الشعيبية طلال.. تَشكيليةٌ حققّت الريادة

د. سعيد عبيدي



الشعيبية‭ ‬طلال  ‬Chaïbia‭ ‬Talal


تعد المغربية الشعيبية طلال (1929-2004م) Chaïbia Talal إحدى رواد الفن التشكيلي المعاصر، تجاوز صيتها الإبداعي حدود المغرب لينفتح على أشهر الأروقة والمتاحف العالمية (باريس، نيويورك فرانكفورت، جنيف وغيرها)، اكتشف موهبتها الفنية الناقد الفرنسي بيير كوديبير Pierre Gaudibert، والرسام الألماني هانس فيرنر كيردت Hans Verner Kirdt، وهي ابنة الخامسة والعشرين سنة، بعدما قدمت لهما أعمالها المرسومة على القماش، وذلك في زيارة لبيتها للإطلاع على أعمال ابنها الوحيد الحسين طلال الذي كان في بداية مسيرته الفنية.


ومعلوم أن الشعيبية طلال التي لم تطأ قدماها المدرسة يوماً عاشت حياة صعبة نوعاً ما وهو ما انعكس على أشهر لوحاتها؛ فقد تزوجت وهي لا تزال طفلة (13 سنة)، من زوج طاعن في السن ينحدر من مدينة ورزازات، وعندما توفي هذا الأخير بعد سنتين من الزواج تركها بدون معيل مع طفلها الوحيد، فاضطرت من أجل تحصيل قوتها اليومي إلى الخروج بحثاً عن العمل، وهو ما تأتى لها في منازل أحد الأعيان، فكانت بالتالي خادمة بيوت بالنهار ورسامة بارعة بالليل، حيث وجدت في رسوماتها وما تخطه ريشتها متنفساً لما كانت تعانيه من قهر وقسوة.

والشعيبية طلال بإجماع النقاد تنتمي فنياً إلى المدرسة الواقعية التي تستقي مضمونها من الواقع المُعاش، وتقدمه إلى المتلقي في موضوعية وحياد بقدر الإمكان، فالرسام الواقعي لا يختلف عن المصور صاحب العدسة الرقمية الذي تتركز براعته في اختيار المنظر، بحيث يؤدي دور الوساطة بين المنظر والمشاهد أو بين المضمون والمتلقي، لذلك فالرسام الواقعي لا يمكنه أن يطلق العنان لخياله حتى لا يتخطى تصوير ما يرى من مواقف ومناظر وشخصيات حوله، بل عليه أن يعالج الأحداث الجارية والتقاليد والعادات المعاصرة التي تؤثر في سلوك الناس وتفكيرهم، وأن يرصد التفاصيل الدقيقة للشخصيات والأماكن مهما كانت تافهة، كي تبدو معطيات الواقع وعناصره متسقة من خلال سلسلة متصلة من الأسباب والنتائج، وهو ما عملت عليه الشعيبية طلال طيلة مسيرتها الفنية، حتى صارت أعمالها صورة مصغرة لما كان سائداً في المجتمع المغربي خلال القرن الماضي.

وفي حوار مطول أجرته معها الراحلة كذلك فاطمة المرنيسي أكدت الشعيبية طلال: أن موهبتها الفنية لازمتها منذ الطفولة، حيث تذكر أنها كانت غريبة الأطوار في صباها؛ إذ كانت تصنع من الزهور تيجاناً تضعها فوق رأسها، وهذا ما لم يتعود على فعله أطفال المنطقة التي كانت تنتمي إليها، فكانوا ينعتونها آنذاك بالمجنونة، تقول: (كنت فعلا مجنونة بشقائق النعمان والأقحوان ومختلف الأزهار، كنت أبدو لهم غريبة، لكن هذا لم يمنعني من الاستمرار في أن أغطي معظم جسمي بالزهور، حاولت أسرتي أن توقف هذا الأمر فكانوا يضربونني، وكنت أهرب منهم وأختبئ داخل أكوام التبن، لعلك لا تعرفين ماذا يعني أن تختبئي داخل أكوام التبن عندما تمطر السماء مطراً بارداً، كل هذا تجدينه في لوحاتي).

وجدير بالذكر هنا أن لوحات الشعبية طلال في بداياتها واجهت رفضاً واحتقاراً من طرف بعض النقاد وأفراد الوسط التشكيلي المغربي، حيث اعتُبِرت أعمالها خالية من المعاني التشكيلية، بل أكثر من ذلك هي مجرد خطوط وخربشات لا ترقى إلى جدارة القطعة الفنية. وفي مقابل هذا الموقف الرافض والمنتقص لأعمالها انبهر الغربيون ورحبوا بلوحاتها، بعد أن قدمها إليهم بيير كوديبير، مدير متحف الفن الحديث بباريس سنة 1965م، لتتوالى بعد ذلك مشاركات الفنانة العصامية عبر أرقى دور العرض العالمية، إلى جانب أعمال مشاهير الفن التشكيلي من قبيل بابلو بيكاسو وخوان ميرو وغيرهما، لدرجة أن من انتقدوها بداية لم يعد بمقدورهم عرض لوحاتهم إلى جانب لوحاتها المتميزة.

لقد مارست الشعيبية طلال الفن التشكيلي بشكل فطري دون دراسة أكاديمية، ففي جميع المقابلات التي أجريت معها كانت تصرح بأن الفن (موهبة من عند الله)، على عكس ابنها الذي تلقى تكويناً أكاديمياً في الفن التشكيلي بفرنسا، لكن لم تكن له تلك الشهرة التي نالتها والدته، فهي تعتبر اليوم من الرواد الأوائل الذين اقتحموا المتاحف الدولية، وصالات العرض المرموقة في العالم، حتى إن الصحف الإسبانية أطلقت عليها سنة 1988م لقب (ملكة المعارض)، حيث تعتبر لوحاتها من أغلى اللوحات الفنية في العالم. وقد بيعت إحدى لوحاتها، وهي لوحة (قريتي أشتوكة)، سنة 2010، بأكثر من 150 ألف دولار أمريكي، وفي سنة 2014 بيعت لوحتها (حفلة زفاف) بنفس المبلغ تقريباً.

في السنوات الأخيرة من عمرها طبعت الشعيبية لوحاتها بنوع من الفرح والسرور، على عكس أعمالها الأولى التي انعكست عليها نفسيتها المتأزمة والمقهورة، حيث اتجهت إلى رسم العصافير والفراشات والوديان وغيرها من مكونات الطبيعة، ولما سئلت عن هذا الأمر أجابت - كما ورد في كتاب (الشعيبية: أسطورة حية لعبد الله الشيخ)-: (سألني بعضهم: لماذا لا يوجد في أعمالك المتأخرة أشياء محزنة؟ لماذا الفراشات والعصافير؟ أجبت: لأني أحب الفراشات والعصافير، ولا أعطي شرحاً لكل هذا، أتحسسه وأنقله على الورق، هذا ما يسرني، ولا يسعني القول لماذا رسومي مثل هذا أو ذاك؛ إذ عندما أرسم أكون سعيدة وفي عالم آخر، أنسى كل شيء. يقولون لي: لماذا الشيء ذاته دائماً؟ أقول: لأني عندما أغير أجد نفسي لم أعد أنا. مع ذلك، فالتغيير حادث في العمق، وإذا ما شاهدوا رسوماتي الأولى، أمكنهم استنتاج ذلك من الأشكال والألوان).

لقد حازت الشعيبية طلال شهرة كبيرة في المغرب وخارجه، وتحولت بفعل أعمالها وأسلوبها غير القابل للتقليد أو المضاهاة إلى رمز من الرموز البارزة في عالم الفن التشكيلي، بل أكثر من ذلك فتحت الباب على مصراعيه لغيرها من النساء العصاميات من أجل ولوج هذا العالم بعدما كان حكراً على الرجال، فبرزت بعدها أسماء حلقت عالياً في سماء الفن التشكيلي مثل فاطمة حسن، راضية بنت الحسين، فاطنة كبوري، وبنحيلة الركراكية وغيرهن.
 

بقي أن نشير في الأخير؛ إلى أن الشعيبية طلال نالت مجموعة من الجوائز والأوسمة اعترافاً بمكانتها وبقيمة أعمالها، أهمها الميدالية الذهبية للجمعية الأكاديمية الفرنسية للتربية والتشجيع (2003)، كما أن مسيرتها الشخصية والفنية تمت ترجمتها إلى أعمال سينمائية، أشهرها فيلم (الشعيبية) ▲ من إخراج يوسف بريطل وبطولة السعدية أزكون.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها