الكُتب.. ومَهَارات التعلّم الذّاتي

وجيه حسن


في بَدْءِ البَدْءِ، فإنّ المرء العاقل يبحث في سطور الكتب عن معنى حياته، ومن دونها، يبقى عقله مملوءاً حيرةً وقلقاً وفراغاً وغوغائيّةَ حياة. ويتساءل امرؤٌ عاقلٌ بينه وبين نفسه: "إذا لم يقرأ أحدنا في سحابة اليوم ساعة أو ساعتين أو أكثر، فكيف تمضي حياته إذن، وعلى أيِّ نحو"؟
 

هنا تأتي الأفكار على سُطوعِها: علينا أنْ نعمل كآباء وأمّهات، ومُربّين ومُربّيات، ومعلّمين ومعلّمات كما ينبغي عمله على تكوين القرّاء الجيّدين من الأبناء والطلبة من الجِنْسَيْن، والمُزوَّدِين بمهارات التعلّم الذّاتي، الذي هو في البدء والمنتهى أساس مَكِين للتعلّم المُستمرّ، بحيث نعوّد ناشِئتنا على حبّ المطالعة، ومُصاحَبَة الكتاب، وتكوين عادة القراءة لديهم/ لديهنّ، هذه التفّاحة الشّافية، ليغدو الكتاب صديقهم/ صديقهنّ الأوفى والأقرب، المرافق لهم/ لهنّ في الحلّ والتّرحال، في البيت والمدرسة والجامعة والحديقة والمقهى والسّفر والسّياحة، وعلى شاطئ البحر وبكلّ زمكان، بحيث يجد في أسطره، وخلال صفحاته ومغازِيه المُتعة التي لا تعادلها مُتعة، تلك التي عبّر عنها الشاعر العبّاسي "أبو الطيب المتنبّي" يوماً، حين قال:
أَعَزُّ مَكانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سابِحٍ ... وَخَيْرُ جليسٍ في الأَنامِ كتابُ

وما عبّر عنه "ترولون"، حين قال: "إنّ عادة المطالعة، هي المُتعة الوحيدة التي لا زيف فيها، وإنّها لَتدوم عندما تتلاشَى جميع المُتَع الأخرى". ويتساءل أحدنا: أهذه الكتب التي في مكتباتنا الخاصّة والعامّة، هي ذاكرة للماضي، أو هي تفكير في القابل من الأيام والسّنين؟ أم هي رسالة للمستقبل العربي المشرق، الذي قد يأتي، وقد لا يأتي؟

وممّا لا يختلف حوله اثنان عاقِلان، أنّ الكتب هي العالَم من أقصاه لأدْناه، هي نماذج لِعوالمَ وبشر، مضوا أو يعيشون بيننا، وربّما هي نماذج مُتصوَّرة لبشرٍ يأتون، ولأنّ الكتب هي العالَم، هي الحياة، أو أنّها تحتوي الحياة بما لها، وما عليها.

"إنّ الكتب تعنِينا بمقدار ما تعنِينا حياتنا، بمقدار ما يعنِينا مصيرنا، بمقدار ما يعنِينا أنْ نتواصل مع الآخرين من أبناء الإنسانيّة، مَنْ مضَى منهم، ومَنْ بقي على قيْد الحياة، ومَنْ يخالفنا الرّأي، ومَنْ يوافقنا، فالكتب هي وجهنا الآخر في الحياة"، على حدّ قول د. محمود السيّد، وزير التربية، ووزير الثقافة في سورية سابقاً.

لكن، ومن أسف بالغ الإيجاع؛ فإنّ أوقات القراءة شَرَعَتْ تتضاءل عندنا في شرْقنا العربيّ، والكتاب كفُسحةٍ للتأمّل، أو كنافذةٍ مُطلَّة على العالَم الخارجيّ، أخذت تضيق تضيق، وأوقات خلوة المرء بنفسه –وهي أوقات القراءة – بدأت تقلّ تقلّ، وتلك العلاقة الحميميّة المباشرة مع كاتب أو كتاب أو مادّة أو موضوع أو قضيّة أو مسألة، قد حلّ محلّه/ محلّها مشاركة الملايين في رؤية برنامجٍ من البرامج، مثل: "مَنْ سيربح المليون"، أو "المشاهير"، أو "ما يطلبه الجمهور"، أو "مِنْ كلّ قُطْر أغنية"، أو "تاراتاتا"، أو "ستار أكاديمي"، أو "ذا فويس كيدز"، إلخ.

مع الكتاب أنت وحيد وحيد، لكأنّ الكاتب أو المؤلّف، يتحدّث إليك مباشرةً من دون ضجيج، ولا أدنى حاجز، أمّا مع "الشّاشة"، فإنّ الملايين يشاركونك، والكتاب أنت تمسكه بيدك، وكأنّه صديق حميم أليف، تربّت له على كَتِفِهِ أو يده، أمّا مع "الشّاشة"، فأنت مجرّد مستمع، مُتلقٍّ، سلبيٍّ، مسلوبٍ، لا حوْل لك ولا طَوْل، وحتّى لو غضبت، وأطفأت التّلفاز، فإنّ الملايين من البشر، تبقى عيونها رائيةً إليه، لكأنّها تسخر من تصرّفِك الأرْعن، الأحمق، تصرّفِك الذي يُظهرك لنفسك وكأنّك "وَعْلٌ يَنْطَحُ صخرةً"..

لكن، ألمْ يقل أحدهم: "أيّ كنزٍ في الحياة أفضلُ من الكتب"؟

وقال بعض العلماء: "الكتابُ جليسٌ لا مؤونة عليك فيه".. وممّا قاله الجاحظ "أبو عثمان عمرو بن بحر"، وهو كاتب ومؤلّف وقارِئ نَهِم، كان مُولَعاً بالكتب إلى حدّ الهوس والعشق، والّذي كان جالساً في مكتبته ذات مرّة، يطالع بعض الكتب المُحبّبة إليه، فوقع عليه صفٌّ منها، أرْدَتْهُ صريعاً، مات الجاحظ إذنْ مدفوناً بالكتب والمجلّدات، مُخلّفاً وراءه كتباً ومقالاتٍ وأفكاراً، ما زالت خالدة حتى يومنا هذا:
 "الكتاب نِعْمَ الذُّخْر والعقدة، ونِعْمَ الأنيس ساعة الوحدة، ونِعْمَ القرِينُ والدّخيل، والوزير والنّزيل".

وقد قِيل في الكتاب ما معناه: "إنّه حاضرٌ نفعُه، مأمونٌ ضرُّه، ينشط بنشاطك، فينبسط إليك، ويملّ بِملالك، فينقبض عنك.. إنْ أدْنَيْتَهُ دَنَا، وإنْ أنْأَيْتَهُ نَأَى، ولا يبغيك شرّاً، ولا يفشِي عليك سرّاً، ولا ينمُّ عليك، ولا يَسْعَى بنميمةٍ إليك".

و"الكتاب هو الذي إنْ نظرتَ فيه، أطال إمتاعَك، وشحذَ طباعَك، وبسط لسانَك، وجوّد بيانَك، وفخَّم ألفاظَك، وعمّر صدرَك، ومنحك تعظيمَ العَوام، وصداقةَ الملوك والأمراء، وعَرَفْتَ به في شهر، ما لا تعرفه من أفواه الرّجال في دهر".

وقِيلَ يوماً لأحدهم:
- أمَا تَستوحشُ؟

قال:
- وهل يَستوحشُ مَنْ مَعَهُ الأُنسُ كلّه؟

قيلَ:
- وما الأُنسُ كلُّه؟

أجاب:
- الكتب.

وقِيل لآخر:
- ألا تنادم فلاناً؟ قال: قد نادمتُ مَنْ لا يتكلّف لي، ولا أتكلّف له. قِيل: ومَنْ هو؟ قال: الكتاب!

وتأخّر عن بعض الرّؤساء نديمٌ له، فقال: يا غلام، عليَّ بالنّديم الذي لا يتغيّر، ولا يتغيّب، ولا يتأخّر، قال: مَنْ هو؟ قال: الكتاب.

وقال أحدهم لِغلامه: يا غلام، ائتِني بأُنس الخلوة، ومجمع السّلوة، فظنّ جلساؤه أنّه يستدعي شرَاباً، فأتاه بِسَفَطٍ "أي وعاء" فيه كتب.

وفي هذا المضمون، يقول د. شاكر مصطفى، وهو "قارئ مائِزٌ، باحث ومؤرّخ وأديب ومحقّق ومترجم سوري"، لُقّب بـ "أديب المؤرّخين، ومؤرّخ الأدباء": "ما زلت أشعر أنّني طفل، يغرف من ماء البحر بِصَدَفَةٍ صغيرةٍ".

وَرَدَ هذا في جواب له عن سؤال وُجِّه إليه، حول ما وصل إليه من درجة رفيعة في الأدب والدراسة والبحث، هذا عقب تجربة طويلة، استغرقت سنّي عمره في القراءة والكتابة والتأليف، وفي مطالعة عدد جمّ من الكتب والمجلّدات، وقد صدر له أكثر من خمسين كتاباً.

وأمّا د. طه حسين، "عميد الأدب العربي"، فيقول ناصحاً: "القراءة تحقّق للإنسان تفكيره السّليم، وتعبيره القويم، ومدنيّته".

وفي مدْح الكتاب، وتِبيان دوره وأهميّته بالحياة، يقول "جعفر بن محمّد الخُلدي"، من أعلام القرن الرّابع الهجري، شيخ الصّوفيّة في أيّامه ببغداد:
نِعْمَ النَّديمُ إذا خَلَوْتَ كتابُ ... إنْ خانَكَ النُّدَماءُ والأصْحابُ
فَأبِحْهُ سِرَّكَ قَدْ أمِنْتَ لِسانَهُ ... أوْ أنْ يَغِيبَكَ عِندَهُ مُغْتابُ
وإذا هَفَوْتَ أمِنْتَ غَرْبَ لِسانِهِ ... إنَّ العِتابَ مِنَ النَّديمِ عَذابُ

"الغَرْب: الحِدَّة"...

ختاماً، يقول "توماس جيفرسون"، الرّئيس الثالث للولايات المتحدة الأمريكية، "-1801 1809": "إنّ الّذين يقرأون هم الأحرار؛ لأنّ القراءة تطرد الجهل والخرافة، وهُما من ألدّ أعداء الحريّة"!

وعندما سُئِلَ "فولتير"، "كاتب وفيلسوف فرنسي"، "1694 "1778، عُرِفَ بنقده السّاخر:
- عَمّنْ سيقود الجنس البشريّ؟

أجاب:
- الّذين يعرفون كيف يقرؤُون، وكيف يكتبُون".

ويقول الكاتب والنّاقد والشّاعر والمؤلّف المسرحي البريطاني، "د. صموئيل جونسون"، - 1709) (1784في معجمه الشّهير: "إنّ المجد الأوّل لأيّ شعب، ينبع من كتّابه وكاتباته بالمقام الأوّل".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها