التراث المادي واللامادي.. كنوز مهددة بالزوال!

كيف نحافظ على التراث أمام تحديات عصر العولمة؟

مظفر إسماعيل


مع وصولنا إلى زمن بات فيه تلاشي المسافات وتقاطع اللغات وتشابه الأذواق، السمة المميزة للعصر، أصبحت إمكانية الأمم في الحفاظ على تراثها الثقافي ضعيفة نوعا ما، في ظل موجة العولمة التي لا تعترف بحدود ولا خصوصيات. صحيح أن العولمة غيرت وجه العالم دون أدنى مبالغة، وفتحت أبواب الانفتاح بين الأمم والتبادل بين الشعوب، إلا أنها، وفي نفس الوقت، دفعت الكثير من الثقافات إلى هواية النسيان، وجعلت الحفاظ على التراث فيها أمراً لا يقل صعوبة عن مرحلة البناء من جديد.

 


التراث.. ذاكرة حية تصون الوجود:

لا يعتبر التراث الثقافي مجرد ماضٍ نحمله في أذهاننا فحسب، بل يُعدُّ نسيجاً من الذاكرة والمعنى والهُوية، كما يعتبر الرابط الخفي الذي يجمع وثاق الأجيال، ويحافظ على ترابطها مع مرور السنوات والقرون، ليحافظ في النهاية على شخصية الأمة المتفردة التي تميزها عن باقي الأمم والشعوب.

التراث ببساطة هو المسؤول عن تعريف الإنسان بنفسه، وهو ما يميز أمة عن أمة وشعباً عن شعب ومدينة عن مدينة وحتى قرية عن أخرى.

نجد التراث حاضراً في الأغاني الشعبية والرقصات الفلكلورية، وفي قصص وأمثال الأجداد التي تتوارثها الأجيال، كما نجده مترسخاً في الأزياء والأبنية وكل شيء يحيط بنا، ليجعل من كل محاولة لطمس التراث أشبه بمحاولة لاقتلاع جذور شجرة بغية مسح انتمائها إلى أرض معينة.

العولمة، التي تبشر بعالم لا حدود له، جاءت محملة بثقافة السوق والاستهلاك، حيث يغدو كل شيء قابلاً للتقليد والإنتاج السريع، لتبدأ معها الثقافات المحلية بفقدان التوازن أمام سيل جارف من الرموز والمعطيات الجديدة القادمة من الغرب أو الشرق الأقصى، ومن ثقافات ما وراء البحار، حتى غدت المجتمعات مهددة بأن تصبح نسخاً متشابهة لأبعد حد، لا تحمل من خصوصيتها إلا الاسم.

العولمة.. فرصة أم تهديد؟

رغم أن العالم ينقسم بين من يعتبرون أن العولمة خطر على هوية الأمم، ومن يعتبرونها قفزة نحو عالم موحد عادل قليل التفاوت، إلا أن اعتبارها خطراً مطلقاً أو خيراً مطلقاً أمر خاطئ ومبالغ فيه، فمن جهة، ساهمت العولمة في نشر المعرفة، وتبادل الخبرات وإتاحة التراث العالمي للجميع، ومن جهة أخرى، دفعت نحو أسلوب عيش وتفكير واحد، يعتمد على الإنتاج الموحد والاستهلاك السريع.

من المعلوم أن العولمة فتحت نوافذنا على ثقافات العالم المختلفة، إلا أنها فتحت في نفس الوقت أبواب بيوتنا أمام كم كبير من العادات والقيم التي لا ينسجم قسم لا بأس فيه مع موروثنا الثقافي والاجتماعي.

ولم يقتصر التأثير على الفن واللغة فقط، بل امتد إلى أسلوب التفكير ذاته، حيث بات الأفراد يقيسون جمال الأشياء بمدى انتشارها على شبكات التواصل الاجتماعي، لا بعمق جذورها في تاريخهم المحلي.
 

التراث المادي واللامادي.. كنوز مهددة بالزوال!

التراث ينقسم إلى مادي يشمل الآثار والعمارة التقليدية والحِرف القديمة والأطعمة والثياب، ولامادي يتجلى في الأغاني الشعبية والمعتقدات واللغة والطقوس والعادات الاجتماعية والدينية، والمشكلة أن التراث المادي واللامادي في خطر شديد اليوم.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، المدن الحديثة التي تبنى بسرعة في أيامنا هذه، غالباً ما تلتهم ملامحها الحقيقية القديمة، وتحول الأحياء التراثية إلى مشاريع تجارية. بينما يواجه التراث اللامادي خطر الاندثار مع تغير أنماط الحياة وتسارع الإيقاع اليومي، مثل الأغاني التي كانت تضج بها الأعراس الريفية، والألعاب الشعبية التي كانت تملأ شوارع القرى والمدن، والتي لم تعد تجد من يحييها إلا في المناسبات الاحتفالية أو المتاحف.

ومن المهم هنا التذكير بأن ضياع التراث اللامادي، يستوجب معه ضياع الحس الجمعي الذي يشد الناس إلى ماضيهم، فالتراث الشفهي ليس مجرد حكايات بل هو منظومة من القيم والتجارِب التي ساهمت في تشكيل الشخصية الثقافية للأمم، ولهذا السبب، أصبح توثيق هذا التراث ضرورة ثقافية قصوى.

الحفاظ على التراث عبر التعليم والثقافة:

ومع ازدياد الحديث عن ضرورة حماية التراث، وأهم وسائل الحفاظ عليه، تبرز ضرورة إدماجه في النظام التعليمي والثقافي؛ لأن التعليم ليس وسيلة لاكتساب المهارات فقط، بل يعتبر جسراً ينقل الذاكرة من جيل إلى آخر، فحين يتعلم الطفل في مدرسته عن أزياء أجداده، أو يزور مواقع أثرية في مدينته، فهو لا يكتسب معلومة فحسب، بل يكون علاقة وجدانية مع التاريخ.

من هنا يمكننا القول إن إعادة الاعتبار للمناهج التي تهتم بالتاريخ المحلي والفنون التقليدية واللغة الأم، تشكل الخطوة الأساسية في مواجهة تحديات العولمة الثقافية.

كما أن للمؤسسات الثقافية دوراً لا يقل أهمية عن التعليم، سواء عبر إحياء المهرجانات وتنظيم المعارض التي تحتفي بالتراث، أو من خلال قيامها بتشجيع الصناعات الإبداعية المستوحاة من التراث؛ لأن التراث عندما يتحول إلى مصدر إلهام للابتكار والفن، يصبح جزءاً من الحاضر لا مجرد ذكرى من الماضي.

كيف يمكن توظيف التكنولوجيا لحماية التراث؟

كثيرون يعتبرون أن التكنولوجيا تشكل أكبر تهديد للتراث، على اعتبارها نقلت العالم من الكتب إلى الشاشات، ومن الذاكرة الحية إلى الذاكرة الافتراضية، لكن الواقع يثبت أن التكنولوجيا ذاتها يمكن أن تكون وسيلة هامة لإنقاذ التراث من الاندثار. ففي السنوات الأخيرة، ظهرت مشاريع رقمية ضخمة تعمل على توثيق التراث بالصوت والصورة، وتحويله إلى محتوى تفاعلي يسهل الوصول إليه، حيث تجعل المتاحف الافتراضية والأرشيفات الرقمية والتطبيقات الهاتفية التي تعرف المستخدمين بالمواقع التاريخية، التراثَ متاحاً للأجيال الجديدة بأسلوب مبتكر وأكثر فاعلية.

ومن جهة أخرى، بتنا مؤخراً نلاحظ بعض الفنانين الشباب وهم يستخدمون التقنيات الحديثة، من واقع افتراضي إلى طباعة ثلاثية الأبعاد، وغيرها من الوسائل، لإعادة إحياء المعالم الأثرية المهددة بالزوال، ومنح التراث حياة جديدة في الفضاء الرقمي، ما يؤكد أن التكنولوجيا تحمل في طياتها جانباً مضيئاً قد يسند التراث في وجه عاصفة العولمة.

نماذج مضيئة في العالم العربي:

وبالحديث عن عالمنا العربي، لا بد من الإشادة بالمبادرات التي تهدف إلى حماية التراث من تأثيرات العولمة، حيث استطاعت الجهود الرسمية والشعبية في دولة الإمارات العربية المتحدة مثلا، تسجيل عدد من الممارسات التقليدية ضمن قائمة التراث الإنساني في منظمة اليونسكو، مثل الصقارة، والقهوة العربية، والعيالة.

وفي المغرب، أُطلقت برامج لإحياء فنون السماع الأندلسي، وإدراج الصناعات التقليدية ضمن منظومة الاقتصاد المحلي، بينما لا تزال الحرف اليدوية في مصر، في الفسطاط والخيامية وصناعة النحاس، تحاول الصمود أمام الإنتاج الصناعي، مدعومة بمبادرات أهلية ومشروعات شبابية تربط بين الأصالة والابتكار، علاوة عن الفنون الشعبية والعمارة الطينية التي تسعى للحفاظ على الهوية في اليمن وعمان، رغم ضغوط البناء الحديث.

هذه التجارب وغيرها من التجارب العربية، تؤكد أن الحفاظ على التراث ليس عملا حكومياً فقط، بل مسؤولية جماعية تتشارك فيها الدولة والمجتمع والأفراد، بغية حماية الهُوية الوطنية والتراث الثقافي.

التوازن الثقافي بين الأصالة والمعاصرة:

من غير المقبول أن نغلق أبوابنا في وجه العالم؛ لأن ذلك يسبب لنا الانعزال والتخلف في بعض الجوانب، والمطلوب هنا أن نخلق توازناً بين الأصالة والمعاصرة، فلا مانع مثلا في أن نرتدي الثوب التقليدي ونحن نستخدم الهواتف الذكية، أو أن نكتب بالخط العربي واللغة السليمة في تصميم رقمي، وأن نحافظ على لغتنا العربية في الوقت الذي نتفنن فيه في إتقان لغات العالم المختلفة.

وهنا لا بد من الإشارة إلى دور الإعلام في صون الذاكرة وإحياء التراث مهما تقدم الزمن، فللإعلام، التقليدي والرقمي، دور كبير في تشكيل الوعي العام تجاه التراث، من خلال البرامج الوثائقية والأفلام التاريخية، إضافةً إلى المبادرات عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

وفي النهاية؛ يمكننا أن نقول إن الحفاظ على التراث الثقافي في عصر العولمة ينبع من الوعي بالمستقبل، فالأمم التي تفقد ذاكرتها تفقد قدرتها على الإبداع، لأن الإبداع ينبت في تربة غنية بالتاريخ والمعنى، وحين نحافظ على تراثنا، فإننا لا نحمي أنفسنا فقط، بل نساهم في إثراء الإنسانية جمعاء، ونمنح المستقبل جذوره، والماضي حياة جديدة في وجدان الأجيال القادمة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها