الذات واستعادة الهوية

في رواية "الأستاذ بشير الكحلي" لمينا عادل

د. أشرف عطية هاشم



تتسم رواية (الأستاذ بشير الكحلي)1 بمفارقة لافتة؛ فهي تتشكل من عالم محدود من الشخصيات التي يدور حولها العالم التخييلي، بينما يتميز هذا العالم التخييلي نفسه بالثراء بسبب تعقيد بنيته. وسنحلل الرواية من خلال عنصرين: العالم الروائي لبشير الكحلي، وتحولات بنية السرد.

 

أولاً: العالم الروائي لبشير الكحلي

الشخصية المحورية في الرواية هي شخصية بشير الكحلي مدرس التربية الرياضية، الذي أخفق في الالتحاق بالكلية الحربية، وهو شخصية تتسم بانفصالها الشديد عن واقعها، وشعور صاحبها بالتفوق على من سواه، واعتقاده التام في قدرته المطلقة على حل مشاكل الواقع جميعًا. وهذا الشعور يعضده اعتقاد بتدني وعي الناس، وعدم إدراكهم لأولوياتهم في الحياة. وسنجده على مدار الرواية يصطنع معارك وهمية يظن بها أنَّه موكَّل لإنقاذ الناس من الجهل والغفلة عن مصالح مجتمعهم.

إنَّ تسمية الرواية بالأستاذ بشير الكحلي يُعدُّ عتبة تأويلية لا ينبغي السهو عن دلالتها؛ فالعنوان يحمل اسم هذه الشخصية التي يدور حولها الحكي برمته، وحتى حين يؤتى بشخصيات أخرى، فهي تخدم هذا التمركز الذي يمثله بشير الكحكي، فهو لا يرى أحدًا جديرًا بالاهتمام والتفكير وصناعة الواقع غيره، وغلاف الرواية نفسه عتبة تأويلية أخرى؛ فخلفية الغلاف عبارة عن حروف وكلمات متداخلة مكتوبة بطريقة مشوشة يصعب قراءتها، وتبدو مكتوبة بخط اليد وليست بحروف الطباعة المعتادة، وكأنَّها بهذه الكيفية تعكس تشوش هذه الشخصية المركزية واضطرابها.

إنَّ بشير الكحلي مغرم بذاته ولا يدع فرصة دون أن يعلن عن نفسه مهما كانت العواقب؛ فهو يرسل إلى وزير التعليم رسالة يوصي فيها بإعادة تشكيل الهيكل الإداري للوزارة، وينهي رسالته للوزير بقوله: "وما خطابي إلا هدية الصديق للصديق" [الرواية، ص: 6].

وعندما لا يستجاب لمثل تلك الخطابات يعلِّل ذلك بأنَّه يعرف أنَّ المسؤولين "وصلتهم الخطابات، وقرؤوها وتفهموها وشعروا ببعض الخجل لما فيها من غيرة وطنية... والمسألة ماهي إلا مسألة وقت فحسب، فهي أفكار لا ترفض.. من ينظر تحت قدميه فلن يرى نجوم الوطن"[ص: 12]، ويعلِّق الراوي بقوله "وكان يقصد نفسه بنجوم الوطن"2.

لقد اتخذ بشير من الإصلاح غطاء مراوغًا لإرضاء رغباته في البطولة والزعامة الوهمية، يقول السارد عنه، وهو يَعدُّ نفسه لما أسماه بالتغيير: "إنَّها مهمتك يا أيها العظيم الذي أنجبته أمةٌ تعرف كيف تبعث الحياة من جديد" [الرواية، ص: 13].

وعندما أدرك أنَّ مسعاه للإصلاح لا يكون إلا بالتفاف الناس حوله، ينزل مضطرًا للالتقاء بهم ومحاورتهم، ولكنه يفشل في خطته، لأنَّه كان يضيق بالنقد والاختلاف مع الآخرين.

ولم تختلف النتيجة حين حاول أن يطرق أبواب البرامج التليفزيونية، فقد افتقر إلى الحس الاجتماعي السليم؛ إذ رفض عمل المرأة وكان يعرض آراءه بعصبية وإطالة وبطريقة غير مفهومة في أغلب الأحوال، مما جعل مسؤولي هذه البرامج يضيقون به، ويمتنعون عن استضافته مجددًا.

لقد كان بشير مفتقرًا إلى الحس الاجتماعي والسياسي معًا ما أفقده معاركه بسهولة، كما أنَّه لم يمتلك حس النقد الذاتي، ودائمًا ما يلقي تبعات هزائمه على الغير، لذا نراه يقول بعقب ما حدث "ما أشق أن تكون رجلًا لامعًا.. لا بُدّ أنَّني أغضبت الجماعة فوق" [ص: 17].

وفضلا عن ذلك كله؛ فإنَّ بشير الكحلي كان يمارس سلوكًا عبثيًّا إلى أقصى حد، وذلك حين يحشد طاقاته جميعًا للدفاع عن قضايا ليست من أولويات الناس، كنضاله الهزلي مثلا في قضية كتغيير أسماء الناس الأجنبية، والذهاب بهذه القضية إلى مجلس النواب، مما عرضه للسخرية والاستجواب والضرب المبرح، لقد كانت هذه الشخصية غريبة الأطوار المصابة بجنون العظمة وبالا على نفسها بحق.

ولم يكتفِ بشير الكحلي بذلك، بل سيعرض لنا الراوي مستوى آخر من حياته، تتجلى فيه أمراضه النفسية المزمنة، وذلك حين يؤدي واجب العزاء في وفاة حافظ ابن خالته، وهناك يلتقي أرملته الشابة (أميرة)، فيعجب بها، ويحاول استمالتها بالمال.

وسيقوم بشير طوال الوقت بمحاصرة أميرة عبر عرض خدماته، يقول السارد: "كان يرغب عبر أفعاله في أن يستدرجها لتكون هي البادئة، ليبرئ نفسه أمام نفسه، كان يريد برهانًا زائفًا لضميره على أن رغبته فيها ليست استغلالا لظروف أرملة وحيدة" [ص: 22].

صحيح أنَّه كان يمارس هذه الحيلة النفسية التي يقوم فيها بتوبيخ نفسه وتأنيبها، ولكنه يعود ليجد لنفسه تبريرًا على سلوكه، فيقول في مونولوج دالٍّ "ما حيلتي؟ هي التي لونت أظافر قدميها بالأحمر المغري لتوقعني، أظافرها المدهونة بلون طازج جديد هي التفاحة المغرية التي تعرف حواء كيف تقنعك بالتورط بها وفيها" [ص: 28].

وهكذا يستمر بشير في حصاره وابتزازه العاطفي لأميرة حتى تضطر هي شخصيًّا للاعتراف بحبها له، يقول السارد: "صمت بشير الكحلي، وكأنَّه صعق، تفاجأ، وحاول رفض ذلك الحب لأخلاقه ولصلة القرابة، وإكرامًا للمرحوم ابن خاله، وأخبرها بلا إلحاح بـأنَّه قد لا يكون حبًّا حقيقيًّا، ولكنه تّعلُّق نتيجة لوجوده الدائم الذي ملأ حياتها بعد فقدانها لزوجها" [ص: 35].

وواقع الحال أنَّ بشير لم يكن يحب أميرة، أو يحمل لها أي قدر من الاحترام، ومبلغ إحساسه بها لا يزيد عن كونها امرأة وضيعة مثيرة للذة.

وسيضع السارد بشير أمام نفسه مرة أخرى بعد خيانته لذكرى ابن خالته وتجاوزه مع امرأته، وذلك حين "ارتدى ملابسه التربوية الصارمة، نظر في المرآة الكبيرة التي عند باب الشقة، وقال: الرغبة كانت أقوى من الإرادة" [ص: 38].

إنَّ بشير يحرص على صورة وهمية هشة لنفسه أمام نفسه، يكون بمقتضاها مبرءًا من العيب والزلل، وهي حيلة نفسية معروفة. وتصويره نفسه أمام المرآة هو كشف كامل لعورته النفسية، ولا شك أنَّ وصف المرآة بالكبيرة يعني إظهار تناقضاته أمام نفسه بالتفصيل، وقول السارد في مستهل المقطع السابق (ارتدى ملابسه التربوية الصارمة) يكشف عن حجم المفارقة بين هذه العلامة الأخلاقية وارتكابه لهذه الخيانة.

وفي السياق نفسه؛ فإنَّ بشير كان يقوم بتمزيق أغلفة الكتب التي بحوزته رغبة منه في محو هوية الأفكار التي تضمها وقطع صلتها بأصحابها، والإيهام بأن تلك الأفكار خاصة به وحده.

لم يكن بشير يؤمن بأي أحد سواه، وكان يريد أن يؤلف كتابًا يسميه (الرؤى الكحلية)، ولكنه عدل إلى تسميته (رسالة في إصلاح رجل الشارع)، وكلا التسميتين تكشفان عن عوار نفسي فادح؛ ففي التسمية الأولى ذاتية طافحة لا تؤيدها الإمكانات الفكرية الهزيلة لبشير، وفي التسمية الثانية مفارقة غريبة، فكيف تكون هناك رسالة في إصلاح رجل الشارع، بينما صاحب الرسالة نفسه يمارس الاحتيال والتعالي على هؤلاء البسطاء الذين يرجو لهم الإصلاح. على أنَّ هؤلاء البسطاء أنفسهم لم يكونوا بالسذاجة التي ظنها بشير؛ فقد كانوا يسخرون من أفكاره ويضربون عنها صفحًا.

ثانيًا: تحولات بنية السرد

كان ظهور يوسف الورداني في حياة بشير الكحلي يمثل تطورًا مهمًّا في حركية بشير في عالمه الاجتماعي والنفسي، ويوسف هذا هو ابن أميرة عشيقة بشير التي ظلت بصحبته طوال سبعة عشر عامًا دون زواج، نما فيها يوسف متجاوزاً سن الطفولة إلى اليفاعة. والسمة الغالبة على يوسف أنَّه كان انطوائيًّا، عاكفًا على ذاته بسبب بثور كانت تملأ وجهه؛ لذا كان يتعرض لسخرية أقرانه فآثر الوحدة والابتعاد، وهما أمران كانت أمه تحبذهما وتشجعه عليهما، نظراً لموت الأب وغياب الحماية الاجتماعية.

وقد كانت ليوسف هذا هواية غريبة حرص عليها بشدة، وهي حبس الحشرات في وعاء زجاجي حتى تختنق وتموت، ولا شك أنَّ هذا السلوك مرده شخصية يوسف الضعيفة المفتقرة إلى المبادرة؛ لذا كان في هذا تعويضٌ عن القدرة على المواجهة والانتصار للذات في الواقع؛ فكأن قتل الحشرات معادل نفسي عند يوسف لقتل البشر الذين لا يستطيع مواجهتهم فعليًّا.

كان لقاء بشير بيوسف لقاءً زلزل معارف يوسف ورؤاه للعالم، فقد طرح عليه عشر وصايا لا غنى عنها ليكون تلميذه، ورمزية الرقم عشرة للوصايا لا تخلو من دلالة يرى بها بشير نفسه من الأنبياء.

ومن هذه الوصايا التي يذكرها السارد "سيتخلصون منك فلاتركن سيفك في جرابه... إن جاءت لك فكرة ووجدتها في رأس شخص آخر غيري فأنكرها سريعًا" [ص،: 89]. وقوله كذلك: "اترك القوانين والدساتير في جيبك، فلا أحد يلتزم بها هنا... خذ كرسيك بالقوة" [ص: 90].

ثم يقول: "كتبي تجعلك شخصًا تؤمن بالمطلق لا النسبي.. وحذار من النظر للأمور من منطلق النسبية، وأن تتفهم مواقف الآخرين ودوافعهم. لا بُدّ من أن تقيم عدلك بيدك" [ص: 91].

هكذا تتبلور وصايا بشير لتلميذه المطيع؛ فلا سبيل للنسبي أو الحوار مع الآخر المختلف، ولا سبيل كذلك للرجوع إلى القوانين والدساتير إذا شبَّ خلاف بين الفرقاء من البشر، والمرجع النهائي الذي يضمن له السلامة هو كتب بشير الكحلي نفسه.

كان يوسف يسمع ويقرأ كلماتٍ وأفكارًا لا يعرف معناها، لكنه كان كالمسحور ويؤمن بكلام بشير بضغط أمه الغارقة في علاقة عاطفية معقدة مع معلمه، وكذلك بسبب ضعف الخبرات الفكرية لديه، التي لا يمكنه بها أن يدخل في جدل منتج مع ما يقدمه له بشير من أفكار.

ويعرض المبنى الحكائي3 لحظة فارقة في حياة يوسف، وذلك حين نظر زميله وائل بنهم لجسد أم يوسف، وأطلق لفظًا خارجًا يعبِّر به عن إعجابه، وكان هذا بمثابة محك الاختبار ليوسف ولرد فعله، لكن يوسف الذي تربى على الجبن وتحاشي المواجهة ابتلع الإهانة أمام صديقه ولم يعلِّق، يقول السارد: "لم يجرؤ حتى على أن يرفع عينيه في عين السافل... ولم يجرؤ حتى على مقاطعة وائل" [ص: 97].

وعندما يخبر يوسف أستاذه بهذا الموقف، يقول له في جملة حاسمة (أنِر الطريق) قاصدًا بها التمهيد لانتقام يوسف من زميله، ثم عقبَّ قائلًا بعجرفة واضحة: "لن يقول كتبة التاريخ لماذا سكت الناس عن الأزمنة السوداء، لكنهم سيقولون لماذا سكت الأستاذ بشير الكحلي وتلامذته" [ص: 111].

وهكذا تسنح الفرصة لاحقًا ليوسف لكي يدفع بوائل من سيارة نقل كانا يستقلانها معًا، فيسقطه على الطريق الإسفلتي ليتهشم رأسه ويموت في الحال.

وبعدها مباشرة يصوغ السارد هذا المقطع الدال، يقول: "دخل البيت فلم يجد أمه، تأمل مجموعته، برطمانات الحشرات المسجونة الميتة، مسها كلَّها بيديه، وأمسك برطمانًا زجاجيًّا فارغًا، فتحه، وقرَّب فمه من فوهة البرطمان، وهمس "وائل الحشرة" [122].

وقد رأى بشير أنَّ ما فعله يوسف يُعدَّ تتويجًا لدروسه وتوجيهاته، وسيقدم السارد في هذه اللحظة استرجاعًا لبشير يكشف فيه عن فشله في تاريخه العبثي في النضال، مقارنة بالفعل الناجز ليوسف، يقول السارد: "انسابت عليه الذكريات مزدحمة ومرتاعة بالأسى، تذكر خطاباته القديمة لذوي الأمر الكسالى، ومشروع قانون تغيير أسماء القرن الواحد والعشرين... وما حصد من كل هذا إلا التجاهل، ومن بعده التجاهل، الإهانة والتحقيق والطعن في وطنيته واقتحام بيته... وقال: يا لهؤلاء البشر من أوغاد لا ينصاعون إلا للقوة" [126].

ويواصل السارد قصَّ هذه اللحظة النادرة من لحظات الصحو والاعتراف "كل ما كان يدور في خلده هو أن يوسف الورداني ابن الحشرات... أقام ثورته وفرض رؤيته على الأرض، وتوج نفسه ملكًا وهو لا يدري ولا يعي قيمة إنجازه، وأنَّ ابن الحسب والعلم والجاه والتاريخ والمال يتجاوز الستين، وهو يخاطب ويراسل ويترجى ويلمح، ينظِّر ولا يطبق، غاطس بين الكتب، ينزع أغلفتها ليسلح نفسه بوهم ما" [ص: 227].

إنَّ وضعية السارد في الرواية، وهي الحكي بضمير الغيبة، وبمقتضاها يكون السارد عليمًا بكل شيء حتى ما يدور بخلد الأبطال، وما لا يعرفونه هم أنفسهم عن أنفسهم، اختيار مناسب للغاية للرواية؛ لأنَّ الرواية تقتحم عوالم غامضة مشوشة في ذهن أبطالها ولاسيما بشير، وقيام الراوي بتأويل سلوكه أمرٌ تفرضه طبيعة العالم الضيق المحدود بشخوص قليلة لا تتحاور مع بشير ولا يتفاعل معها على نحو منتج4.

على أنَّنا لا ننتظر من بشير أن يصحو تمامًا من جنون العظمة الذي كان يغشاه، أو يفيق من انفصاله التام عن واقعه، لقد كان ما فعله يوسف أشبه بالصدمة التي اقتلعت بشير من أوهامه، وإن بقي يبرر ما حدث ويردُّه لنفسه، "وعزَّى نفسه بأنَّه الواقع ويوسف انعكاسه" [ص: 128]، وقول السارد على لسانه في سياق آخر" الولد موهوب نعم، ولكن ما فائدة الموهبة دون مرشد ومعلم ومنظِّر" [ص: 229]؟

ولحظة انتقام يوسف تلك ستكون نقطة التحول السردية في بنية النص كله؛ ففيها سنكتشف عبر استرجاع السارد على لسان بشير أنَّه كان ابن زنا من امرأة فقيرة أرغمه أهله على مداراة الفضيحة بالزواج منها، وسنكتشف كذلك أنَّ أباه نفسه من أفسد التحاقه بالكلية الحربية، لكراهية عجيبة لأمه وأهلها، بسبب فقرهم واتضاع طبقتهم الاجتماعية، ومع هذا فقد ظل بشير محتفظًا بصورة أبيه معلقة على الحائط، يقول السارد في وصف شعور بشير الغريب تجاه أبيه: "إنَّه مفتون بأبيه ويكرهه" [ص: 132]. وهذه الفتنة تجلت في معاملته السيئة لأميرة، التي تعد انعكاسًا لعلاقة أبي بشير بأمه. أما الكراهية فلعل سببها أنَّه وقف حائلا دون التحاقه بكليته التي كانت أمله في الحياة.

هذه البنية السردية التي يسترجع فيها بشير تاريخ أبيه معه، ستتساوق بدقة مع حضور صورة الأب عند يوسف في سياق استرجاعي مماثل، ينهض به السارد يقول: "توقَّف عند أب يمسك يد ابنه فتذكر أباه الذي لا يعرف شكله، أين صورته؟ هل يشبه أباه أم يشبه أمه، لا يمكنه التخمين إلا حين يرى ملامح أبيه، فيقرر هو بنفسه أيهما يشبه، لم تأتِ سيرة أبيه ولا مرة أمامه" [ص: 130].

ويقرر يوسف أن يلتقي ببشير، ولكنه يذهب إليه بروح مختلفة فقد "عزم في يومه المشهود... على أن ينظر في عين بشير الكحلي بثقة، يلمسه، يحفظ ملامحه، يتأكد من كونه حقيقيًّا" [ص: 135].

لقد كان بشير أشبه بالأسطورة في وعي يوسف، فهو لا يُمَسُّ، ولا يَعرِف ملامحه على وجه اليقين، ولا سبيل لجبر المسافة بينهما، غير أنَّ واقعًا جديدًا طرأ، تبدلت معه المواقع، فقد اكتسب يوسف شجاعة المواجهة، وانتقل الخوف والريبة إلى بشير الذي ظن أنَّ يوسف يمكن أن ينتزعه الأعداء (الوهميون) منه، أو أنَّ يوسف نفسه سيمتلك بعد انتصاره القدرة على الإفلات من حصار بشير النفسي له.

وسينتهي الأمر بموت بشير من جراء عضة ثعبان جاءه من غرفة المعمل الغامضة، وقبلها كان بشير يرجو يوسف ألا يتركه، وأنَّه يَعدهُ أن يعطيه الكتب جميعًا بأغلفتها، وهي إشارة رمزية شديدة الدلالة على انتصار يوسف ورجوع هويته الضائعة، التي أهدرها بشير بكتبه التي لا تحيل على التاريخ أو المكان، بل كانت تحيل على وهم وجودي.

ومما هو دالٌّ ومتواشج مع هذا المعنى أنَّ يوسف يجد صورة عرس أبيه وأمه، وكذلك يجد ملابس لأبيه في صندوق بالغرفة الغامضة، وكأنَّ السارد يشير إلى استعادة مضاعفة للتاريخ الشخصي ليوسف ولهويته، متساوقًا مع موت بشير في اللحظة نفسها.

 


الهوامش:
1. صدرت الرواية عن الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 2024. وقد صدرت للكاتب من قبل روايتان ومجموعة قصصية.
2. هذا التعليق يدخل ضمن ما يسمى (وظائف الراوي)، ويتصل خاصة بالوظيفة التقويمية، وهي "التي يجسدها ما يطلقه الراوي من أحكام وآراء في شأن الشخصيات والأحداث"، معجم السرديات، تأليف محمد القاضي وآخرين، دار محمد علي للنشر، تونس، ط1، 2010، ص: 473.
3. المبنى الحكائي مصطلح وضعه توماشفسكي مقابل مصطلح المتن الحكائي، والمصطلح الثاني يعني الحدث كما وقع فعلا، أما الأول فيعني الصياغة الفنية لهذا الحدث، انظر (مقولات السرد الأدبي)، تودوروف، ترجمة الحسين سحبان، وفؤاد صفا، ص: 41 ضمن (طرائق تحليل السرد الأدبي)، مجموعة مؤلفين، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط1، الرباط، 1991.
4. انظر في تدقيق مفهوم الراوي العليم "القصة القصيرة النظرية والتقنية"، إنريكي أندرسون إمبرت، ترجمة علي منوفي، المجلس القومي للترجمة، القاهرة، 2000، ص: 81-80، وانظر ملاحظته أنَّ من خصائص هذا المنظور في القص أنَّه "عادة ما يستنفد تكنيك التتابع النفسي".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها