تخيل أنك تتحدث بلغتين مختلفتين في حياتك اليومية: واحدة للحديث مع الأصدقاء، وأخرى للكتابة في المدرسة. هذا ما يسميه علماء الاجتماع "الازدواجية اللغوية" (Diglossia). مثلًا: العربية الفصحى في الكتب مقابل اللهجة الدارجة في الشارع، أو اللاتينية الرسمية في العصور الوسطى (في أوروبا) مقابل لغات الناس العادية. في المسرح المدرسي، نرى شيئًا مشابهًا: لغة المنهج الرسمية (الفصحى) تتصارع مع لغة الطلبة اليومية (العامية). لكن المثير هنا أن "لغة الشارع" ليست خطأً، بل نظامًا لغويًا متكاملًا له قواعده! فحين يقدم الطلبة مسرحية بالعامية، فهم لا "يُفسدون" اللغة، بل يستخدمون ترسانتهم اللغوية الخاصة بذكاء.
وإذا دققنا أكثر، نلاحظ أن المسرح يُحوّل هذه الازدواجية إلى لعبة اجتماعية. فالمعلم قد يطلب تحويل الحوار من العامية إلى الفصحى (كأن يرفع مستوى اللغة فجأة)، بينما الطالب الذي يخلط بين العربية والإنجليزية في مشهد واحد –مثلًا– لا يفعل ذلك عبثًا، بل ليُعبِّر عن هويته، أو ليُضحك الجمهور، أو ليُظهر انتماءه لثقافتين. حتى إن تغيير اللهجة داخل المشهد الواحد قد يكون رسالة: فتحوُّل شخصية من الفصحى إلى العامية قد يعني أنها تريد أن تقول: "أنا قريب منكم"، بينما التمسك باللغة الرسمية قد يكون إشارة إلى الاحترام أو السلطة.
هكذا يصبح المسرح مرآةً صغيرة لعالم كبير: فخلف كل كلمة نطقها الطلبة، تكمن معركة بين ما هو "مقبول" في المدرسة، وما هو حقيقي في حياتهم.
تخيل طالبًا يتنقل بين حديث المنزل بالعامية ولغة المدرسة الفصحى كأنه يرقص بين عالمين. الدراسات تُؤكد أن هؤلاء الطلبة ليسوا بارعين في التكيف فحسب، بل يتفوقون دراسيًا أيضًا! فمن يجيدون "التبديل" بين اللهجة العامية والفصحى – كأن يتحدثوا مع الأصدقاء بالعامية ويقرأوا النصوص الكلاسيكية بطلاقة – يتقدمون في القراءة بسنة كاملة عن أقرانهم الذين يقتصرون على العامية.
على المسرح، تتحول الكلمات إلى مرايا تعكس الهُوية. حين يستخدم الطالب مصطلحات شبابية أو لهجة محلية، فهو لا يختار كلمات عشوائية، بل يصرخ: «هذا أنا»! هذه ليست مجرد لغة، بل مقاومة خفية لقوالب اللغة الجافة، وتأكيد على انتمائه لمجموعة تُشاركه نفس الثقافة. كما يرى خبراء اللغة، اختيارك للكلمات يشي بهُويتك أكثر مما تتخيل.
عندما يُدخل ممثلٌ عبارات من حياته اليومية في النص المسرحي، فهو لا يكسّر القواعد، بل ينسج شخصية حقيقية. المسرح هنا يصير ساحة صراع: أيصبح الحوار فصيحًا كالمناهج، أم يعكس لهجة الحي؟ هذا الجدل يعيدنا لأفكار هنري جيرو (Henry Armand Giroux ) عن "تمرد الشباب الثقافي"، ويُذكرنا بمفهوم «تعدد الأصوات» لباختين (Mikhail Bakhtin )، حيث تتعايش لهجات متنافسة في عمل واحد.
في المدرسة، تُحدد سياسة اللغة من يشعر بالانتماء ومن يُهمش. إجبار الطلبة على الفصحى وحدها قد يجعل بعضهم غرباء في مدرستهم، لكن السماح بدمج العامية لا يُثرِي الحوار فحسب، بل يمنحهم سلطة إعادة صياغة التعليم عبر ثقافتهم. هكذا يصبح المسرح درسًا في التعددية: فكل لهجة تحمل عالمًا يستحق أن يُسمع.
يُسلط مفهوم "الرأسمال اللغوي" (linguistic capital) لبيير بورديو (Pierre Bourdieu) الضوء على دور اللغة الخفي في تعزيز التفاوت داخل الفصول الدراسية. فإتقان اللغة الرسمية التي تتبناها المدارس ليس مجرد مهارة أكاديمية، بل أشبه بعملة نادرة تمنح حامليها فرصًا اجتماعية واقتصادية أكبر. وكما يرى بورديو، تتحول المدارس هنا من منصات للتعلم إلى آلات تُكرس الفروق الطبقية، عبر تفضيلها لـ"لغة النخبة" التي تُعتبر الوحيدة المقبولة في الفضاء الأكاديمي.
خلال النشاط المسرحي مثلاً، قد ينبهر المعلمون –دون وعي– بالطلبة القادرين على إلقاء النصوص الكلاسيكية بلهجة فصيحة متقنة، بينما يُوصم أولئك الذين يعبرون باللهجة اليومية أو العامية بعدم الكفاءة، حتى لو كانت أفكارهم إبداعية. هذا التمييز لا يعكس قدرات الطلبة الحقيقية، بل يكشف عن تحيز مؤسسي ضد كل ما يخرج عن إطار اللغة "المثالية" المُفترضة.
الأمر يشبه معركة خفية بين لغتين: واحدة مُعلنة على السبورة بأحرف ذهبية، وأخرى حية تتنفس في حوارات الطلبة خارج المدرسة. فاللهجات العامية ليست أخطاءً لغوية – كما توضح الباحثة فيفيان كوك (Vivian Cook) – بل أنظمة اتصال معقدة تحمل في طياتها ثقافة وقواعدَ خاصة. عندما يُصر مدرس مسرح على رفض لغة الطالب اليومية، فهو لا يمحو "أخطاءه" بل يمحو جزءًا من هويته.
لكن الأمل لا يزال موجودًا. بعض المدرسين يبدأون حوارًا ذكيًا مع هذه التناقضات، فيسمحون للطلبة بالارتجال باللهجة التي يشعرون بها بالراحة، ثم يدمجونها تدريجيًا مع نصوص اللغة الفصحى. هذه الاستراتيجية لا تُعلّم اللغة الفصيحة فحسب، بل تُحوّل المسرح إلى جسر بين عالم المدرسة المُقنّن وعالم الشارع الحيوي.
وعندما يدمج طالب بين لغة المتنبي –على سبيل المثال- ولهجته المحلية في مشهد مسرحي، فهو لا يفسد النص، بل يحييه. التحدي الحقيقي ليس في اختيار لغة فوق أخرى، بل في خلق فضاء تعليمي يعترف بأن الإبداع لا يُولد من لغة "نقية"، بل من ذلك التمازج الثري بين الأصوات المختلفة.
تخيّل أن فصلًا دراسيًا يتحول إلى ساحة معركة صامتة بين لغة الكتب المدرسية المُذهّبة ولغة الشارع المليئة بالحياة. هذا بالضبط ما يحدث في المسرح المدرسي، حيث لا تُقدّم المسرحيات مجرد حوارات، بل تصبح محكيات صغيرة عن صراع الهوية والانتماء. ففي مشهد كوميدي قد يندمج طالب بلغة البيت الدافئة، بينما يصر آخر على إلقاء نصه بالفصحى كأنه يقرأ من كتاب مقدس! هنا لا يوجد "خطأ" أو "صواب"، بل محاولة للعثور على مساحة مشتركة بين عالمين.
بعض المدرسين يرون في هذه الفوضى اللغوية فرصة ذهبية. بدلًا من توبيخ طالب لأنّه مزج بين لهجة جده الريفية وكلمات المسرحية الكلاسيكية، يشجّعونه على نسج حوار جديد يجمع بين الاثنين. هذه ليست "مخالفة لغوية"، بل ربما تكون بداية لغة هجينة تحمل رائحة التراث وطعم الحداثة في آنٍ واحد.
الحقيقة المرة هي أن الفصحى في المدارس أشبه بـ"مفتاح ذهبي" يفتح أبواب التقدير الرسمي، لكنه أحيانًا يُغلق باب التعبير الحقيقي. بينما اللهجات اليومية –رغم أنها لغة المشاعر والتجارب اليومية– تُعامَل كضيف ثقيل لا يُرحّب به إلا على أطراف المسرح. لكن ماذا لو حوّلنا المسرح إلى مرآة تعكس كل الأصوات؟ طالب من الريف يروي قصة جده باللهجة المحلية، وآخر من المدينة يردّ عليها بلسان فصيح، في حوار لا يلغِي الاختلاف، بل يحتفل به.
الدرس الخفي هنا أن "اللغة الرسمية" ليست سوى واجهة، أما جوهر التعليم الحقيقي فيكمن في ذلك الخيط الخفي الذي يربط بين لغة العقل ولغة القلب. عندما يسمح المعلّم للطلاب بتمثيل مشهد من حياتهم اليومية بلغتهم الخاصة، ثم يربطه تدريجيًا بالنصوص الأدبية، فهو لا يُعلّمهم اللغة، بل يُعلّمهم أن الفصحى والعامية وجهان لعملة واحدة: الهُوية.
في النهاية، المسرح المدرسي ليس مجرد عرض يُقدّم على خشبة، بل رقصة بين الممنوع والمسموح، بين ما يُكتب في الكتب وما يُحكى في الشوارع. النجاح الحقيقي ليس في إتقان لغة واحدة، بل في صنع حوار يجعل حتى "الأخطاء" اللغوية تبدو وكأنها نوتات في سيمفونية إنسانية.