"بانكسي Banksy" المُخرّب النّبيل! 

أمير الشلّي


"بانكسي Banksy" اسم مستعار لفنّان غرافيتيّ بريطانيّ من مواليد 1974. يرسم هذا الفنان على جدران الشّوارع متخفّيًا في ظلام اللّيل الدّامس، فلا أحد يعرف هويّته باستثناء قلّة من المقرّبين الّذين يتكلّمون على لسانه في بعض اللّقاءات الصّحفيّة النّادرة. هذا الغموض الّذي يحوم حول هويّته كان سببًا من بين عديد الأسباب الّتي ساهمت في شهرته العالميّة الواسعة. فقد اختارته مجلّة "التّايمز" الأمريكيّة واحدًا من بين مائة شخصيّة الأكثر تأثيرًا في العالم.
 

يُقال إنّ "بانكسي" بدأ ممارسة فنّ الغرافيتيّ في مسقط رأسه في "بريستول" في أوائل التسعينيّات، ليتحوّل بعد بضع سنوات إلى أيقونة فنّ الشارع. تحصّل "بانكسي" سنة 2007 على جائزة أعظم فنّان بريطانيّ، لكن كما كان متوقّعًا لم يأتِ ليستلم الجائزة حتّى لا تُنكشف هويّته. يرفض الفنّان الكشف عن نفسه حتّى يتمكّن من التّعبير عن آرائه بحرّيّة دون أيّ تقيّيد، لاسيّما أنّ السّلطات البريطانيّة تصنّف فنّ الشّارع كممارسة إجراميّة تؤدّي إلى عقوبة السّجن بتهمة تخريب الممتلكات العامّة. جاب "بانكسي" جميع دول العالم ناشرًا رسوماته في كلّ مكان دون أن يقدّر أحدّ على اكتشاف هويّته. وقد كان للقدس المحتلّة نصيبًا من النّقد فقد رسم "بانكسي" على جدرانها العازلة عددًا من اللّوحات الّتي ندّد من خلالها بتجاوزات جنود الاحتلال.

تتّسم لوحات "بانكسي" الجداريّة بالطّابع التّشخيصيّ المثقلة بالمعاني السّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة. تسكن لوحاته شخوص حيوانيّة كالفئران والقردة، وأخرى لأطفال وجنود وضبّاط شرطة. كما تستحضر لوحاته بعضًا من الأيقونات السّياسيّة والفنيّة الشّهيرة الّتي يقدّمها ضمن سياق تهكّميّ مناهض للحرب والسّلطة والرّأس ماليّة. يتبنّى "بانكسي" في أعماله الكوميديا السّوداء الّتي يتعمّد من خلالها تعرية الواقع والتّنديد بالانتهاكات المرتكبة وسط صمت السُّلطات المعنيّة. تتّسم لوحات "بانكسي" بالجرأة الّتي تصل أحيانًا إلى حدود الوقاحة، هي لوحات ساخرة في تمظهرها وعميقة من حيث معناها، تحمّلنا على الضّحك بمرارة على سوداويّة الواقع من حولنا. عُرف "بانكسي" بمشاكسة السّلطة من خلال السّخرية من رموزها وأعلامها وسياسيها ما جعل السلطات تُزيل رسوماته من على جدران المدينة. وقد أزيلت منها ما يقارب أربعين من أصل ثلاث وخمسين لوحة. بينما يقوم لصوص الأعمال الفنّية باقتطاع أعماله من على جدران الشّوارع ليبيعوها في المزادات العلنيّة بأرقام فلكيّة.

رسم "بانكسي" سنة 2016 لوحة جداريّة أمام السّفارة الفرنسيّة بلندن، أدانَ من خلالها السّلطات الفرنسيّة التي تستخدم قنابل الغاز المسيل للدّموع في مخيمّات المهاجرين. تجسّد اللّوحة صورة لفتاة تقف أمام علم فرنسيّ ممزّق بينما تمتلئ عيناها بالدّموع بسبب الغازات المنبعثة من القنابل. تدعى الفتاة "كوزيت" وهي شخصيّة اقتبسها "بانكسي" من رواية البؤساء للكاتب الفرنسيّ "فيكتور هيغو". إن "كوزيت" الصغيرة الّتي أعمتها سحابة كثيفة من الدّخان ليست الجداريّة الوحيدة الّتي رسماها "بانكسي" ليعبّر عن أزمة المهاجرين. فقد رسم جداريّة "لستيف جوبز" ممسكًا بحقيبة ظهر وجهاز كمبيوتر قديم وقد رُحِّل إلى المنفى. يشير الفنّان من خلال هذه الجداريّة إلى الأصول السّوريّة لمبدع شركة "آبل" والّذي لن يكون اليوم على ما هو عليه إذا ما وقع تهجيره بسبب أصوله. كما تطرق "بانكسي" إلى نفس القضيّة من خلال رسم حشد من الحمام يرفع لافتات تحمل شعارات عنصريّة تطالب فيها بطرد طائر "السّنونو" القادم من إفريقيا وإرجاعه إلى موطنه.

أنجز "بانكسي" العديد من الجداريّات في إنجلترا تصوّر فئرانًا تظهر في مواقف كوميديّة متنوعة. يرى "بانكسي" أنّ السلطات تطارد الفئران مثلما تطارد فنّاني الغرافيتي، كما يميل الفئران والرسامون إلى الظّهور في اللّيل متخفّين تحت جناح الظّلام، كذلك يعدّهما المجتمع كائنات قذرة مزعجة ومثير للاشمئزاز. وعلى هذا النّحو يشير "بانكسي" بالفئران الّتي رسمها بشكل مكثّف في جدارياته إلى كلّ شخص مضطهد يراه المجتمع عديم الفائدة. تطرّق "بانكسي" في أعماله إلى عديد القضايا السّياسيّة والاجتماعيّة وحتى البيئيّة، فقد قام في إحدى أعماله بإعادة رسم لوحة "كلود مونيه" الشّهيرة التي تحمل عنوان "جسر فوق بركة زنابق الماء"، تجسّد اللّوحة الأصليّة مشهدًا هادئًا لحديقة وفيرة النّباتات يظهر انعكاس ظلها على سطح الماء. أعاد "بانكسي" رسم لوحة "مونيه" الأصليّة بحذافرها، مستخدمًا نفس الموادّ التي استخدمها الرّسّام الأصليّ، ثمّ قام بتشويه جمال الحديقة عبر إضافة عربتيِ تسوق. يشير الفنّان من خلال هذا العمل إلى تفاقم النّزعة الاستهلاكيّة التي غزت مجتمعنا، والّتي انعكست سلبًا على الطّبيعة مسبّبة في تلوّثها وطمس جمالها.

تعدّ لوحةالفتاة الصغيرة ذات البالون" التي رسمها "بانكسي" سنة 2012 واحدة من أشهر أعماله. تجسّد اللّوحة فتاة صغيرة تمدّ يدها للحصول على بالون في شكل قلب أحمر. عرضت هذه اللّوحة سنة 2018 في مزاد علنيّ بلندن. وفي اللحظة الّتي تمّ فيها إعلان بيع اللّوحة بمبلغ 1.4 مليون جنيه إسترليني، حدث أمر غير متوقّع، فقد بدأت اللّوحة تمزق نفسها ذاتيًا بواسطة جهاز أخفاه الفنّان داخل اللوحة. أثارت هذه الحادثة صدمة للمشتري ولجميع الحاضرين. بعد ساعات قليلة نشر "بانكسي" مقطع فيديو على حسابه في الإنستغرام مع التّعليق بمقولة "الرغبة في التدمير هي أيضًا رغبة إبداعية"، ليثبت من خلال هذا التصريح أنه كان وراء هذه الخطّة. يوضح الفيديو القصير الّذي نشره كيفيّة تركيب آلة تمزيق الورق داخل اللّوحة وذلك للّتنديد بسوق الفنّ التي تُسلّع الأعمال الفنيّة، وهو أمر طالما حاربه "بانكسي" من خلال جداريّاته. ناضل "بانكسي" لسنوات ضدّ سوق الفن الذي يعيد بيع اللّوحات دون موافقة الفنّانين، والأسوأ من ذلك، بيع الأعمال التي تُسرق من على جدران الشوارع.

تلعب الثّقافة السّياسيّة دوراً هامًا في ممارسة "بانكسي" الّذي يحرص باستمرار على مواكبة المستجدّات المحلّيّة والعالميّة ليكشف لنا من خلال جداريّاته عيوبها ونواقصها، آملًا في أن تساهم لوحاته في إحداث تغيير، فالفنّ بالنّسبة إلى "بانكسي" أداة نضاليّة في خدمة الإنسانيّة. ولأنّ السّلطات تسارع في مسح رسومات "بانكسي" من على أسطح الجدران، يلجأ الفنان إلى مواقع التّواصل الاجتماعيّ ليوثق رسوماته قبل أن تُحذف أو تُنهب وهكذا يضمن وصولها إلى أكثر فئة ممكنة من النّاس. إذ تمثّل منشوراته على حسابه في الإنستغرام حدثًا فنيّاً سرعان ما يتحول إلى مادة إخباريّة تتناقلها المواقع الإخباريّة التي تشبه "بانكسي" في غالبية عناوينها بشخصيّة "روبن هود"، وهو ثَائر إنجليزيّ مُلقب بـ "اللّصّ النّبيل"؛ لأنه كان يسرق أموال الأغنياء ويوزّعها على الفقراء، ويعود سبب هذا التّشبيه لأن كليْهما اختار تحقيق العدالة بحسب منظورهما الخاص، فإن كان "روبن هود" يسرق ليحقق العدالة؛ فإن "بانكسي" يخرّب ليحثّ السلطات على مراجعة قراراتها، كما أن كليهما يتشارك محبّة المجتمع وكره السلّطة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها