هل يمكن لأحد أن ينسى ملامح أبيه؟ لقد حاولتُ مرارًا أن أستحضر ملامح وجهه، ولكني فشلت.. كل ما أتذكره هو اللحظة الأخيرة، وهو يتقدّم ناحية باب الدار، حاملاً حقيبةً من القماش تحوي ملابسه… رأيتُها تتدلى من على ظهره ويعلو فوقها الشالُ الملفوفُ على رأسه من الخلف، ظلّ وجهه مخفيًا عني طوال الفترة السابقة وحتى الآن... كنتُ وقتها أراقبه، بينما أجلسُ بجوار والدتي التي راحت تبكي بصمتٍ وحزنٍ على فراقه وسفره إلى مصر، تاركًا قريتنا الصغيرة في الجنوب وباحثًا عن الرزقِ مع أولاد عمومته في سوق الفاكهة بروض الفرج… لقد غابت ملامح وجهه عني تمامًا، ولاسيما وهو مسافرٌ منذ ثلاث سنوات، لم يزُرنا فيها مرةً واحدة، وكان يكتفي بأن يرسل لنا بعض الجنيهات القليلة كلما تيسّر له ذلك، وهكذا كُنّا أحيانًا نظلُ شهورًا لا نجد فيها قوت يومنا… أخاطب والدتي بين الحين والآخر:
- أماه، أنا جائع.
وكانت إجابتها تختلفُ من وقتٍ لآخر، فأحيانًا تطلبُ مني أنْ أحضرَ لها بعضًا من نباتِ "الرجلة"، وهو نوعٌ من الحشائشِ تنمو وسطَ الزروع وتُطبَخُ، فيبدو شكلُها مثلَ الملوخية، ولكن لا طعمَ لها، وأحيانًا أخرى تحضرُ لي بعضَ الملحِ والخبزِ لأقضي يومي عليهما، فإذا توفّرَ لها مالٌ مما يُرسلُهُ أبي، اشترت لنا بعضَ البيضِ مِنَ الحاجةِ "وديدة"… أسألُها متى يعودُ والدي؟ فتخبرني أن رؤيتي لغرابٍ معناهُ أن الغريبَ سَيَعودُ… كنتُ أتسلقُ الفرنَ؛ لأنامَ عليهِ وقتَ المساء، أراقُبُ السماءَ المكشوفةَ حيثُ لا يحتوي صحن الدار لدينا على سقف يغطيه، أنتظر قدوم غراب من أمامي، وحين أراه أقفز إلى الباب وأفتحه فلا أجد أحداً، فأعود إلى موضعي ملتحفاً بخيبة الأمل. أحملق في النجوم وأحاول أن أحصيها فأفشل... أتحدث إليها كما يحدث المرء صديقه:
- أيتها النجوم المنيرة هل تخبرين والدي أن يعود، قولي له إنني أحتاج له لكي يصحبني في الموالد كعادته لألهو بالمراجيح وألعب مع أقراني، وأذهب معه لصلاة العيد وأنا أرتدي جلباباً جديداً.
أتذكر أنه مر العديد من الأعياد ولم أرتدِ ملابس جديدة، ولكن اللحظة الوحيدة التي وجدتُني فيها أحتاجُ إليه فعلا وبكيت وقتها بحرقة لفراقِه، هي في تلك الليلة منذ أسبوع عندما أرسلتني والدتي لشراء بعض الترمس من المعلمة "وديدة" في منزلها، والذي تبيعُ فيه مختلف البضائع، وكان الوقت قد جاوز المساء بقليل، وفي هذا الوقت يخيمُ الهدوء على القرية ويلوذُ سكانُها بديارهم. وصلتُ إلى باب دارها فوجدته مفتوحاً، وعندما دخلتُ إذا بوحشٍ ضخم البنية يهرولُ ناحيتي، وهو ينبحُ بشدة. كان كلبُها الشرس متأهبًا لِكُلّ أحدٍ يعبرُ دونَ إذنٍ داخلَ الدار. صرختُ بأعلى صوتي وعَدَوتُ بأقصى سرعةٍ هاربًا من أمامه، فإذا به يتبعني وهو ينبحُ فظللتُ أُردِّدُ:
- أبي... أبي
عندها تذكرتُ أنه غائبٌ منذ زمنٍ وليس موجودًا الآن؛ لِيأخذَ بيدي ويحميني كعادة كل الآباء مع أبنائهم. سقطتُ على الأرض، وجدتُ الكلب يقفزُ فوقي ويلتهمُ جزءًا من فخذي الأيمن ثم يرحل. رآني أحد المارة الذي تصادف وجوده، وكأن العناية الإلهية قد ساقته إلى هنا لِيَنقذني في الوقت المناسب. حملني الرجل بيديه وأنا غارق في دمائي حتى وصلنا إلى المنزل. رأتني والدتي فصرخت وهي تسأل عما حدث. قضيت الأسبوع الماضي مع الدواء، نمت على الأريكة الوحيدة في صحن الدار التي تواجه الباب نهارًا، وفي غرفتنا الوحيدة مع والدتي ليلا. أنظر إلى الباب وكأنني أتوقع أن يأتي أبي في أي لحظة. فجأة سمعت صوت نعيق غراب يحلق فوقي، ورغم أنني أكره هذا الصوت الذي أعتبره نذير شؤم، إلا أنني فرحت لأنه يعني عودة الغريب. لم يستغرق الأمر سوى دقائق قليلة حتى فتح الباب، الذي كان موارباً، وأطل منه وجه أبي. فور رؤيته لي هرع ناحيتي وأخذني في حضنه الدافئ الذي كنت أفتقده كثيراً. نظرت جيدًا في ملامحه؛ وتعجبت كيف أنسى تلك الملامح التي أراها كل يوم تظلل وجهي في المرآة.