الواقعية النقدية.. عند تشارلز ديكنز

أميمة سعودي


"أنا أكتب لأنني لا أستطيع التوقف عن ذلك" إنه تشارلز جون هوفام ديكنز، روائي وصحفي وكاتب وناقد إنجليزي كبير، يتم الاحتفال بذكرى ميلاده في 7 فبراير من كل عام، تمكن ديكنز بفضل قُدراتِه الاستثنائيَّةِ في شقَّ طريقه نحْوَ التفوق منذُ صِغَرِه، صاحب عبقرية روائية وأدبية، ترك وراءه مجموعة من أهم وأشهر الشخصيات في تاريخ الخيال الأدبي، ما جعل كارل ماركس يصِفُه بأنَّه الكاتبُ الإنجليزيُّ الأكثرُ قُدْرةً على كشفِ التفاوُتِ الطبقيِّ في مجْتمعِه.. تبين رِواياتُ ديكنز بحرفية واضحة التناقُضاتِ الاجتماعيةِ الحادَّةِ التي كانت موجودةً في المجتمعِ الفيكتوري، وبخاصَّةٍ صراعُ الفردِ مع النظامِ الاجتماعيِّ والأخلاقيِّ المُستَبدِّ.

تأثَّرَ ديكنز في طفولتِه برُوَّادِ الروايةِ الإنجليزية، وأنتج شكلاً جديدًا مِنَ السردِ الأدبيِّ عُرِفَ بالواقعيةِ النقدية، ومن أشهر رواياته التي تُرجمت لعدة لغات" الآمال العظيمة Great Expectations" ونشرت عام 1861م، ويعد ديكنز أحد أشهرِ الرِّوائيِّينَ على مرِّ العُصور.


نقد الأوضاع الاجتماعية

الإبداع يولد من رحم المعاناة.. تنطبق هذه المقولة على كاتبنا تشارلز ديكنز، فالمعاناة هي الدافع الذي يدفع المرء لاقتحام المجهول، وطرق مسارات لم يطرقها أحد من قبل، فلا شيء يجعل الإنسان عظيماً غير ألم عظيم، وُلد تشارلز ديكنز في مدينة بورتسموث الساحلية في جنوب إنجلترا عام 1812، عاش طفولة بائسة، وسط عائلة فقيرة، واضطر لترك المدرسة والعمل في مصنع لطلاء القوارب بجانب نهر التايمز، وحين أصبح ديكنز في الخامسة عشر، حُرم ثانية من التعليم، فقد كان عليه عام 1827 أن يخرج من المدرسة ويعمل كساعٍ في مكتب للمساعدة في دخل أسرته، وأصبح هذا العمل بداية انطلاقه نحو عمله ككاتب فيما بعد، وبعد عام من بدء عمله في المكتب، بدأ ديكنز عمله ككاتب تقارير في المحاكم القانونية في لندن، وبعدها عمل مراسلاً صحفياً لصحفيتين كبيرتين في لندن، وبدأ في عام 1833، تقديم مسرحيات هزلية إلى مختلف المجلات والصحف باسم مستعار "بوز"، ونُشرت أولى قصصه في كتابه الأول عام 1836، تحت عنوان "هزليات بقلم بوز" وهو مجموعة من القصص القصيرة، واستمر لفترة ينشر تحت هذا الاسم المستعار.

قصصه مرآة لحياته

كتب تشارلز عن التجارب المريرة التي مرَّ بها أثناء طفولته في العديد من قصصه ورواياته التي ألفها عن أبطال من الأطفال الفقراء، الذين عانوا كثيراً وتجرعوا العذاب ألواناً وعاشوا في ضياع تام بسبب الظروف الاجتماعية الصعبة التي كانت سائدة في بلده إنجلترا في عصره، تأثَّرَ ديكنز في طفولتِه بكتابات رواد وعمالقة الروايةِ الإنجليزية، مثل "هنري فيلدينج"، و"صموئيل ريتشاردسون"، و"دانيال ديفو"، فتعلَّمَ رسْم الشخصيات الروائيَّة، والقدرةَ على إحكامِ الحَبْكة، كما قرأَ العديدَ مِنَ الكلاسيكياتِ الأدبيةِ، ومنها ألف ليلة وليلة التي أبحر في عوالمها الثرية، وروايات العظيم شكسبير أشهر كاتب في تاريخ بريطانيا ومن أبرز الكتاب في الثقافة الغربية وفي الأدب العالمي، وقد أثرت هذه المَصادرُ الأدبيةُ والفكريةُ خيالَ الكاتبِ وقدرتَه على الإبداع، فأخرجَ نوعاً جديداً مِنَ السردِ الأدبي عرف بالواقعيةِ النقدية، حيثُ كانَ دقيقًا في وصفِ الواقع، بارعًا في تصويرِ الخيالِ الذي يتجاوزُه، وبين عجزه والتناقُضاتِ الكامنةَ فيه. وتميز أسلوبُ ديكنز بالنقدِ اللاذعِ للأوضاعِ الاجتماعيَّة، كما تميز بقدرة هائلةٍ على السَّرْدِ والتصويرِ المفصَّلِ للأحداثِ والشَّخْصيات، آمن ديكنز بأن كل الأحوال المزرية والسيئة قابلة للإصلاح مهما كان مدى تدهورها، لهذا سخر قلمه البليغ للدعوة إلى تخليص المجتمع البشري مما يحيط به من شرور وأوضاع اجتماعية غير عادلة، وأصبح الصوت المعبّر أكثر من غيره عن الوضع الاجتماعي في عصره.

نشر ديكنز عشرات الروايات الشهيرة والقصص القصيرة والمسرحيات، وفي بادئ الأمر، نشرت رواياته على أجزاء في المجلات الأسبوعية والشهرية، ثم نشرت في كتب بعد ذلك، وكتب أهم وأشهر كلاسيكيات الأدب الإنجليزي، ومنها "مذكرات بكوك" التي لاقت نجاحاً كبيراً، وجعلت ديكنز من أكثر الأدباء الإنجليز شعبية وشهرة، ثم توالت أعماله ومنها أوليفر تويست التي تشبه قصة حياته، حتى إنه كان يكتب العديد من الصفحات يومياً، تتناول القصة قضايا اجتماعية من خلال التركيز على حياة المجرمين، وفضْح معاملة دور الأيتام القاسية للأطفال في لندن والمعاناة التي كانوا يواجهونها خلال القرن التاسع عشر، كانت الرواية صادمة للقراء بسبب مستويات الفقر والجريمة والعنف التي صوّرتها.

كذلك كتب ديكنز "ديفيد كوبرفيلد" وصدرت عام 1870، وتعتبر من أشهر رواياته وتمثل ترجمة ذاتية له، حيث استمدت العديد من عناصر الرواية من أحداث حقيقية وقعت في حياة ديكنز، وذكر في مقدمته لطبعة الرواية عام 1867: "كباقي الآباء والأمهات، لي في أعماق قلبي ابن مفضل اسمه ديفيد كوبرفيلد" فتعد من الروايات المفضلة عنده، حيث أكد فيها على أهمية العمل من القلب بإخلاص، قائلاً: "كان يعرف ما يكفي عن العالم، ليعرف أنه لا يوجد فيه أفضل من الخدمة من القلب بإخلاص".

كان ديكنز شغوفاً بعمله، فمارس الكتابة وأنتج الكثير من الأعمال المتميزة، ومنها: قصة مدينتين، وتعدُّ من أشهر الروايات التاريخية التي تؤرخ لفترة مهمة خلال بداية اندلاع الثورة الفرنسية والهجوم على سجن الباستيل، وتدور أحداثها بين مدينتي لندن وباريس، وتعد من أشهر روايات تشارلز ديكنز على الإطلاق، ويعقد الكاتب في بدايتها مقارنة بين باريس ولندن والتناقض في طبيعة الحياة بينهما، وتُرجمت الرواية إلى معظم لغات العالم.

كذلك كتب "آمال عظيمة Great Expectation"، رحلة فتى الأبرشية، حياة ومغامرات نيكولاس نيكلبي، متجر الفضول القديم، برنابي رودج، مارتن تشيزوليت، دومبي وابنه، المنزل الكئيب، أوقات عصيبة، صديقنا المشترك.

ومن أشهر أقواله: "تأمل في بركاتك الحالية، التي يمتلك كل واحد الكثير منها، وليس في مصائب الماضي، التي يعاني منها الجميع"، ويرى ديكنز أن "العالم ملك لأولئك الذين شرعوا في التغلب عليه، مسلحين بالثقة بالنفس وروح الدعابة".

ومن أقواله "حاول أن تفعل مع الآخرين كما تحب أن يفعلوا بك، ولا تثبط عزيمتهم إذا فشلوا في بعض الأحيان"، وفي روايته Great Expectations، التي لا تزال من أكثر الأعمال الروائية رواجًا يعلمنا، أن "السماء تعلم أننا لا يجب أن نخجل أبدًا من دموعنا، لأنها تمطر على تراب الأرض، والذي يغمر قلوبنا القاسية".

تقدير ديستوفيسكي وجول فيرن

واجه ديكنز بعض الانتقادات من زملائه الكُتاب، ولكنه أيضاً حظي بشعبية عند الكثير من عمالقة الأدب، مثل الروائي والفيلسوف الروسي فيودور ديستوفيسكي، الذي قال: "أنا مقتنع أننا نفهم ديكنز في روسيا، تماماً مثل اللغة الإنجليزية، وحتى مع كل الفروق الدقيقة، وربما لا يقل حبنا له عن حب أبناء بلده، ومع ذلك، كم هو مبدع ديكنز، وكم هو إنجليزي"، وانعكس تأثر ديستوفيسكي بالكاتب الإنجليزي على أعماله بشكل كبير.

كما وصفه الكاتب الفرنسي جول فيرن بالكاتب المفضل لديه، وقال إن رواياته قائمة بذاتها، وتقزم الآخرين بقوتها المذهلة وبلاغة التعبير، كما استلهم الرسام الهولندي الشهير فينسنت فان جوخ العديد من اللوحات من رواياته، مثل لوحة "كرسي فينسنت"، وفي رسالة أرسلها إلى أخته عام 1889 ذكر أن قراءة ديكنز، وخاصة رواية "ترنيمة عيد الميلاد"، من الأشياء التي كانت تمنعه من الانتحار، وتكريماً له يوجد في حديقة كلارك في ضاحية "سبروس هيل" غرب فيلادلفيا، التمثال الوحيد، والأكبر في العالم، للروائي البريطاني تشارلز ديكنز.

ابتدع ديكنز أيضاً جلسات القراءة التي كان الجمهور يحضرها بتذاكر، يقرأ فيها مقتطفات سواء من قصص منشورة أو أخرى يعمل عليها، أو يلقي فيها محاضرات عن قناعاته بكيفية إقامة مجتمع العدل والمساواة.
 

وفاة ديكنز

حظيت أعماله بشعبية كبيرة خلال حياته وبعد وفاته، وما زالت تُقرأ على نطاق واسع، فقد سخّر قلمه للدعوة إلى تخليص المجتمعات البشرية من الشر والظروف الاجتماعية الظالمة، كان ديكنز محللاً ومعلقاً اجتماعياً على تركيبة بريطانيا الطبقية وفقرائها، كان رجلاً موهوباً وظّف طاقاته التعبيرية وغضبه من الأوضاع البائسة التي عانتها قطاعات واسعة من مواطنيه لتقديم نقد اجتماعي عبر سلسلة من أعمال أدبية خالدة، توفي في 9 يونيو 1870، وكتب على قبره "كان متعاطفاً مع الفقراء والمكروبين والمقهورين، وبوفاته فقد العالم أحد أعظم كتّاب إنجلترا".

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها