سِرُّ الملح

حياة عثمان


أفرغَ ضابطُ الأمن الخاص المكانَ من جميع العملاء، هرع الفرّاش بأخذ الأشياء التالفة وقذف بها بعيداً في سلة المهملات في محاولة لإعادة الهدوء للمكان، كما أخفتت الإضاءة لمضاعفة الهدوء، وبدأ الجميع في حالة سكون عدا حركة الماكينات، وهي تعد النقود في صوت غير منتظم. بعثت بالنقود والفواتير إلى الطابق الأرضي لينتهي عملي وأغلق حسابي، ثم اعتدت نفسي كي أسترخي قليلا.. وأغمضت عينيّ حتى أبعد عن صخب اللوحات الإعلانية المنصوبة على الجدران بألوانها المختلفة والجاذبة، كما تخلصت من كل المشاهد المرئية من ذاكرتي البصرية قريبة المدى إلا أن سمعي ظل مستيقظاً يرصد الأصوات...

خُطى تصعد للدرج للوصول للطابق العلوي قرب مقعدي، تقاربت الخطى إليّ وهي تتسلل الهدوء الذي يعم المكان، فتحتُ عينيّ وكلي خوف، وإذْ برجل رَبْع القامة على رأسه قبعة صوف، يحمل في يده سلة بسيطة ثقيلة المحتوى على ما يبدو، فقام بوضعها على الكاونتر، ثم انتصب في محاولة لتقديم نفسه بعد أن تجول ببصره يمنة ويسرة، ثم هبط إلى الأسفل فجأة حتى لم أعد أرى شيئاً من جسده، ارتعدت فرائصي إلا أنني حاولت أن أمد نظري، فرأيت طَنجرةً داخل السّلة، وحفنةً من ملحٍ وأخرى من مسحوق ناعم يميل للّون البني بينهما سكين لامع يتمدد في قطة قطنية بيضاء.

هربت من المشهد.. وأغمضتُ عينيّ مرة أُخرى تصاعدت أنفاسي، وتسارعت نبضات قلبي كطفل رضيع يتسارع جسده للنمو.. تمدّدت السكين التي رأيتها أمام عينيّ المغمضتين في خيال متسارع يصف ما توقعت، نعم.. إنه يريد قتلي ذبحاً، ثم يضمد الجرح بالملح في محاولة لإعادتي للحياة، صمتٌ مخيف عم المكان فكأنما زملائي جميعاً قد اختفوا فلم يعد في المكان سواي أنا والسلة. لقد اصطكّت أذاني فلم أعد أسمع شيئاً عدَا أزيز الزجاج الذي يحركه مبرد الهواء بهدوء، وبعض أنفاس اقتربت مني. لقد مرّر السكين أمام عينيّ وهي تلمع كسيف فضي في ظلام حالك، ثم استدار خلفي ليمسك برأسي استعداداً... لحظات وسينتهي كل شيء، ودّعتُ نفسي بدموع حارّة تُشبه حرارة طنجرته التي بالسلة، ثم صبرت نفسي ربما بها ضمادات للجرح، نعم فالملح سيعيدني للحياة، هكذا كانت تقول جدتي أن للملح سراً لا يعلمه إلا البحر، ليته رمَى بجثتي في البحر لتتشرب ملحه، وأتمدد باتساعه فلا يعرف الموت إلي طريقاً، أو ليته رمَى بها في الصحراء لأتمسّح بملحها نهاراً وأتغنّى بجمالها الآسر ليلاً، وتسافر روحي مع كل قافلة شوق، أو يرمي بي في الجبال فأُعانق ارتفاعها فأعود بقوتها للحياة، ما بيني وبين الرجل والسكين كانت هي الأمنيات إلا أنه اقتطعها بصوت هادئ.. تفضلي أحسست بتراجع الخوف قليلا حاولتُ أن أفتح عينيّ، أطل برأسه ثم مد يده عبر فتحة زجاج الكاونتر بجسم كروي أبيض صغير فطلب مني أخذه، لمْلمتُ أنفاسي حتّى هدأت ثم مسكته بيدي الباردتين، وكأنما قد شردت الدماء منهما إلا أن حرارة الجسم الكروي منحت يديّ حرارة، يا له من تناقض جميل أعاد إليهما الحياة.. شهقت لأسترد أنفاسي.

فبدأ بمحاولة للحوار ثانياً وهو يتمتم: إنني أتجول في هذا المكان ليلا ومعي سلتي هذه لأدفئ الناس من البرد بهذه الوجبة البسيطة الدافئة، فهذه أشيائي جميعاً. فاستل سكينه، إلا أنني تصبرت وطردت وساوس الخوف فقال: إنني بهذا السكين أقطعها إلى جزئين اثنين بعد تقشيرها ثم أرش عليها قليلا من الملح والكمون المطحون. تحولت كل انفعلاتي السالبة إلى اندهاش.. ثم قذفت نحوه بجسم معدني صغير مستدير ضحك وقال: شكراً شكراً.

نعم واحد ريال... هذا فقط ثمنها.

ثم واصل حديثه: غداً سأعود.. وفي نفس الموعد.

وكنت أنتظر اليوم التالي بفارق الصّبر، ليس للمغامرة أو الخوف؛ بل لأن الطعم الذي تذوقته أعاد لي دفء الحياة.. شيء من حفنة ملح وكمّون!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها