لوحةُ جابر

عبدالعليم حريص

استشاط محقق الشرطة غضباً، بعد أن كثرت جرائم قتلٍ في القرية، فقد بلغ عدد القتلى: ثلاثة شباب، ورجل، وامرأتان. وكلّ الجرائم تمت بشكل منظم، وحرفية عالية. أدركت الشرطة أنهم أمام قاتل متسلسل. ولمّا شرّح الطب الشرعي الجثث، اكتشفوا أن جميعهم قد قطعت ألسنتهم، والمفارقة التي حيرت الشرطة، أن الجاني لم يترك أيّ شيء يدل على هويته، فيبدو أنه ماهر جدّاً وحاذق الذكاء أيضاً، وله علاقة ما بالجراحة، فكل الضحايا، تمّ تخديرهم أولاً، ومن ثمّ قطع ألسنتهم، وبعد ذلك تهشيم رؤوسهم.

ومضت الأيام، والتحقيقات ولم تسفر عن أي شيء، يسهم في حلّ ألغاز تلك الجرائم، حتى قُيدت جميعها، ضد مجهول، وعادت القرية كما كانت آمنة مطمئنة.

فوق أعلى التل المجاور للقرية، كان جابر يجلس وحيداً، مستغرقاً في شروده، يرسم لوحة، يبدو فيها طفل يبكي، وباقي شخصيات اللوحة يضحكون: ثلاثة في مقتبل العمر، ورجل مسن، وامرأتان في منتصف العمر.

لم تكن هي المرة الأولى، التي يرسم فيها جابر هذه اللوحة، فقد رسمها مراراً، وكلما انتهى من رسمها، أضرم فيها النيران، وما يلبث إلا شهوراً، ويعود فيرسمها بالتفاصيل نفسها، كنظرة العيون، التي تشي بما يدور في الأعماق، فقد كان بارعاً، في نقل التعابير الخفية، لكل شخصية منهم، فهو يحفظ تلك التعابير في ذاكرته، طوال سنوات عمره، وكلّ من في اللوحة فاغراً فاه، ولسانه يتدلى منه، عدا الطفل الذي كان مطبقَ الشفتين، دامع العينين، كاسف البال.

نظر في اللوحة، قبل إحراقها، وتداعت أمامه الذكريات، بكل أتراحها، وكيف أنه ولد قبل عشرين عاماً، بعاهة في لسانه، فقد كان قصيراً، ما جعله غير قادر على نطق أقل الكلمات بشكل صحيح، وفي المدرسة كان ثلاثة من زملائه يتنمرون عليه، ويلاحقونه حتى خارج الفصل، وحين يذهب للناظر شاكياً، كان يسخر منه أيضاً، قائلاً له: ما اسمك؟ فيرد (دابي) فتعلو الضحكات في مكتبه، لعدم مقدرته على نطق حتى اسمه، ويظل يبكي باقي اليوم، وحين يرجع لبيته، فيجد أمه الخرساء، يرتمي في أحضانها، ويشكو لها ما يحدث معه، فكانت تربت على كتفه، وتبكي هي أيضاً، ظناً منها أنها السبب، في هذه العاهة، التي ولد بها، وقد أخطأت للمرة الثانية، حين أسمته (جابراً) لأنه سينطق الجيم دالاً، والراء ياءً، ما زاد الطينة بلة. لكنها اختارت له هذا الاسم، لعل الله يجبر خاطرها به، بعد أن توفي والده قبل ولادته.

 فأبصر جابر الدنيا يتيماً، وليس معه إلا أمه، التي تعمل في دبغ الجلود لأهالي القرية، وتلك كانت مهنة والده، ولم تجد المرأة مصدراً للرزق، تنفق به على صغيرها، غير هذه الحرفة المقززة؛ لتحصل على ما يسد احتياجاتها وابنها.

وعلى مقربة من بيت جابر، كانت بقالة صغيرة، تديرها سيدة، أقل ما توصف به أنها متنمرة على الجميع، تعيب على كل الناس، لذلك كان لجابر ووالدته نصيب كبير من تنمرها.

أما جارتهم المتسلطة، فقد كانت تصطنع المشكلات معهما، بحجة أن رائحة الجلود العفنة، وتجلب الذباب والكلاب لبيتها، وكانت الأم تتقي الرد عليها، وكثيراً ما كانت تعيب على جابر تلعثمه في الكلام، وتقلده بطريقة فجة، وتسخر منه.

بين كل هذه الشخصيات المتنمرة، كبر جابر، وعرف نفسه، وأدرك أنه غير مرغوب فيه من قبل المجتمع، وترك المدرسة قبل أن يحصل حتى على الشهادة الابتدائية.

وفي المستشفى الحكومي بالقرية، كان هناك طبيب، يتصف بدماثة الخلق، طلب من أهالي القرية أن يرشحوا له صبياً، يقضي له حاجاته، ويقف معه في العيادة، لعدم وجود عمال تمريض في المشفى، فوقع اختيار الطبيب على جابر بين كل من عُرض عليه.

تعلم جابر الكثير كتغيير الجروح، وإعطاء الحقن، وقياس ضغط الدم، وكان الدكتور يثق فيه، وترك معه مفتاح الصيدلية، فكان تحت يده كافة الأدوية والمسكنات، والمشارط الطبية، وكان الطبيب كريماً معه، حتى في تعليمه.

إلى جانب ذلك علمه الطبيب الرسم والتعامل مع الألوان، وتلك كانت هواية جابر اليتيمة، التي كان بارعاً فيها، أثناء وجوده في المدرسة.

إلا أن جابراً لم يكن لينسى ما حدث معه، من تنمر على تلعثمه في الكلام المبالغ فيه، وحين تقدم لخطبة فتاة ابنة جارتهم، التي كان معجباً بها منذ صغره، رفضته أمها المتسلطة، قائلةً: أنا أعطي ابنتي لجابر نصف لسان. وعلمت القرية كلها بما حدث من ردّ الجارة، فحزن جابر حزناً كبيراً، وعاهد نفسه ألا يفكر في الزواج، على الأقل هذه الفترة من حياته، حتى ينسى الناس القصة برمتها.

ولما كان جابر يفرغ من عمله في المشفى، يتفرغ لمراقبة الأولاد الثلاثة، الذين كانوا يتنمرون عليه، فقد كبروا الآن، ونسوا ما حدث منهم معه، إلا أنه لم يكن لينسى، وظل يفكر في الانتقام منهم، ومن الناظر المتغطرس، الذي أحيل إلى التقاعد مؤخراً، ولم يغفر جابر لصاحبة البقالة تنمرها عليه، كلما ذهب يشتري منها شيئاً، وكيف أنها كانت تصرّ على أن تجعله يعيد الكلام وتقهقه بصوت عالٍ، أمام الجميع على كلامه. كذلك جارتهم المتسلطة، التي عيرته ووالدته مراراً وقامت بالاعتداء عليهما بالضرب أكثر من مرة، ورفضت خطبته لبنتها، بطريقة جعلت الكره، يتحول في قلب جابر إلى بركان من الانتقام.

ظل جابر يراقبهم، ويخطط في كيفية الخلاص منهم، وبدأ بالناظر، فهو رجل مسن وحركته بطيئة، ويسهل السيطرة عليه، خاصة أنه يقيم بمفرده في البيت بعد سفر أولاده، ووفاة زوجته، وليس لديه سوى خادمة تقضي له احتياجاته، وتترك بيته عقب المغرب، فتوجه إليه جابر عقب صلاة العشاء، وقد خلت الطريق من المارة، فدخل عنده، وأوهمه بأنه جاء، ليعطيه حقنة تطعيم، ضد انفلونزا موسمية.

لم تكن الحقنة سوى مخدر قوي، سرقه جابر من صيدلية المستشفى، وبعد أن غطّ الناظر في نوم عميق، أخرج مشرطاً طبياً، يحتفظ به في حقيبته، التي تحتوي على القطن والشاش والحقن، والمعقمات، وقام بقطع لسانه.

ثم أخرج جاكوشاً من حقيبته وقام بتهشيم رأسه، حتى فارق الحياة، واحتفظ بلسانه، ومضى لأعلى التل، المطل على القرية، وأخرج ورقة بيضاء ورسم فيها لوحته الخالدة.. ذاك الطفل الذي يبكي، وحوله ثلاثة صبية، ورجل، وامرأتان، يضحكون عليه، ويخرجون له ألسنتهم، قبل أن يحرق اللوحة مجدداً، ويدفنها مع لسان الضحية في الرمال، ويعود للبيت؛ لينام هانئاً، ويستيقظ صباحاً، فيذهب للمستشفى، يمارس عمله بكل نشاط، منتظراً فرصة أخرى، ليعيد رسم اللوحة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها