الاستصراخ في لسان العرب مصدر من استصرخ، بمعنى استغاث، أما الاستصراخ شعراً فقد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالأندلس حين كانت في طريقها للإشاحة، وبسقوط المدن الأندلسية الواحدة تلو الأخرى، وهو شعر يقوم على استصراخ الخلفاء والملوك، من أجل طلب النصرة والعون والمدد، كما يرمي إلى شحذ همم المسلمين في العدوة المغربية للدفاع عن الأندلس عبر الجهاد في سبيل الله، وقتال النصارى المستولين على الحواضر الإسلامية الكبرى) وقد جرت العادة أن ترافق قصيدة الاستغاثة مكتوباً سلطانياً يتوجه به سفير إلى هذا الملك أو ذاك، وقد يرتجلها السفير نفسه على لسان سلطانه وقومه)1.
وقد تبين لنا من خلال دراستنا لشعر الاستصراخ في القرن الثامن الهجري أن الأندلس لم تتخذ صورة واحدة، بل كانت لها صور ثلاث اختلفت باختلاف سياق القول الشعري، وقد حددنا هذه الصور كما يلي:
◂ الأندلس "الثغر الغريب".
◂ الأندلس "الفتاة العذراء المغتصبة".
◂ الأندلس "أرض الجهاد".
وهكذا؛ فصور الأندلس التي قدمها لنا شعر الاستصراخ أو الاستنصار، في نهاية المطاف صورة واحدة، هي صورة وطن مفقود مثخن بالجراح والطعنات.
الأندلس: الثغر الغريب
تردّدت صورة "الثغر الغريب" في قصائد الاستصراخ تكراراً لافتاً للانتباه، وبالأخص عند ذي الوزارتين لسان الدين ابن الخطيب السلماني، الذي كان يستشعر بحسه السياسي الرصين أن الأندلس على مشارف النهاية، وأن أيامها باتت معدودة بعد سقوط الحواضر الإسلامية الكبرى، يقول ابن الخطيب مخاطباً السلطان المريني أبا عنان من بائية طويلة اشتملت على ثلاثين بيتاً في الاستصراخ والاستنفار للجهاد، طالباً النصرة والعون والمدد، بعد أن ساد ظلام الكفر آفاق الأندلس (الكامل):
يَا نَاصِرَ الثَّغْرِ الْغَرِيبِ وَأَهْلُهُ ... أَنْضَاءُ مَسْغَبَةٍ وَفَلُّ خُطُوبِ
حَقِّقْ ظُنُونَ بَنِيهِ فِيكَ فَإِنَّهُمْ ... يَتَعَلَّلُونَ بِوَعْدِكَ الْمَرْقُوبِ
ضَاقَتْ مَذَاهِبُ نَصْرِهِمْ فَتَعَلَّقُوا ... بِجَنَابِ عِزٍّ مِنْ عُلاَكَ رَحِيبِ
وَدَجَا ظَلاَمُ الْكُفْرِ فِي آفَاقِهِمْ ... أَوَلَيْسَ صُبْحُكَ مِنْهُمُ بِقَرِيبِ2
لقد قام شعر الاستصراخ عند ابن الخطيب السلماني على استدعاء آيات القرآن الكريم، رغبة منه في شد أفئدة المصرخين والخليفة المريني أولهم، كما يرمي إلى إسقاط صفة القداسة على السلطان القادر على استرجاع الأمجاد الخوالي، فالسلطان المريني هو ظل الله في الأرض إذ (في المجتمع العربي بخاصة حيث تقترن فكرة الله الكلي القدرة في السماء بفكرة ظلِّه الخليفة أو الحاكم على الأرض)3. وقد تبين ذلك في التناص مع الآية الكريمة "إن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب"4، وهنا أيضاً يتجلى البعد الديني لشعر الاستصراخ على اعتبار أنه (قضية دينية وليست سياسية ولا عرقية)5.
ويستمر الشاعر في استصراخ السلطان المريني عبر التكرار اللافت لأفعال الأمر، التي أسهمت بشكل قوي في تغيير المجرى الدلالي للقصيدة، وانتقال موضوعها من الإخبار على حال الأندلسيين كما ورد في البيت الثالث إلى سرد بطولة الممدوح (السلطان المريني)، إضافة إلى إنتاج معنى جديد وهو الاستصراخ، وهو الغرض الأساس للقصيدة على الرغم من أن مناسبة القصيدة هي مدح السلطان المريني، وهنا تتضح قضية تداخل الأغراض في شعر الاستصراخ، فهو يقوم (على مجموعة من الأغراض الشعرية المعروفة في أدبنا القديم ويمتاح من مقوماتها الموضوعية والجمالية، وهذه الأغراض هي المديح والهجاء والرثاء...)6.
يقول ابن الخطيب:
فَانْظُرْ بِعَيْنِ الْعِزِّ مِنْ ثَغْرٍ غَدَا ... حَذَرَ الْعِدَا يَرْنُو بِطَرْفِ مُرِيبِ
نَادَتْكَ أَنْدَلُسٌ وَمَجْدُكَ ضَامِنٌ ... أَنْ لاَ تَخِيبَ لَدَيْكَ فِي مَطْلُوبِ
غَصَبَ الْعَدُوُّ بِلاَدَهَا وَحُسَامُكَ اْل ... مَاضِي الشَّبَا مُسْتَرْجِعُ الْمَغْصُوبِ
أَرِهَا السَّوَابِحَ فِي الْمَجَازِ حَقِيقَةً ... مِنْ كُلِّ قُعْدَةٍ مِحْرَبٍ وَجَنِيبِ7
الأندلس: الفتاة العذراء المغتصبة
تضفي الأشعار على الأندلس صورة أنثوية، صورة العروس الفاتنة المقلدة بالجواهر الفاخرة، والتيجان الذهبية الثمينة (وكان الشعراء يشبهون المدن الكبرى في إسبانيا، وبخاصة تلك التي تخترقها الأنهار، أو تقع على شاطئ البحر بالعروس ليلة زفافها)8، هذه الصورة الأنثوية للأندلس تعدّ تكراراً للصور الشعرية المبثوثة في الشعر الأندلسي منذ عصر ملوك الطوائف إلى عهد بني نصر بمملكة غرناطة، صورة متوارثة جاهزة تنهل من الواقع المر الذي عاشته الأندلس، وهي فترة السقوط والانهيار فقد (كان الشعر الأندلسي خلال العصر الغرناطي يلفظ آخر أنفاسه، مثله في ذلك مثل غيره من فروع الثقافة الإسلامية في الأندلس، كانت كلها تعيش على أصداء الماضي)9.
ولا غرابة في أن يستمر هذا التصوير إلى نهاية الأندلس، وبالأخص في شعر الاستغاثة والاستصراخ، إلا أن التغيير هنا يكمن في تحول صورة الأندلس من عروس موشاة بأثمن الجواهر وأفخرها إلى فتاة عذراء مغتصبة، يرشفها الكفر رشفاً، وإلى غادة بكر جلتها يد الجلا، كما جاء عند ابن الخطيب السلماني (الطويل):
ثُغُورٌ غَدَتْ مِثْلَ الثُّغُورِ ضَوَاحِكاً ... أَقَامَ عَلَيْهَا الْكُفْرُ يَرْشُفُهَا رَشْفَا
فَمِنْ مَعْقِلٍ حَلَّ الْعَدُوُّ عِقَالَهُ ... وَمِنْ مَسْجِدٍ صَارَ الضَّلاَلُ بِهِ وَقْفَا
وَمِنْ غَادَةٍ بِكْرٍ جَلَتْهَا يَدُ الْجَلاَ ... وَلَمْ تَدْرِ إِلاَّ دَايَةً قَطُّ أَوْ سَجْفَا10
فالشاعر من خلال هذه الصورة المركبة من مجموعة من الصور الجزئية القائمة على التشبيه (مثل الثغور)، والتشبيه البليغ (غادة بكر) يتوخى (استثارة شعور الغيرة على الدين وعلى الحريم)11، وإيقاظ منابع الإيمان في قلوب المسلمين، والتذكير بواجب أخوة الإسلام في الذوذ عن المستضعفين المغلوبين، يقول ابن الخطيب:
وَسِيلَتُنَا الْإِسْلاَمُ وَهْوَ أُخُوَّةٌ ... مِنَ الْمَلَإِ الْأَعْلَى تُقَرِّبُنَا زُلْفَى12
ثم ينتقل الشاعر بعد ذلك إلى طلب العون والاستنصار والاستنفار للجهاد من كافة المسلمين بالمغرب، يقول ابن الخطيب:
فَهَلْ نَاصِرٌ مُسْتَبْصِرٌ فِي يَقِينِهِ ... يُجِيرُ مَنِ اسْتَعْدَى وَيَكْفِي مَنِ اسْتَكْفَى
وَمُسْتَنْجِزٌ فِينَا مِنَ اللهِ وَعْدَهُ ... فَلاَ نَكْثَ فِي وَعْدِ الْإِلَهِ وَلاَ خُلْفَا
وَهَلْ بَائِعٌ فِينَا مِنَ اللهِ نَفْسَهُ ... فَلاَ مُشْتَرٍ أَوْلَى مِنَ اللهِ أَوْ أَوْفَى
وَهَا نَحْنُ قَدْ لُذْنَا بِعِزِّ حِمَاكُمُ ... وَنَرْجُو مِنَ اللهِ الْإِدَالَةَ وَاللُّطْفَا13
الأندلس: أرض الجهاد
تتردد صورة الأندلس "أرض الجهاد" بغزارة في شعر الاستصراخ عند ابن زمرك الصريحي إبان القرن الثامن الهجري، والأمر يتجاوز سياق القول الشعري، أو بلاغة جافة مرصوصة في جزئيات القصيدة، إلى عقيدة راسخة في وجدان الأندلسي التواق إلى الجهاد في سبيل الله لإعادة الفتح من جديد، فتح أرض أضحى الكافر يعيث فيها فساداً وضلالاً.
إن المتأمل في شعر الاستصراخ عند ابن زمرك الصريحي، يلمس تكراراً عجيباً لكلمة "الفتح"، فبالإضافة إلى أن التكرار (يقوم بدور كبير في الخطاب الشعري)14؛ وأن له وظيفة كبرى في تعميق المجرى الدلالي15؛ فإنه في شعر الاستنفار يؤدي وظيفة حجاجية إقناعية، تفضي إلى التأثير في المخاطب الممدوح عبر تذكيره بالفتوحات النبوية الخالدة، فالأمر سيان، بين الفتوحات الإسلامية التاريخية، وبين فتح بلاد عبث فيها أنصار التثليث، يقول ابن زمرك مخاطباً سلطان بني مرين (الطويل):
فَيَسَّرْتَ لِلْيُسْرَى وَيُسِّرَ فَتْحُهَا ... كَلَمْحَةِ لَمْعِ الْبَرْقِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ
تُنَاجِيكَ خَلْفَ الْبَحْرِ آمَالُ مَعْشَرٍ ... وَكُلُّ مُحَيَّاكَ الْمُبَارَكَ يَرْقُبُ
فَقَلِّدْ سُيُوفاً مِنْ مَرِينٍ وَسُلَّهَا ... عَلَى عُصْبَةِ التَّثْلِيتِ وَاللهُ يَضْرِبُ16
وبعد نصرة السلطان المريني للأندلسيين يتحقق النصر والفتح، بعد أن جالت خيول الله في قشتالة في قمة البطولة والفروسية، متخذاً كذلك صورة السلطان المقدس في البيت الأول مشيراً إلى قوله صلى الله عليه وسلم (نصرت بالرعب مسيرة شهر).
يقول الشاعر من قصيدة أخرى مخاطباً ملك المغرب، مستنفراً لدواعي الخلوص مستفزاً في تكرار كثيف لكلمة "الفتح" (الكامل):
حَتَّى تُرَى أَعْلاَمُنَا مَنْشُورَةً ... وَالنَّصْرُ يَقْدُمُهَا بِجَيْشٍ مُرْعِبِ
وَالْفَتْحُ يَمْرَحُ وَادِعاً مُتَمَهِّلاً ... فِي ظِلِّهَا مَرَحَ الْجَوَادِ الْمُقْرَبِ
كَيْمَا يَعُودُ الْفَتْحُ أَوَّلَ بَدْأَةٍ ... عَوْداً عَلَى رَغْمِ الْعَدُوِّ الْأَخْيَبِ
وَنُجِيدُ فَتْحَ مَقَاصِرٍ لِقَيَاصِرٍ ... مِنْ كُلِّ مَضْفُورِ السَّبَالَةِ أَصْهَبِ17
يُعدّ شعر الاستصراخ في القرن الثامن الهجري بالأندلس أنموذجاً متميزاً للأصالة الشعرية الصادقة، ومصدراً وثائقياً ثميناً للشعر النضالي، يرجع إليه الباحثون لاستلهام الواقع السياسي للأندلس إضافة إلى القيمة الفنية الكبيرة المتمثلة في تطور معانيه وصوره وتداخل الأغراض فيه، فكانت صورة الأندلس الأكثر هيمنة نظراً لاتصالها الوثيق بعقيدة الشاعر الأندلسي التواق إلى الخلود في الفردوس الذي أضحى مفقوداً.
هوامش: 1. حسين اليعقوبي، قصائد غير منشورة في الاستصراخ والإصراخ، ص: 479، مجلة دراسات أندلسية، العدد 5، يناير، 1990. | 2. ديوان لسان الدين ابن الخطيب، ص: 131، المجلد 1، دار الثقافة، الطبعة 1، 2007. | 3. أدونيس، الثابت والمتحول، بحث في الإبداع والاتباع عند العرب، ج 2، دار الساقي، الطبعة العاشرة 2011، ص: 123. | 4. سورة هود، الآية: 81. | 5. حسناء الطرابلسي، حياة الشعر في نهاية الأندلس، ص: 593، دار الحامي، الطبعة 1، 2001. | 6. محمد الأمين المؤدب، في بلاغة النص الشعري القديم، معالم وعوالم، ص: 81، الطبعة 1، 2010. | 7. الديوان، ص: 131. | 8. هنري بيرس، الشعر الأندلسي في عصر الطوائف، ملامحه العامة وموضوعاته الرئيسية وقيمته التوثيقية، ترجمة الطاهر أحمد مكي، دار المعارف، ط 1، 1988، ص: 109. | 9. تاريخ الفكر الأندلسي، تأليف انخل جنثالث بالنثيا، ترجمة حسين مؤنس، تقديم سليمان العطار، المركز القومي للترجمة، 2011، عدد 1770، ص: 167. | 10. الديوان، ص: 678.| 11. حسناء الطرابلسي، المرجع السابق، ص: 595. | 12. الديوان، ص: 678. | 13. الديوان، ص: 678 – 679. | 14. محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري، استراتيجية التناص، ص: 92،المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة 3، 1992 | 15. صلاح فضل، إنتاج الدلاة الأدبية، ص: 289. | 16. ديوان ابن زمرك، ص: 161 – 162، تحقيق محمد توفيق النيفر، دار الغرب الإسلامي، الطبعة 1، 1997. | 17. الديوان، ص: 167.