في رحاب الإبداع، يبرز اسم الأديب عمر عبد العزيز كأحد الأصوات السردية المميّزة التي تمزج بين عمق الفكرة وجمال الصياغة، مستفيدًا من ثقافة واسعة وخبرة عملية ثرية، إذْ يحمل ماجستير في العلاقات الاقتصادية الدولية، ودكتوراه دولة في العلوم الاقتصادية. وقد راكم إلى جانب خبرته البحثية والإدارية من عمله محررًا في وكالة أنباء عدن، ومديرًا لمعهد الفنون الجميلة بعدن، ثم مديرًا لتحرير مجلة "الرافد"، إرثًا معرفيًا وأدبيًا متنوعًا، وأصدر في القصة والنقد والفكر مؤلفات لافتة منها: من يناير إلى يناير، وكتابات أولى في الجمال، والصوفية والتشكيل، ومنازل الرؤية، وزمن الإبداع، إضافة إلى أبحاث أكاديمية مثل إشكاليات التعاون الاقتصادي العربي، وترجمات رفيعة في الفلسفة والفكر من الرومانية، فضلًا عن مخطوطات وأعمال قيد الطبع مثل موسيقى الوجود وسيكولوجيا الجمال، وهذه الخلفية الفكرية والفنية تنعكس بجلاء في منجزه الروائي، ولا سيما في عمله "المتسرنمون"، الذي يفتح أبواب التأويل على مصراعيها، ويجعل من السرد طقسًا رؤيويًا فريدًا، فما إن تقع العين على عنوان الرواية "المتسرنمون" حتى يأخذك طيف من الغرابة، يقرع باب التأويل في ذهنك دون إذنٍ أو تهيئة، كلمة واحدة مركبة نحويًّا ودلاليًّا، توهمك بالبُعد الطبي، فإذا بها تسرنمة وجودية تتجاوز طبائع النوم، وتغور في أعمق أعماق الإدراك المعطَّل واليقظة الباردة، فالعنوان بحدّ ذاته دعوة إلى التخلي عن المعايير، وإلى الدخول في طقس من الغموض الحالم، بل هو مراوغة لغوية تضمر خلفها تجربة وعي متكسّر يتنقل بين الهذيان والرؤيا.
في هذه الرواية، لا يقودنا السرد إلى وجهة، بل إلى تشظّي المقاصد، وانفجار الزمن، وتحوّلات الذات، فهي حكاية ليست بالمعنى المألوف، بل خيوط رؤيوية، تشبه الحُلم الطويل الذي لا يريد أن ينتهي.
تكتب الرواية أبطالها وهم يمحون أنفسهم: نوراني، أحمدوني، باعبّاد، الشماسي، سلّوم، وسليم… لا أحد منهم بطل بالمعنى السردي، بل شظايا صوت منقوشة في جدار الأسئلة الكبرى: من نحن؟ لماذا ننتمي؟ ماذا نفهم؟ وهل حقًا نفهم؟ تُحلق هذه الرواية بعيدًا عن السرد المستقيم، فالشخصيات هنا ليست أفرادًا بقدر ما هي تجسيدات لطبقات النفس البشرية: نوراني هو البصيرة المرهَقة، أحمدوني هو الحنين الذي يرفض الموت، والذي يمشي مثْقَلًا بتاريخ شخصي لا يفصح عنه، كأنه يحمل أطلالًا في صوته، باعبّاد هو التديّن الغامض الذي يتأرجح بين الإيمان والخرافة، الشماسي هو العابر الذي لا يستقرّ، سلّوم المندهش الدائم، طفل في هيئة رجل، لا يتوقف عن التساؤل حتى عن أبسط البدهيات، وسليم الأكثر صمتًا، لكنه في لحظات نادرة يطلق جملًا كالسيوف، تشقّ السرد وتترك أثرًا لا يُمحى. كما تصعد الرواية بقرائها إلى مدارات من السريالية الغرائبية، إذْ تختلط الرؤى بالهذيان، وتتداخل الزمانيات فيبدو الماضي مستقبلًا في مرآة مقلوبة، ويصبح المستقبل ماضيًا يُعاد تدويره.
أمّا المكان، فلا يُرسَم كخريطة، بل كحالة شعورية، يتبدّل ماؤه وهواؤه تبعًا لارتجاف النفس، مدينة تتقاطع فيها الأزقة مع المتاهات الداخلية، يتجاور فيها الحمّام الشعبي مع فضاءات كونية، وتختلط أسطح البيوت بأسطح الغيم. والزمان هو رمز لدورة التيه الكبرى: لا ماضٍ يُستعاد، ولا مستقبل يُنتظر، بل زمن دائري يبتلع ذاته، كما يبتلع الحلمُ الحالمَ فيه.
بهذه البنية، يغدو النص أشبه بمرآة مشروخة؛ كلما حاول القارئ أن يرى فيها صورة واضحة، وجد نفسه يواجه انعكاسًا آخر، حتى يدرك أن المعنى في المتسرنمون ليس في الوصول، بل في الدوران الأبدي داخل لغز الوجود. وكانت لغة الرواية مشبعة بكثافة بلاغية ذات إيقاع فلسفي صوفي، كأنها خرجت من مرجل ابن عربي، أو مناجاة الحلاج، أو من رؤى النفّري الغامضة في "المواقف والمخاطبات"، فتخاطب اللغة هنا باطن القارئ لا ظاهره، وتُشعل فيه مناطق التوتر، وتحرّك المياه العميقة في روحه، لتأخذه من الضجيج اليومي إلى صمت ميتافيزيقي مدوٍّ وفي ثنايا السرد، تتلاقى الثقافة الشعبية مع الفكر التأملي: التمائم، الطقوس، الحمّام، المجاذيب، الخرافات القديمة، كلها تندمج بأجنحة ذهبية، وأقمار صناعية، ومدارات مستقبلية باهرة، ليتحوّل النص إلى كونٍ رمزي يستقي من كل شيء، ويشكك في كل شيء.
من أجمل ما يميّز هذا العمل أنه لا يخشى الغموض، بل يتخذه مادة جمالية ووسيلة للتعبير. فالغموض هنا ليس ترفًا أسلوبيًا ولا التباسًا عارضًا، بل هو البنية ذاتها، كأن الكاتب يذكّرك بأن إدراك الحقيقة لا يتم عبر الإجابة، بل عبر الحيرة. وبهذا المعنى، تصبح القراءة فعل مشاركة في الحلم، حيث ينقل النص قارئه من موقع المشاهد إلى موقع الشاهد، ثم إلى موقع المشارك في صنع الرؤيا، والرواية لا تجيب، ولا تعد بالخلاص، بل تقول بجرأة نادرة: لا معنى ثابت، ولا فردوس ينتظرنا، ولا شرّ نُهزم به، ولا خير نربحه، فهي رواية مناهضة للوثوق، تقف على عتبة العدم، وتلوّح للقارئ: إن أردت الخلاص، انسَ فكرة الخلاص.
إنّ "المتسرنمون" ليست رواية تُقرأ فحسب بل تُقام كمشهد طقوسي على جسد اللغة، وهي انغماسٌ في نوم صاحٍ، ويقظة نائمة، حيث السائرون في الوجود لا يحملون عيونًا بل حدسًا، ولا ينطقون بل يُوحى إليهم، ولا يتكلمون باسم أنفسهم بل باسم التيه الجماعي.
وهكذا، لا يعود المتسرنمون من رحلتهم كما كانوا، ولا يمكثون كما يُتوقّع منهم أن يمكثوا، فقد عبروا حدود الزمان والمكان، فلم يعودوا أبناء تاريخ، ولا أسرى أرض، بل ظلال تسير بين المعنى والعدم، بين الشكّ والحنين، ناموا يقظين، وصحوا حالمين، فصار الحلمُ هو الواقع، وصار الواقع مرآةً تتكسّر كلّما اقتربوا منها بنظراتهم. لم يجدوا الجواب، ولم يحملوا وصيّة، بل تركوا خلفهم أثرًا هشًّا، كأثر جناح طائر على سطح الغيم، أو همسة تتردّد في أذن الغياب، وبين فضاءات السرد وأجوائه، ويظل العنوان" المتسرنمون" حاضرًا كخيط خفي يشد النص إلى فكرته الجوهرية:
أن الوجود نفسه قد يكون حالة تسرنم طويلة، وأن وعينا بما يجري ليس إلا حلمًا نعيشه بثقة الحالم الذي يظن أنه مستيقظ، في النهاية، لم تكن الرواية حكاية تُروى، بل سؤالًا يتردّد في الصمت: هل كنّا نحيا، أم كنّا فقط نتسرنم؟