص يعلّم الاقتصاد والابتكار؛ كل عِرق نخلة يذهب إلى وظيفة محددة: السعف للنسج، الجذع للبناء أو التثبيت، الليف للتنظيف، الجريد للظل. تنوّعت التراكيب وتزاوجت الألوان، وظهر من يوظف الخوص في إضاءة معلّقة وأثاث خفيف، فازدادت مساحات العيش التي تتسع لهذا الفن القديم.

الطين ذاكرة ثانية للإنسان:

في حائل والمدينة والباحة والطائف والأحساء والقصيم، الفخار يخرج من اليدين كأنه يستعير هيئة الماء الذي سيحمله. الأيدي تحرص على أن تكون الجرار قابلة للتنفّس للحفاظ على برودة السقيا، والقدور صلبة للّهب، والكاسات موزونة فلا تميل. صانع الفخار يزن الحياة، يعرف سمك الجدران المناسب للاستعمال، يختبر رطوبة الطين وسرعة جفافه. وُرش الفخار تطورت؛ دخلت الأفران الكهربائية وعجلات الدوران الحديثة، مع ذلك كثيرون يفضلون صلصال الأرض ورائحة النار الأولى، متصلين بجذور الحرفة وروحها الأصلية.

في الأسواق القديمة من الرياض إلى الديرة وسوق الزل، النحاسيات تتلألأ؛ دلال القهوة، الصواني، الأباريق، المباخر. النقوش توقيع حرفي ومعجم من الرموز، دقّ النحاس يتطلب أذناً تعرف طبقات الصوت ويداً تعرف كيف تعيد طرق القطعة دون أن تجرحها. الصناعة جددت نفسها بإدخال أدوات قطع ونقش أدقّ، وبالمزاوجة بين النحاس والخشب أو الجلد، لتصبح قطعاً تتصدر طاولات الاستقبال، وتؤدي وظيفة الإكرام كما أدّتها سابقاً.

في عسير وجازان ونجران، الخشب وظيفة للذاكرة؛ الأبواب والنوافذ تُنقش بزخارف نباتية وهندسية تحكي سير البيوت والقبائل وتعلن الذائقة المحلية. فن "القط العسيري" يحوّل الجدران والخشب إلى خطوط هندسية وألوان صريحة، يرتّب الفضاء الداخلي ليصير بيتاً يحتفل بسكانه. في تهامة، صناعة الحليّ الفضية تتواصل؛ أساور وعقود وخلاخل مزركشة بالخرز الزجاجي أو الصدف، لقاء بين الجبل والبحر. النساء والبنات يتعلمن هذه الصياغات الدقيقة، يُوازنّ بين الوزن والجمال، بين النصاعة والقدرة على التحمل في مناسبات الأفراح والمواسم.

على السواحل، جدة وينبع والليث ورابغ والوجه وتبوك تستعيد ذكريات البحر. الحِرَف البحرية تمتد من صناعة الشباك وصيانة القوارب الخشبية إلى إعداد أدوات الملاحة التقليدية وتزيين المجاديف. اللؤلؤ يخرج من حكايات خليجية واسعة، أثر البحر يتجلّى في عقل يعرف الوقت والمد والجزر واتجاهات الريح، ويظهر في حبال تُفتل، وقوارب صغيرة تُصلّح، وأسواق تقدّم أدوات الصيد التقليدية جنبًا إلى جنب مع المنتجات الحديثة.
 

الحِرَف تنتقل وتتمازج:

من القصيم خرجت صناعة "الكليجا"، من الطائف تنتقل مهارات تطويع الجلد للأحزمة والنعال وأغماد الخناجر، من حائل تتجدد صناعة العقال والعمائم وتزيين السروج. في نجران وجازان تبقى "الجنبية" مكوّنًا تراثيًا له قيمته الرمزية، تتداخل في صناعتها معارف الجلد والخشب والمعادن. العمارة الطينية في الدرعية والقصيم والعلا أصبحت ورشة مفتوحة لحرف كثيرة: صناعة اللبن والجص والخشب والحديد، وتلوين الواجهات، ضمن مدارس إحياء تراثي تجعل البناء حرفة جماعية.

كل حرفة تحمل منظومة اجتماعية. الحرفيون في الحارات القديمة يتوزعون وفق خرائط دقيقة؛ سوق للنحاس، وآخر للنجارة، وثالث للخوص، ورابع للفخار. اليوم هذه السلاسل تطورت إلى بيئات تدريبية ومشاريع صغيرة ومتوسطة تستفيد من منصات التجارة الإلكترونية، ومعارض موسمية ومهرجانات وطنية. الحِرَف جزء من السياسات الثقافية والسياحية، وحكاية الحرفة نفسها سلعة ثقافية تُسافر بصوت صانعها وصورتها الموثّقة على العبوات والملصقات.

هي مناهج تعليم غير رسمي. الطفل الذي يرى أمّه تنسج وخاله يدقّ النحاس يتعلم معنى الإتقان والصبر، يعرف أن الجمال ثمرة تكرار ذكي. الفتاة التي تقيس الخيوط وتطعّم الألوان وتختار الزخارف تنمّي حِسّ التصميم والحساب والتخطيط. في هذه التفاصيل تُزرع مهارات القرن الحادي والعشرين؛ حل المشكلات، التفكير التصميمي، ريادة الأعمال الصغيرة، الاحترام العميق للمواد والزمن.

وأيضاً قابلة للتلاقح. مصممون سعوديون معاصرون يأخذون من السدو وحداته الهندسية ليبنوا بها أثاثًا مسطح التعبئة، أو يلتقطون من الزخارف النجدية وحدات تُطبع بالليزر على الخشب، أو يكيّفون حبال الليف لصناعة إكسسوارات منزلية متينة. تقنيات جديدة تحسّن ظروف العمل؛ إضاءة أفضل، تهوية للمشاغل، معدات آمنة تقرّب الشباب من الحرفة، وتُرسّخ أن الحداثة أداة لخدمة التراث.

في البيوت الحديثة، القطعة التراثية حاضرة دائمًا. لوحة من السدو تتوازى مع لوحة فنية، مبخرة نحاسية على رف أبيض، مصباح خوص ينسكب منه ضوء دافئ، سجادة يدوية تضع تحت الأقدام تباينًا ممتعًا مع برودة السيراميك. تقديم القهوة لحظة حِرَفية؛ الدلة، الفناجين، النقوش، ترتيب الصينية، وموضع المناديل والتمر يعكس حسًا جماليًا تعلّمه الناس من أسلافهم.

الحِرَف التقليدية حوار مفتوح بين الناس والأرض. حين تُمسك يد بالسعف، أو تُحكّ أصابع بالطين، أو تُطرق مطرقة على نحاس.. تصنع معنى معاصراً للجمال والجدوى، وتنسج مستقبلًا يحتفي بماضيه. بين ورشة في مدينة كبرى وسوق في قرية جبلية، يتردد شعار غير مكتوب؛ الأصالة طاقة تُحرّك. بهذه الروح، الحِرَف تواصل رحلتها؛ من يد إلى يد، من بيت إلى بيت، من جيل إلى جيل، لتبقى السعودية، في مدنها وقراها وبواديها وسواحلها، نسيجًا واحدًا من مهارة وذائقة وحياة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها