فعلُ التّواصل.. بَينَ مِعْيارِيّة اللغة ووَظيفتها الاجْتِماعية

عبد الله بن ناجي

 

الإنسان كائن اجتماعي يتحرك ويتفاعل داخل نظام من العلاقات الاجتماعية، ويظهر ذلك جلياً في كل المعاملات والممارسات اليومية؛ هذا التفاعل الاجتماعي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتواصل الإنساني، مادام التواصل يقوم أساساً على مبدإ التبادل الكلاميّ بين طرفين: مخاطِب ومخاطَب؛ أي على التفاعل بين مكونات الجماعة اللغوية في سياقات اجتماعية محددة. ارتباط التواصل الإنساني بالتفاعل الاجتماعي، عبر سيرورة ممتدة بامتداد وجود الإنسان ذاته، فرض نوعاً من التعاقدات، هي في نهاية الأمر تخطيط وتوجيه ضمنيّ للممارسات الإنسانية المُتعارف عليها؛ هذه التعاقدات كانت منطلقاً للبحث عن نظرية عامة للتواصل، شكل الاهتمام بتحديد مكوناتها تقاطعاً معرفياً بين العديد من مجالات العلوم الإنسانية.
 

إن اعتبار اللغة خاصية اجتماعية، يتطلب تحديد علاقة اللغة بالمجتمع، وارتباطهما معاً بالتواصل الإنساني يُلزمنا بتحديد طبيعة هذه العلاقة؛ ثم إن الدراسات اللسانيات تتفرع إلى تيارات ومدارسَ تتعدد منطلقاتها وتصوراتها ونظرياتها، الأمر الذي يجعل البحث في التواصل باعتباره بُعداً تداوليّاً وخصيصة مشتركة بين مجالي العلوم اللسانية وعلم الاجتماع، يغدو متشعبَ الخطوات على المستويين المعرفي والمنهجي. فما طبيعة العلاقة بين اللغة والمجتمع؟ هل يتحكم المجتمع في تحديد آلية اشتغال اللغة وبنياتها أم العكس؟ وما دور اللسانيات الوظيفية في تعميق الوعي بهذه العلاقة وإبراز سماتها؟

جاء في كتاب الخصائص لابن جني أن «حدّ اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم»1، وما بين هذا التعريف الذي أضحى بفعل تداوله أثراً، وتعريف اللسانيات الحديثة التي نظرت إليها باعتبارها قدرة ذهنية أو ملكة فطرية كامنة في الدماغ، يصعب حصر ما قيل فيها أو كتب عنها، غير أن الثابت في اللغة هو ارتباطها الوثيق بوظيفتها التواصلية داخل المجتمع، بل إن وجود اللغة ذاته وتطورها رهين بهذه الوظيفة، فخروج اللغة من دائرة التواصل والتداول يعني زوالها، وبقاؤها في دائرة التواصل يعني استمرار وجودها، حيث لا يكف الإنسان عن التواصل مع واقعه ومجتمعه حتى في حواراته الداخلية.

إن العلاقة بين الفرد والمجتمع واللغة هي علاقة ذات طبيعة تفاعلية، حيث يظهر التواصل التفاعليّ بين الفرد والجماعة اللغوية انطلاقاً من طبيعة العلاقة بين كل منهما من جهة، وبينهما وبين اللغة من جهة أخرى؛ فالفرد ينتمي لجماعة لغوية، ومحكوم بهيمنة النظام اللغوي العام لهذه الجماعة، وهو ما ذهب إليه دو سوسير حين ميز بين اللسان باعتباره مؤسسة اجتماعية والكلام باعتباره نشاطاً فردياً، يشكلان معاً الملكة اللغوية؛ فاللسان يُشكل مجموع القواعد الثابتة والمشتركة، في حين يُشكل الكلام جانب التحقق الفردي لهذه القواعد، بل وأكثر من ذلك أرجع دو سوسير «تماسك اللسان وانتشاره إلى وجود (...) قوة الشعور الجماعي»2، كما أن القول باعتباطية الدليل اللغوي (العلامة) ينقلنا إلى دائرة «المجتمع الذي يحدد ميكانيزمات وآليات التواصل سواء كان لغوياً أو غيرَ لغويّ»3؛ وما يدعم هذه العلاقة هو التمييز، الذي أسس له دو سوسير بين جانبي اللغة: اللسان والكلام. وإذا كانت العلاقة وطيدة الصلة بين اللغة والمجتمع، فإنّ علاقة التواصل بكليهما تبقى سؤالاً مشروعاً؛ بمعنى: كيف يُشكل فعل التواصل صلة وصل بين اللغة والمجتمع؟

إن اشتغال اللغة قائم على التفاعل، والتفاعل شرط أساس من شروط الفعل التواصليّ؛ من هنا يمكن توصيف هذا الترابط: فالفرد يرتبط مع الجماعة اللغوية بروابط تواصلية، وعليه يمكن أن نعتبر التواصل «هو حقيقة التفاعل الفكري واللغوي بين وجود الذات (أنا)، ووجود الآخر (أنت)، وبين هذا وذاك والمجتمع (نحن)»4، ومنه يمكن القول إنّ كلّ «جزئية في حياتنا تعتبر عنصراً تواصلياً، ولكل سلوك اجتماعي قيمة تواصلية»5، كما أن التواصل يختزن العديد من القيم الاجتماعية والإنسانية، وإذا كانت السمات الأساس التي تسم الفعل التواصلي تتمثل في كونه ممارسة متكررة متعددة الأطراف، فإنه من الجائز القول إن اللغة ما كانت إلا لإحداث التواصل بين أفراد المجتمع.

وبهذا الصدد، ينبغي «ألا ننظر إلى البث والاستقبال باعتبارهما كل شيء في توصيل الرسالة اللغوية(...)، إن لكل من هاتين العمليتين منطلقات نفسية واجتماعية»6، بمعنى أن دراسة التواصل تفترض «تجاوز اللغة باعتبارها نشاطاً عقلياً، إلى اللغة باعتبارها نشاطاً اجتماعياً تواصلياً [لأن]؛ الفرد (...) يخرج من إطار اللغة باعتبارها تفكيراً فردياً إلى اللغة باعتبارها تفكيراً اجتماعياً، وبغير التفكير الاجتماعي في اللغة لا يحدث تواصل»7. إن العلاقة التواصلية تكون إيجابية أو سلبية بحسب العوامل النفسية والاجتماعية التي تؤطرها، ولذلك فإنه من غير الصائب أن نتجاوز هذه العوامل عند دراسة الرسالة اللغوية أو التواصل عامة. وقد أفادت اللسانيات التواصلية من الجسور القائمة بين اللسانيات والأدب، والفلسفة، وعلم الاجتماع وعلم النفس... وغيرها من العلوم، حيث لا غنى للباحث في الأنساق التواصلية اللغوية وسماتها عن استحضار خلاصاتها ونتائجها؛ ولأن في كل لغة سمات تواصلية خاصة بالجماعة اللغوية؛ فإن اللسانيات التواصلية أضحت أهم فروع اللسانيات الاجتماعية. وسواء تعلّق الأمر بالدراسات التراثية التي تناولت الوضعيات التخاطبية أو بالنظريات اللسانية الحديثة، فإنّ كلّ فعل تواصلي يقوم على ثلاثة أقطاب: المرسل، والمُرسَل إليه، والمجتمع، الذي يُعدّ فضاء لمختلف السياقات والمقامات التواصليّة.

العلاقة بيِّنَة، إذن، بين اللغة والتواصل والمجتمع، لكن السؤال: كيف أصبح التواصل فرعاً من فروع علم اللسانيات؟ يبقى سؤالا مشروعاً. أضيف إليه سؤالا آخر لا يقل أهمية في تأطير هذه الورقة وتوجيهها؛ ما موقع اللسانيات التواصلية ضمن مجموع النظريات اللسانية؟

لقد دأب مؤرخو اللسانيات المعاصرة على تصنيف النظريات اللسانية ضمن مدرستين: مدرسة وصفية تصنيفية يمثلها التيار البنيوي ومدرسة تفسيرية تنظيرية يمثلها تيار النحو التوليدي التحويلي، غير أن أحمد المتوكل اقترح تنميطاً للنظريات اللسانية «يقوم في أساسه على التمييز بين مجموعتين اثنتين من النظريات: [أولا]، النظريات التي تعتمد مبدأ إسهام الخصائص الوظيفية للسان الطبيعي في تحديد خصائصه الصورية (التركيبية– الصرفية)؛ و[ثانياً]، النظريات التي تعتمد مبدأ استقلال بنية اللسان الطبيعي عمّا يمكن أن يؤديه من وظائف تواصلية في عملية التفاعل البشري»8، وهو بهذا المعنى يميز بين تصورين: تصور لساني يربط البنيات اللغوية الصورية بالجانب الوظيفي للغة، تصور لساني يدرس اللغة وبنياتها بمعزل عن وظيفتها التواصلية. وتأسيساً على ذلك قدم تصنيفاً للسانيات النظرية يضم تيارين: لسانيات نظرية وظيفية ولسانيات نظرية غير وظيفية.

إن النظريات الوظيفية والنظريات غير الوظيفية تشترك في كونها تتخذ اللسان الطبيعي موضوعاً لها، وتتجاوز الوصف إلى التفسير، وتسعى إلى بناء «نحو كلي»، وتتبنى جميعها نموذجاً صورياً، وتستهدف القدرة وليس الإنجاز؛ غير أن أوجه الاختلاف بينها عديدة، أهمها أن النظريات غير الوظيفية تعد اللغة «نسقاً مجرداً يؤدي وظائف متعددة أهمها وظيفة التعبير عند الفكر، في حين أن النظريات الوظيفية تعد اللغة وسيلة للتواصل الاجتماعي، أي نسقاً رمزياً يؤدي مجموعة من الوظائف أهمها وظيفة التواصل»9. ويترتب عن هذا التمايز، حسب أحمد المتوكل، فرضيّتان: فرضية أولى، تربط من خلالها النظريات الوظيفية بين رصد وتحديد خصائص بنية اللغات الطبيعية ووظيفة التواصل؛ وفرضية ثانية، تنطلق منها النظريات غير الوظيفية، تنظر من خلالها إلى اللغة باعتبارها نسقاً صورياً مجرداً يمكن تحديد خصائصه البنيوية بمعزل عن وظيفته التواصلية.

إنّ اللغويين غير الوظيفيين يعتبرون الكليات اللغوية مبادئ وخصائص صورية، بينما يربط الوظيفيون بين هذه المبادئ ووظيفة التواصل للسان الطبيعي، بمعنى أن قدرة المتكلم- السامع المثالي هي «قدرة تواصلية» في نظر الوظيفيين، وفي نظر غير الوظيفيين هي «قدرة نحوية» تنبني على معرفة القواعد اللغوية المعيارية الثابتة؛ فما معنى الوظيفة اللغوية؟ وما معنى لسانيات وظيفية؟ وما هي خصائص نماذجها المقترحة؟

يقول أحمد المتوكل في سياق تعريفه للوظيفة اللغوية: «حين نتحدث عن الوظيفة، يجب أن يكون حاضراً في ذهننا التمييز بين معنيين اثنين لهذا المفهوم: الوظيفة باعتبارها دوراً تقوم به اللغة ككل، والوظيفة باعتبارها علاقة دلالية أو تركيبية أو تداولية تقوم بين مكونات الجملة»10.

إن هذا التعريف يجعل الوظيفة اللغوية ذاتَ بُعدين: بُعد يتموقع خارج اللغة، ويرتبط بوظيفة بنياتها في مختلف المقامات التواصلية داخل المجتمع؛ وبُعد يرتبط بالوظائف التي تؤديها البنيات اللغوية في تركيب لغويّ ما، من خلال تعالقاتها النحوية والصرفية والدلالية التداولية؛ ومنه يمكن تعريف اللسانيات الوظيفية بكونها توجُّهاً لسانياً يروم تحليل البنيات اللغوية في علاقة بوظيفتها التواصلية؛ بمعنى أن المستوى التداولي/ التواصلي الذي يُمثله جانب الاستعمال اللغوي هو الكفيل بتحديد الخصائص البنيوية للغة، أي اعتماد فرضية أن الوظيفة تحدد البنية. وفيما يلي أهم خصائص النماذج التي تقترحها النظريات الوظيفية11:
نظرية الوجهة الوظيفية للجملة: تتضمن ثلاثة مستويات هي: مستوى البنية الدلالية، ومستوى البنية النحوية، ومستوى البنية الوظيفية، التي تضطلع بالتمثيل للعلائق التداولية.
النظرية النسقية: تقدم نموذجاً يفترض أن اللغات الطبيعية تؤدي ثلاث وظائف متزامنة على مستوى نفس العبارة؛ الوظيفة التمثيلية والوظيفة التعالقية والوظيفة النصية؛ الوظيفة التمثيلية هي وظيفة التعبير عن تجربة المتكلم بالنسبة للواقع، ونقل هذا الواقع إلى تصورات أو تمثلات ذهنية، والوظيفة التعالقية هي وظيفة التعبير عن الدور الذي يتخذه المتكلم تجاه مخاطبه، وموقفه إزاء النص الذي ينجزه، أما الوظيفة النصية فهي وظيفة تنظيم النص المنجز حسبما يقتضيه مقام إنجازه.
نظرية النحو الوظيفي: يقترح هذا النحو نموذجاً يفترض أن مصدر اشتقاق الكلمة يحدد المعلومات الدلالية والتداولية التي يستلزمها بناء البنية اللغوية التي تتضمن الخصائص التركيبية والصرفية.
نظرية التركيب الوظيفي أو نحو الأدوار والإحالة: وفق هذا النموذج، تشتق الجملة عبر ثلاث بنيات: بنية تداولية (بنية إحالية)، وبنية دلالية (بنية الأدوار)، وبنية تركيبية، ويحدد عناصر البنية التركيبية وخصائصها التفاعل القائم بين البنيتين الدلالية والتداولية، بحيث تعتبر البنية الأولى انعكاساً للبنيتين الثانيتين.

إن هذه النظريات كما يبدو، تتقاسم القبض على مجموعة من المبادئ المنهجية العامة، تجعل ممكناً تصنيفها في خانة «الوظيفية»؛ هذه المبادئ ترتبط بوظيفة اللسان الطبيعي وعلاقة الوظيفة بالبنية ومفهوم القدرة اللغوية ومفهوم الكليات اللغوية؛ فاللغة تستعمل بالأساس لأجل التواصل، والوظيفة التواصلية تتواجد وتشمل بدرجات متفاوتة جميع أنواع الخطاب، فالملاحظ أنّ البُعد الوظيفي حاضر في هذه النظريات جميعِها، تؤشر عليه مستويات لغوية عديدة: المستوى التداولي والتمثيلي والتعالقي والتفاعل القائم بين بنيتَيْ الإحالة والأدوار.

خلاصة القول؛ إن التواصل اللغوي محكوم بمستويين أساسيين: مستوى قاعدي معياري تُمثله البنيات اللغوية المعجمية والصرفية والتركيبية والدلالية؛ ومستوى تداولي/ وظيفي تمثله المقامات التواصلية، التي تجد تفسيرها في التفاعلات الاجتماعية. وهكذا يبدو أنّ تحليل وفهم الفعل التواصلي يتطلب الأخذ بعين الاعتبار التكامل بين البنيات اللغوية من جهة ووظيفتها الاجتماعية من جهة أخرى.


الهوامش:  1. ابن جني، أبو الفتح عثمان- الخصائص- القاهرة- 1943- ص: 46، 47.┆2. دو سوسير، فردناند- محاضرات في اللسان العام- ترجمة عبد القادر قنيني- إفريقيا الشرق- الدار البيضاء- 1987- ص: 10.┆3. الركيك، محند- نظرية التواصل في ضوء اللسانيات الحديثة- علامات- ع 24 - 2005 – ص: 67.┆4. إستيتية، سمير شريف- ثلاثية اللسانيات التواصلية- عالم الفكر- ع 3- المجلد 34- 2006- ص: 19.┆5. السراج، عبد العزيز- التواصل والحجاج (أية علاقة؟)- ضمن خماسية حافظ إسماعيلي علوي، الحجاج مفهومه ومجالاته- عالم الكتب الحديثة- ٳربد، الأردن- ج1- ط 1- 2010- ص: 281.┆6. إستيتية، المرجع نفسه- ص: 17.┆7. إستيتية، المرجع نفسه- ص: 32.┆8. المتوكل، أحمد - اللسانيات الوظيفية: مدخل نظري- منشورات عكاظ- الرباط- 1989- ص: 6.┆9. المتوكل، أحمد- المرجع نفسه- ص: 12.┆10. المتوكل، أحمد- المرجع نفسه- ص: 45.┆11. المتوكل، أحمد- المرجع نفسه- ص ص: 32، 49.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها