مفهوم الأدبية عند مِرسيا ماركِسكو Mircea Marghescu

ترجمة: د. نعيمة البخاري

كثيراً ما نتحدث عن "الآثار الأدبية"، لكننا لا نتحدث إطلاقاً عن الأدب: لا زال خطاب معظم الاختصاصات يعوض ما يمكن أن يكون عليه خطاب المجموع، ويتباهى باسمه.
بالنسبة للمعنى المشترك لكلمة "الأدب" ككلمة مجردة ليست لها دلالة إلا بإحالتها على مرجع واقعي، بارز وملموس –الكتب- التجربة- القراءة. سربت هذه العادة التي تبرز نوعاً من غياب التفكير كما هي في الخطاب النقدي ذي الطموح العلمي أو الذي يرغب في أن يكون كذلك.

حين يتحدث رجل الآداب (المنظر، والناقد، والمؤرخ) هو نفسه عن لفظة أدب يفكر دائماً في الآثار. تحافظ الاتجاهات المختلفة جميعها، بل حتى المعاكسة للدراسات الأدبية المعاصرة، وكذا الكلاسيكية، على المنفعة المقتصرة على الحدث المباشر الذي هو الأثر: سواء أردنا توضيحه حسب أوضاع اجتماعية أو انطلاقاً من أنا نفسية، أو على العكس إذا أعجبنا النظر إلى الآثار، وهذه الأوضاع على ضوء الأثر، أو إذا اكتفينا بكل بساطة بوصف بنيته، أو حاولنا إدماجها في شبكة متقاربة معها شكلياً، أو سواء انطلقنا من الأثر أو توصلنا إليه، أو ركزنا على حضوره المباشر دون أن نتخلى عنه، فالأثر أو الكتاب أو النص سيبقى المادة الوحيدة ونقطة اختلاف الجهود التحليلية. فعلا، إن نقدنا ليس إلا متوالية من القراءات "قراءات جانبية"، وبذلك فهو يعتبر حقاً ومن خلال مجموعة من أنساق التفكير خارج -أدبية أو داخل- أدبية، الوصف الذاتي لتجربة متفردة، رغم كونه ليس في الحقيقة إلا صورة شاملة ومختلفة لأثر ما، أو لأنا ما، أو للحظة ما. لا يمكن لهذه القراءات، أن تكشف الأثر بشفافية وموضوعية تماماً، بل ستصبح كثيفة بتدخل الذاتية والاحتمالية، ثم مهما كانت تفسيرية فإنها مع ذلك يجب أن تفسر بدورها.

 تتناول الممارسة الخطابية العلمية تبعاً للمعنى المشترك، الأدب باعتباره فقط مجموعة من النصوص المنعزلة والموحى بها، ضمن مجموعة من التَّجارِب المنعزلة التي لا يمكنها بالمقابل أن تحدد هذه الآثار والتجارب إلا باعتبارها مجموعة.

في حين أن اللغة -الواضعة دائماً لحقائق ما تزال مصادرها غامضة- تجمع هذه المجموعة من الأحداث المختلفة تحت نفس الاسم الواحد، وتحددها بذلك كتشكل للمجموع. يمكننا باعتمادنا هذا الاقتراح، أن نهتم بهذا المجموع، باعتباره تحديداً، وبأن -أو إذا شئنا أن نتخيل- "الأدب" كشكل من أشكال التعبير الخاص، أو كخطاب متميز في الوقت نفسه عن هذه التمظهرات الملموسة والإنجازات الخطابية التي تنتجها، وبالتالي من الآثار وكذا باقي الخطابات الأخرى التي تطفو فوق أرضية ثقافة ما. هكذا، سيصبح الأدب ظاهرة مستقلة، يمكنها –ما دام كذلك- أن تكون موضوعاً لدراسة جديدة.

ومن أغرب ما يكون أنه لم تمارس بشكل ملموس دراسة مماثلة تكون هي الدراسة النظرية الحقيقية للأدب التي تسمو به. وتسمح بالدراسة التجريبية للآثار رغم أننا أحسسنا في السنوات الأخيرة مدى الحاجة إليها. لكي نكون في مستوى هذه الدراسة، يجب نظرياً تبرير وجود المجموع كما هو، بكشفنا وإعطائنا القيمة لمعياره المؤسس، يعني يجب أن نعرف ما الذي يجعل من رسالة لغوية أدبية؟ وما الطابع الأساسي والخصوصي الذي ينتمي للنصوص الأدبية؟ ولها وحدها، الذي بمقتضاه تجمع هذه النصوص بالذات تحت نفس السمة في معزل عن كل النصوص الأخرى، وعن كل الإنجازات اللفظية الأخرى، التي نوجزها في كلمة واحدة "أدبية" الأدب.

يمكن لمبدأ الوحدة والتمييز هذا أن يؤسس نظرياً للأدب كمجموع نوعي، سيصبح في ذاته وفي بنيته وداخل تطوره موضوع دراسة علم الأدب.

يبدو لأول وهلة أن بحث هذا العلم سهل للغاية؛ لأن وحدة المجموع ذاتها تبدو صارمة وحتمية. ومع ذلك، ستفتح افتراض "تاريخ الأدب العالمي" ونتساءل ونحن نتخلص من الذكريات المدرسية والبديهيات الجامعية، من أي ثابت تجمعت هذه الكتابات الغزيرة.

تحدثنا عن الجمال، وعن اللذة، وعن الإحساس الجمالي الذي تبلغه اللغة، إلا أننا مع ذلك نراه واضحاً في التاريخ حيث يتجاور العبقري مع الحرفيين الأكثر خمولا، والمتعة الأكثر حدة مع الملل القاتل. فهل سنعتصم إذن وراء القصد الجمالي؟ بل كم من مرة لم يكن ذلك الذي وضع الأثر شاعراً بالمرة، ولا حتى حاول نيل الإعجاب كما أن ذلك الذي يسمعه لم يكن متذوقاً للجمال، ولا منتظراً لأية متعة: لم يكن باسكال Pascal مثلاً يرغب إلا في الاعتراف وسيشرون Cicérone في الإقناع، وهيردوت Hérodote في الاحتفاظ ولوكريس Lucrece في التعليم، والسيدة سيفنيه Sivigné في الحديث ومونتين Montaigne في أن يظهر...

إننا على ما يبدو نتسرع في الحكم على أن الأدب خطاب التخييل، ومخزون من الخيال والرغبات والأحلام. لكن، ما كتب عن حرب بلوبونيز Ploponèse؛ أو عن غزو كونستنتينبل Constantinople يحمل أحداثاً واقعية تؤكدها الدراسة التاريخية الأكثر دقة؛ كما أن ما كتب عن "الحرب والسلام" يتأرجح بين التاريخ والأسطورة، وبين الواقعي والمتخيل؛ وقصة الأب جوريو Le père Gorio هي من صنع الخيال، لكنها قد تكون تحققت؛ والأطوبيا هي من صنع خيالٍ تَمنيْنا لو يصبح ممكناً يوما ما، أما المسخ فخيال ومستحيل؛ كل هذا لكي نتجنب الحديث عن الحكايات الأسطورية حيث نسبة الخيال غير معروفة عندنا.

ربما سنحاول -كما صرحنا وتمنينا لكن دون أن نحاول تحقيقه فعلاً- إيجاد ثابتة أكثر تأكيداً، ثابتة شكلية على مستوى الخطاب فماذا سنجد؟ هل سنجد مشتركاً داخل الركام من الشعريات، ومن البلاغات، ومن الأنحاء السردية؛ داخل اشتغال الأجناس -الغنائي منها والملحمي والدرامي والتراسلي- وداخل هذا المزيج من المناهج والتقنيات -شعر، نثر، تقطيع، قافية، وزن- وداخل هذا الخليط من الأشكال التي تتوالى منذ الإلياذة إلى الأشكال الحديثة غير المتميزة كلياً؟ ماذا سيكون مشتركاً بين هوميروس وجاك بريفير Jacques Prévert، وبين "أفكار" باسكال و"الهاء" لسوليرس Sollers؟ ثم ما الذي يجمع كلّ هذه الأعمال في نفس الخانة: "الآفاق المأتمية Les oraisons funèbres" و"البورجوازي اللطيف"، والأوديسا وأفلاطون والسيدة دوسيفنيي Madame de Sévigné؟

لن نجد من جانب -العلماء والجامعيين الكلاسيكيين أو المعاصرين- أي توضيح حول وحدة هذا الاختلاف: بالنسبة لهم، يكون المجموع الأدبي مؤمناً بتقليد ممتد، والحدس يخلق لدينا الإيمان بهذا التقليد. حين يسأل رجل الأدب عن هذه النقطة، سيكتفي على الأكثر، بالإحالة على الفيلسوف، وعلى عالم الجمال الذي سيحدد من الخارج حقل وخصوصية الأدب.

يعتبر الشكلانيون من الأوائل الذين أثاروا الانتباه إلى خصوصية الواقعة الأدبية. ففي سنة 1921 قام الأستاذ رومان جاكبسون R.Jakobson، وهو كان في تلك الفترة أحد الأعضاء الناشطين في الحلقة الشكلانية، بدراسته للشعر الروسي الحديث، حيث تطرق فيه لمفهوم "الأدبية"... وعينها كمادة للدراسة فقال: "إن موضوع علم الأدب ليس هو الأدب ولكن الأدبية، يعني ما يجعل من أثر معطى أثراً أدبياً".

منذ ذلك الحين، أصبح ضرورياً في الحقل الواسع للشكلانيين إعادة دراسة "الأدبية" باستمرار من طرف الباحثين، مثل ما طرحها تودروف Todorov، حسب علمي في أحدث مؤلف له عن التركيب الميتالغوي [تدروف: الشعرية باريس، العتبة، ماي 1973].

"ليس الأثر الأدبي نفسه هو موضوع الشعرية، يصرح تودروف. إن هذا العلم لا يهتم بالأدب الحقيقي، بل بالأدب المحتمل، وبتعبير آخر، إنه يهتم بتلك الخاصية المجردة التي تصنع فرادة الواقعة الأدبية: "الأدبية" [ص: 20-21].

هكذا، إذا أردنا معرفة المحتوى المحدد الذي أعطاه الشكلانيون ووارثيهم لهذه الكلمة، سنلاحظ أن الأدبية كانت أولا عندهم مبدأ للتمييز الذي يمكن من فصل الدراسات الشكلية للأثر عن الدراسات التقليدية. هذه الأخيرة التي كانت ترى فيه "نقلا لمتوالية أخرى تشمل السيرة الذاتية للكاتب، والمجتمع المعاصر، والنظريات الفلسفية والدينية". كانت هذه الأبحاث تنطلق من الأثر وتستقرئه من أجل تشييد وحدات شكلية أوسع، تضم مجموعة من النصوص والأجناس والحقب... لكن دون أن تتوصل إلى وحدة أكثر اتساعاً. هكذا، رغم بناء مفهوم "الأدبية" فإنها لم تشتغل إلا كمميز، لكنها من وجهة نظر الوحدة ستبقى مجرد أدبية للأثر والآثار والأجناس، ولن تصل أبداً إلى مستوى "أدبية" الأدب. هكذا لم تتمكن أعمال الشكلانيين ووارثيهم من إعطاء مصطلح الأدبية إلا وضعاً غامضاً: من جهة سيؤسس هذا المصطلح مشروع بحث عن خصوصية أدبية spécifique littéraire ستصبح هي موضوع دراسة علم ما. ولن يتحقق هذا المشروع لأن هذه الخصوصية غير محددة بل على الأصح بقيت مضمرة من جهة أخرى. ونتيجة عن هذا الإلحاح الأخير، بقي التأسيس الأولي للمجموع الأدبي، وبالتالي للأدبية، مع الشكلانيين كما بالنسبة لتابعيهم الجامعيين أساساً حدسياً كلياً. ويظهر هذا الحدس كبديهة مؤكدة لا تحتاج نظرياً إلى تفسير.

إذا كانت وحدة المجموع الأدبي، بالنسبة لهذه الجماعة من الباحثين بديهة، فإنه بالنسبة لباحثين آخرين، سيميائيين أكثر منهم شعرييين، العكس هو البديهي. ولهذا فالعادة تكف عن أن تكون عقبة أمام البحث، لتصبح دافعاً خفياً ما دام الباحثون يتلهفون على اعتبارها إرثاً وليس حقيقة. ولنا نحن أن نفصل بينهما. إنهم يجدون لذة في البحث عنها من أجل إخراجها والتساؤل عن الأسس الخفية لنشاطاتها، وشرعية وترابط حقولنا الكلامية؛ إنهم لم يغفلوا القبض على التناقضات الداخلية للمجموع الأدبي واستنتاج عدم وجوده كمجموع: في هذا تصرح المفكرة جوليا كريستيفا Julia Kristeva "بالنسبة للسيميائيات الأدب غير موجود"*.

بالنسبة لكريماسA.J.Grimas  "يتضمن الأدب في ذاته كخطاب مستقل قوانينه الخاصة، وخصوصيته الجوهرية هي شيء لا يمكن مناقشته، كما أن مفهوم الأدبية الذي سيؤسس هذه الخصوصية سيتم تأويله باعتباره إيحاءً اجتماعياً واتفاقياً يتغير حسب الأزمنة والفضاءات البشرية" [73-1971].

إذن، تطرح من جديد مشكلة الوحدة الأدبية المفترضة التي طرحت على مستوى الوقائع الأدبية، وعلى مستوى الوقائع الميتالغوية من جديد. إذا احتفظنا بأدنى احترام لمبدأ اللاتناقض، فمن الواجب والضروري لأجل دراسة الأدب، أن نواجه بفرضيتين (الأدب موجود، وهذه بديهة، والأدب غير موجود وهذه بديهة)، وأن نقرر بالتحليل الملموس أين هو الخطأ وأين هو الصواب. هكذا، إذن تم تلخيص مهمة هذا العمل في أن "الأدبية" ليست بَعدُ مفهوماً مؤكداً ومحضراً قطعياً؛ لأنه لا تجربة القراءة، ولا مختلف الخطابات الميتالغوية نجحت في البرهنة على ما إذا كانت هناك خاصية أصيلة في الحدث الأدبي وممّ تتألف؛ هكذا فمصطلح الأدبية، حتى وإن لم يحلنا على مفهوم ما، فإنه بتمثيله الدائم للمشروع، يفترض إمكانية وجود شيء ما أدبي بشكل خصوصي يجب اكتشافه.

إذن، هذا هو المشروع الذي يبقى في العمق، المشروع غير المتحقق لدى الشكلانيين الذي يجب إثارته الآن بوعي.

إن رهان هذه المؤسسة هو أكثر أهمية مما يبدو لأول وهلة، ما دام مشكل الخصوصية والوحدة، ليس مشكلاً من بين مشاكل أخرى؛ وإنما هو مشكل قبل كل المشاكل السابقة: تبقى إمكانية كل نقد أدبي معلقة به. إذا كان الأدب -كما نعتقد- ليس إلا السمة المضافة، عن سهو تقليدي، إلى مجموع متجانس تماماً؛ فإن كل خطاب متماثل وكل علم، وكل تخصص منظم يتناول مجموع النصوص المميزة جوهرياً سيكون مسرفاً. وعلى العكس، إذا بينا أن الأدب صيغة للتعبير، وخطاب له خصوصيته الأصلية وديناميته الداخلية، إذن لن نكون قد أسسنا فقط نظرياً العلم القديم، ولكن سنكون قد وضعنا -وهذا هو الأكثر أهمية- أسس علم جديد سيأخذ كموضوع له هذه الخصوصية ذاتها "الأدبية" كشرط لإمكان وجود كل أثر فردي. إذن، يمكن للخطاب الميتالغوي أن يمر من مرحلة التجريبية والوقائعية والوصفية التي يوجد فيها الآن، إلى مرحلة تفسيرية، وإلا فلن يحقق أدنى تقدم.


Julia Kristeva. La sémiologie : science critique et/ou critique de la science*
La Théorie d'EnsembleParisSeuil, 1970 - p73

 


المصدر

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها