المرأة في الثقافة العربية

"أوراق الورد" لمصطفى صادق الرافعي نموذجًا

د. أحمد يحيى علي


قبل أن نبدأ:

المرأة في تراثنا العربي القديم تقع موقع الفاعل الدافع، قبل أن تكون موضوعًا أو مفعولا أو متلقيًا سلبيًا تصنعه ثقافة ذكورية النزعة، المرأة في الجذر الثقافي العربي بمثابة فاعل تتعدد مظاهر حضوره التي يعكسها الفن جلياً؛ فهي الحبيبة الملهمة التي يجد فيها الشاعر محفزاً للعطاء، وعطاؤها يكمن في دفعها الرجل إلى الإبداع الذي يظهر في منجز رومانسي تجليه القصيدة العربية في مقدمتها العريقة المتمثلة في الغزل وبكاء الأطلال، وتجليه القصيدة العربية أيضًا في تلك الظاهرة الأدبية التي كُتب لها الشيوع والانتشار في عصر بني أمية، متمثلة فيما يسمى الأدب العذري والمنتمين إليه: قيس ليلى، وجميل بثينة، وكثير عزة، وقيس لبنى، وتوبة وليلى... وغيرهم.

المرأة بمثابة العامل الدافع للرجل للحركة في دروب الصحراء الشاسعة، بحثًا عن فكرة الوطن التي لم يكن العربي القديم على وعي حقيقي بمدلولها الذي تجلى لاحقًا؛ إن ملفوظات مثل المرأة، الأرض، القبيلة، القصيدة تتضافر جميعها لتشكل نسقًا ثقافيًا لا بُدّ من قراءة مفرداته وفق أدوات فنية أدبية وواقعية أنثروبولوجية، تاريخية حتى يتسنى تقديم أطروحة تتغيّا التكامل والشمول، تعكس وجه الشخصية العربية وهويتها بإزاء غيرها من أهل الحضارات الأخرى.
 

***


"الأسلوب هو الرجل" مقولة أطلقها الكاتب الفرنسي جورج بوفون، ورددها من بعده مفكرون عرب؛ انطلاقًا من قناعة مفادها أن الفعل التعبيري ونموذجه الفعل المتدثر في ظهوره بثياب اللغة يعكس في تشكله هوية صاحبه؛ فالعلاقة بين الاثنين أشبه بعلاقة الابن بأبيه؛ فكلاهما يدخل في علاقة حتمية تقوم على فكرة الفرع الذي خرج من أصل، وعلى أن في هذا الفرع سمات تعود إلى الأب، ولعل الدرس الأسلوبي في مبحث من مباحثه المتصل بالعلاقة بين المكتوب والكاتب التي تأخذنا إلى الجانب النفسي المتعلق بالمؤلف، تأخذنا إلى هذه المسألة الحيوية في الدرس النقدي الذي ينشد الوقوف على المقاصد التي تسكن منطقة الفاعل المسؤول عن خروج الحالة التعبيرية في شقها اللغوي على هيئة بعينها1.

الكلمة قالب، مكان للزيارة يتناوب عليه، أو لو شئنا قلنا استعارته أصحاب الرغبة في التعبير، البوح، إخراج ما تكنه صدورهم، وحاصل ما تنتجه عقولهم من أفكار وعواطف تأبى أن تبقى حبيسة أنفس أصحابها بحثاً عن حضور لها خارج هذه الأفضية الجنينية التي تحتضنها بدايةً2.

ولا شك في أن الحضارة العربية التي اتخذت من الكلمة أساساً تقوم عليه؛ قد شهدت عبر رحلة الزمن الطويلة تطورًا في أشكال التعبير تحت عنوان جامع هو الأدب بشقيه الرئيسين: الشعر والنثر، ومن كل رافد من هذين الاثنين خرجت قنوات فرعية تتعلق به، بالنظر إلى الشكل، والمحتوى الذي يسكنه.

ومصطفى صادق الرافعي كاتب مصري عرفناه في النصف الأول من القرن العشرين من خلال ما قدمه إلى المكتبة العربية من إسهامات، أصوله تعود إلى مدينة طرابلس بلبنان، وفد جده إلى مصر حيث ولد الرافعي في العام 1880م، توقف في التعليم عند المرحلة الابتدائية نتيجة إصابته بمرض أفقده السمع، وأعاقه عن الاستمرار في الدراسة، كتب في حقول تعبيرية شتى؛ فكتب الشعر ومن أعماله فيه، ديوان الرافعي وديوان النظرات، وكتب الخواطر النثرية، ومن أعماله فيها: السحاب الأحمر، وأوراق الورد، وكتب المقال، وله مجموعة مقالية شهيرة بعنوان: وحي القلم، وكتب التاريخ، وله فيه كتاب يعد امتداداً لسلسة كتب مهمة في هذا الشأن، بعنوان: تاريخ آداب العرب، هذا الكتاب يعد حلقة في سلسلة فيها: تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان، وتاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان، وتاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف، وله كتاب أثير يرد به على كتاب الشعر الجاهلي لطه حسين بعنوان: تحت راية القرآن.

وفاته: توفي في الرابع عشر من مايو سنة 1937م3.

الأنثى والهوية: الكتابة ودافعية الإبداع

إن مسألة الهوية تأخذنا إلى أعمدة ثلاثة تمثلها: اللغة والتراث والمعتقد الديني، والحديث عن الثوب الحكائي النثري الذي يرتديه الرافعي يأخذنا إلى أحد أعماله في هذا المجال، ألا وهو "أوراق الورد"(4) الذي يمثل بنظر ظاهري عددًا من الرسائل المتبادلة بين طرفين: رجل وامرأة، مغلفة بغلاف عاطفي، تجليه عاطفة الحب، الذي اتخذ منها صاحبها طاقة تدفعه إلى الكتابة المبدعة، بما يجعل منه حلقة في سلسلة تأخذنا في الزمن إلى تراثنا العربي الذي يحتفي بهذه الثنائيات، ولعل أبرز العناوين التي جمعتها هو "الحب العذري"، وتحته نجد: مجنون ليلى، كثير عزة، قيس لبنى، جميل بثينة.. وغيرها، وكانت الكلمة الشاعرة في قالب القصيدة العربية التقليدي المتعارف عليه منذ القدم، هي القناة الحاملة لرسالة المحبة والسلام الواصلة بين طرفين، أحدهما يؤدي دور الذات المنتجة لها، ألا وهو الشاعر، والثاني يؤدي دور الموضوع المعني، بحديث هذه الذات والمتلقي لعاطفتها، ألا وهو هذه الأنثى التي كانت بالنسبة إليه مطية حاملة لكلمته المتواصلة، المصافحة بأثرها للآتين بعد زمن الشاعر.

والناظر إلى عنوان "أوراق الورد" يجد تحته هذا التركيب "رسائلها ورسائله"؛ فبغض النظر عن كون هذه الأنثى حقيقية في حياته أم لا يتوجه إليه بعاطفته وبلغته؛ فقد شاع أنه أحب الأديبة اللبنانية مي زيادة.. وبغض النظر عن كون هذه الرسائل المرسلة إليه من إبداع ذات أنثوية أم من وحي بنات أفكاره هو؛ فإن هذه الصياغة النثرية للمتدفق العاطفي والفكري النابع من داخله يأخذنا إلى فن أدبي عربي أصيل، ألا وهو فن الرسالة الذي تحتفي به مصنفات تراثية أصيلة، مثل: عيون الأخبار لابن قتيبة، والعقد الفريد لابن عبد ربه، وصبح الأعشى للقلقشندي.. فضلا عن رسائل إخوان الصفا التي تأخذنا من حيث التأليف إلى عام غير محدد الاسم، فقط اكتفى لنفسه بهذا التركيب الذي نُعِت به "إخوان الصفا"، وإلى عام أيضاً من حيث التلقي والقراءة، فهي لا تتوجه إلى فرد أو شريحة بعينها، لكن إلى كل من يجد في مضمونها شيئاً يترك أثرًا فيه.

وهذه بعض كلمات الرافعي التي صدَّر بها مصنفه "أوراق الورد"، وتقدم ما يمكن أن نسميه بطاقة تعريف لعمله هذا، أو لو شئنا قلنا هذا الخط الذي انتهجه في الكتابة:
"ورسائل أوراق الورد هذه تطارحها شاعر فيلسوف روحاني وشاعرة فيلسوفة روحانية، كلاهما يحب صاحبه كما يقول ابن سينا "باعتبار عقلي". وقد جرت الرسائل بينهما على أغراضهما في أحوال مختلفة، يكتب إليها بما عنده منها، وما عند نفسه من نفسه، وما يكون من الوجود المحصور بينهما في حدود الحب..".

"هو تكملة على كتابين خرجا من قبل: "رسائل الأحزان"، و"السحاب الأحمر".

"كان لها في نفسي مظهر الجمال، ومعه حماقة الرجاء وجنونه، ثم خضوعي لها خضوعاً لا ينفعني.. فبدلني الهجر منها مظهر الجلال، ومعه وقار اليأس وعقله، ثم خضوعها لخيالي خضوعاً لا يضرها".

"وما أريد من الحب إلا الفن، فإن جاء من الهجر فن فهو الحب".

"كلما ابتعدت في صدها خطوتين، رجع إليَّ صوابي خطوة..".

إن هذا المؤنث من وجهة نظر الرافعي التي تبين عنها هذه الكلمات، ترتفع فوق أية اعتبارات واقعية أو حتى إنسانية، لتصير رمزاً يجعل منه هذا المعبر رحماً يخرج منه مولوده اللغوي (رسالته)، ووسيلة يستعين بها في تصميم معمار لغوي يحتفي بهذين الطرفين الأثيرين: هو/الرجل، هي/المرأة، وغاية/مخاطب يتلقى منجزه التعبيري هذا، ومن وراء هذه الغاية قارئ عام غير محدد الزمان والمكان، ولا شك في أن الاحتفاء بالذات والإنصات إلى ما يدور داخلها، إضافة إلى هذا الحضور اللافت للأنثى يؤكد هذه الوضعية الرومانسية للرافعي التي تدثرت في ظهورها بثوبين تعبيرين، الأول: شعري، والثاني نثري.

وقد قسم الرافعي كتابه هذا فصولا، منها هذا الفصل الذي يحمل عنوان: "قالت وقلت"، وفيه نتوقف أمام هذا الحوار:
"هذه رسالة تجمع من كلامها وكلامه مما كان يتساقط به الحديث بينهما، وقد دونها هو في مجالس شتى..

أما والله إن عاشق بعض النساء لكالجالس على هذا العرش كل لذته من بلائه أنه لم يذبح بعد، الموت ينتزع الروح، والهجر يترك الروح كأنها منتزعة، فهو موت لا ينتهي، أيكون الحب في الحقيقة هو قدرة شخص جميل على تزوير نفسه، وتزوير الكون في نظر شخص آخر؟

قالت له: لم أعدك بشيء.

قال: نعم، لم تعديني بلسانك، ولكن وعدت بما فيك من الشفقة ما ترين فيَّ من الاضطرار..

عندما أراكِ لا أتمالك أن أضطرب وأهتز؛ أفهناك ألحان من جمالك تنطلق فيَّ؟!

قالت له: كلماتي لا تتم بمعانيها، لكن بفهمك أنت لمعانيها.

وقالت: إن ساعة كتابتي إليك هي ساعة من الحياة معك وإن كنا على بعد.

...

هل الطبيعة الإنسانية بتأليفها بين حبيبين تضرب المثل على إمكان هذا الائتلاف بين الجميع؟ أم على استحالة إمكان التآلف الصحيح إلا بين اثنين فقط من الجميع؟

العقل يدل على نفسه بالنظر في الكون ويعبر عن ذلك بأفكاره، والقلب يدل على نفسه بالنظر إلى الحبيب، ويعبر عن ذلك بأشواقه.

كل كلمة فيها معناها، وحين تكون الكلمة منكِ يكون فيها من معناها ومنكِ

قالت: أنا في نفسي كما أنا، ولكني في حبكَ كما أرى؛ فأنا أكتشف نفسي الجميلة فيكَ، وبهذا أجد حبكَ من عظمتي وسروري".

إن هذه الحالة الدرامية الحوارية التي يكشف عنها: قلتُ وقالت تأخذنا في حقيقتها إلى هذا الفضاء شديد الفردية، فضاء الأنا المنصتة إلى صوت داخلها، ويبدو أن صوت الشاعر في داخل الرافعي ذو سطوة على قلمه الناثر في عملية تتجلى فيها عاطفة الحب لتكشف عن معراج يرتقيه الكاتب صعودًا، مما هو مادي إلى ما هو معنوي يحتفي بالمجردات من الأفكار والخواطر، ولا حظ للمادي فيها إلا بالكلمة المكتوبة التي يرمقها بصر القارئ، وفي فضاء هذه الثنائية الصوتية تتكشف حقيقة أمام العيان، مفادها أن حضور الذات رهن بنظر الآخر إليها، فلكل موجود في العالم وضعيتان، الأولى: كما تبدو في داخل هذا العالم، والثانية: أكثر جمالية وتشويقاً، ألا وهي وجوده في وعي الرائين له؛ ومن ثم فإن الحب برؤية شديدة العمومية هي كل صلة تربط بين هذا الإنسان، وما في عالمه وينتج عنها مولودات عقلية وقلبية تتخذ مما هو محسوس كاللغة سبيلا إلى الخروج والحضور في فضاء بشري يمثل فعل القراءة فيه النشاط الأبرز بالنسبة لأفراده؛ إن الحب عاطفة، والمرأة وعاء تأوي إليه هذه العاطفة، والرجل ذات تتجول بين جنبات العالم تلتقط منه وتسجل.
 

تعقيب:

إننا إذًا بصدد نزعة رومانسية، هذه النزعة يمكن القول عنها: إنها المنطلق الأثير الرئيس الذي منه تستقي كل ذات فنانة زادها الذي يعينها على الحركة في العالم الموازي لعالم الواقع (عالم المجاز) لتنشئ بيوتًا تطل منها على العالم بعين مغايرة للمألوف؛ إن النزعة الرومانسية في علاقة المبدع بعالمه وما يتمخض عنها من مواقف فكرية وشعورية مجردة، تسكن وعي هذا المبدع تتوسل بأدوات ثلاثة في تبلورها: الارتباط بالطبيعة، العزلة والانفصال غير المطلق عن العالم وما فيه من صخب، الاقتراب من المؤنث وإقامة منظومات تفاعلية معه، بما يكشف عن روح تواقة ذائبة مشغولة مهمومة بهذا المؤنث أغلب الوقت بطريقة تجعل منه الهدف والدافع والغاية في الوقت ذاته التي تنشد روح الفنان إدراكها والتماهي معها؛ إن العربي القديم الذي منه خرج وإلى جذوره ينتمي أحمد الدويحي ورفاقه ومن على شاكلته، كان يجد في المحبوبة ضالة منشودة يتكئ عليها في أول قصيدته باكيًا وواصفًا إياها وديارها؛ لينطلق وينساب مقدمًا نسقًا إبداعيًا، هذا النسق الممتد والمتواصل الحضور عبر الزمن صح أن يطلق عليه هذه العبارة الأثيرة التي طارت في الآفاق "الشعر ديوان العرب"؛ فإذا كان رصد الواقع يتم عبر أداتين في التعبير اللغوي؛ الأولى: الرصد التسجيلي، والثانية: الرصد الفني المتوسل بالمجاز؛ فإننا نستطيع القول:

إن الرواية حديثًا تعد أداة فعّالة وناجعة في تقديم حيوات بتفاصيل وبتوسع وبشخوص وبأزمنة وأمكنة تحاكي وتوازي الحياة الحقيقية المعيشة، وفي إنجاز مثل هذه الحيوات عبر الكتابة الأدبية بإمكاننا الوقوف على قناعة مفادها أن أسلوب الصحفي في العمل المعتمد على الحركة الميدانية المخالطة للناس ولحوادث حياتهم، والباحثة عما تراه يستحق الذكر والتنويه والنشر، يمثل عتبة أولى لا غنى لأي فنان عنها؛ إنه بعد الصحبة والمعايشة والمخالطة يبدأ في الانسحاب، يميل إلى العزلة، مختليًا بفكره، بما جمعه وسكن وعيه من خواطر استقرت في عقله وفي وجدانه، يقيم مع هذا المسكون حوارات مونولوجية، يستحيل فيها كل شيء كان واقعًا إلى رموز أنوثية؛ إن كل ما كان وقت المعايشة والمصاحبة والمخالطة يستحيل في مرحلة لاحقة إلى أنثى مجردة؛ هذه الأنثى المجردة تتمثل في: فكرة، في خاطرة، في كلمة، في جملة، في عبارة، في قصيدة شعر في نهاية المطاف، أو في قصة أو في رواية، أو غير ذلك من أشكال التعبير الأدبي.

 


الهوامش: 1. انظر: د. أحمد يحيى علي، جماليات الوصف في لغتنا العربية، منتدى مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية.2. انظر: السابق.3. يراجع تفصيلا، د. محمد سعيد العريان، حياة الرافعي، طبعة 2020م، مؤسسة هنداوي للنشر، المملكة المتحدة.4. تم الاعتماد على النصوص المستقاة في داخل الدراسة على: مصطفى صادق الرافعي، أوراق الورد: رسائلها ورسائله، طبعة 2012م، مؤسسة هنداوي للنشر.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها