تعد المقاومة منظومة متكاملة من وسائل الدفاع؛ وهذا يعني أن هناك مقاومةً ثقافيةً، قانونية، سياسية، عسكرية وأدبية... وكل نمط من هذه الأنماط يأخذ موقعه من تعبئة المجتمع ضد الظلم والفساد، والقهر والاستبداد... فالمقاومة تعبئ المجتمع فكرياً ونفسياً، وتجعله يستعد لمجابهة منظمة وواعية، ولهذا القصد انحاز الأدباء والكتاب إلى قضايا أمتهم، وطفقوا يقدمّون الهدف من الأدب والكتابة الملتزمة، فالأمم العظيمة عندما تلحق بها النّكبات ويتعذر عليها معرفة السبيل للنجاة تفتش عن أدبائها ومثقفيها، فيأتون في مقدمة أبنائها تحسساً لمصائبها وهمومها؛ وبالتالي نحصل على نوع متميز من الأدب، يتميز بسمات محددة تجعله أدباً ملتزماً بمناقشة قضية التحرير ومواجهة الآخر المعتدي، أدب سيعرف في الأوساط الثقافية مع مرور الأيام بـ"أدب المقاومة"، أو "الأدب المقاوم".
وأدب المقاومة كما عرفه غسان كنفاني في كتابه "الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968" هو: "الأدب المعبر عن الذات الواعية بهويتها والمتطلعة إلى الحرية في مواجهة الآخر العدواني، على أن يضع الكاتب نصب عينيه جماعته وأمته، ومحافظًا على كل ما تحفظه من قيم عليا، وليس متطلعًا إلى الحرية بمعنى الخلاص الفردي".
ويمكن تعريفه كذلك –كما صرّح إبراهيم فؤاد عباس في "أدب المقاومة الفلسطينية"- بأنه الأدب الذي ينتج عن اختلاط المعاناة بمشاعر التمرد، التي تموج في نفس الشاعر أو الأديب في مواجهة الاحتلال والظلم والاستبداد، لذا فإنه ليس في وسعنا التقرير بأن أدب المقاومة هو اختراع فلسطيني، ولذلك يمكن القول بأن أدب المقاومة يشمل أعمال محمود درويش وسميح القاسم وغسان كنفاني وسحر خليفة... كما يشمل أعمال عبد الرحمن منيف ومصطفى خليفة، وأحمد رائف وأيمن العتوم وبابلو نيرودا وجون بول سارتر... فهو أدب كل من قرر الانتماء بالقلم إلى مدرسة الحرية العالمية.
فالجانب الإيجابي إذن؛ والهام في هذا اللون من ألوان الأدب هو أنه عامل من عوامل "التجمع" لا من عوامل "التفرقة"؛ فحين تكتب مؤلفة مثل "إيثيل مانين Ethel Mannin" قصتها "الطريق إلى بئر سبع" عن مأساة فلسطين وهي الكاتبة الإنجليزية، وحين تكتب مؤلفة مثل "هارييت بيشرستو Harriet Beecher Stowe" قصتها "كوخ العم توم"، عن مأساة الزنوج في الجنوب الأمريكي وهي الكاتبة الأمريكية البيضاء؛ فإنهما تنطلقان في صياغة هذه المأساة أو تلك من هذا المنظور الإنساني الشامل، وليس من المنظور القومي أو الديني أو الاجتماعي، فالأدب بصفة عامة وأدب المقاومة بصفة خاصة نشاط إنساني يقاوم عوامل الضعف التي قد تنتاب النفس البشرية في لحظات الانكسار، وهذا ما يعطي أدب المقاومة وجهه الإنساني العام الذي يتعدى الأطر القومية والقوالب الاجتماعية مما يجعل الكتَّاب ينفعلون ويكتبون عن قضايا شعوب لا ينتمون إليها.
و"أدب المقاومة" كمصطلح في الساحة الثقافية العربية كان أول من سطره بإجماع الكثير من النقاد هو الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، من خلال عمليه "أدب المقاومة في فلسطين 1948-1966"، و"الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968"، وهما العملين اللذين أطل من خلالهما العالم على شعراء كانوا منسيين ومنفيين؛ إذ قدم من خلالهما معلومات عن محمود درويش وتوفيق زيّاد، وسميح القاسم وفوزي الأسمر وغيرهم، وأصبحت معلوماته عنهم بعد ذلك مرجعاً لمختلف الدارسين. وهذا الأدب -كما ذكر غسان كنفاني في كتابه "الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال"- يمثل صرخة شجاعة، ويجسد حالة من حالات الصمود من الداخل، وأن الالتزام بالقضية، الالتزام الواعي، هو الإطار الذي استطاع أن يقود خطوات أدب المقاومة، وأنه استطاع في فترة مبكرة الربط بين البعدين السياسي والاجتماعي، والربط كذلك بين قضية مقاومة المحتل الإسرائيلي وقضايا التحرر في البلاد العربية والعالم.
إن علاقة الأدباء بالنكبات والأزمات التي تواجه وجودهم وحياتهم وهويتهم ومقدساتهم وثقافتهم وتراثهم ليست علاقة طارئة أو جديدة؛ وإنما هي علاقة متجذرة في التاريخ والحياة؛ وهي تنطوي على رسالة خلقية وجمالية ضد كل أشكال القبح والشر؛ وخاصة إذا كانت في مواجهة المحتل الغاصب والطامع في خيرات هذه الأمة قديماً وحديثاً؛ أي إن رسالة الأدباء والكتاب تتجاوز الفردية الذاتية، والجزئيات التفصيلية التي يعتمدها بعض السياسيين ومصالحهم الضيقة والمحدودة، فالأديب الملتزم لا يغير رسالته القائمة على الدفاع عن قضايا مجتمعه أو وطنه أو أمته؛ وإنما يتمسك بها وإن تعرض للعزلة أو النفي أو السجن، أو التعذيب أو القهر والإذلال، أو القتل.
وفي هذا المقام لا بُدّ أن نشير إلى أن هناك من الباحثين من يخلط بين "أدب المقاومة" و"أدب الحرب"، في حين أن هناك فرقاً واضحاً بينهما؛ إذ إن أدب الحرب –كما صرح السيد نجم في كتابه "أدب المقاومة: المفاهيم والمعطيات"- معني بالدرجة الأولى بالتعبير عن التجربة الحربية المعاشة، بينما أدب المقاومة أعم وأشمل، ويضم كل التجارب المعنية بمقاومة الفساد أو القهر أو الاحتلال، أو الاستبداد كيفما كانت صوره وأشكاله، وهو الأدب المحفّز على البناء والتحول الاجتماعي الأفضل، في مواجهة الظلم والقهر، وكلها من أجل تعضيد الذات الجمعية ومواجهة الآخر العدواني. أما عن أهمية هذا الأدب فقد ذكر أنه يعد "وثيقة" بمعنى ما، يمكن الرجوع إليها، وهو الباقي دوما وقت أن يذهب الجميع، ولكل تلك الأسباب يعد أدب المقاومة أدباً إنسانياً موضوعه وهدفه "الإنسان/الفرد" و"الإنسان/ في جماعة"، من أجل حياة أفضل لا تكدر صفوها شائبة.
لا شك إذن؛ أن أدب المقاومة قد شارك ولا يزال بنصيب وافر في أعمال المقاومة البطولية ضد الاستعمار الأجنبي والطغيان على حد السواء، إيماناً من مبدعيه أن الكلمة لها نفس وقع الرصاصة على المستعمر الغاشم وعلى المستبد الظالم، فدور هذا الأدب أكبر من أن ينكره أحد، فهو غالباً ما يسعى إلى توليد الصراع في نفس الإنسان إذا خلت منه، وتجديد حس المقاومة إذا كان هذا الحس قد خبأ مع الأيام.
في الختام؛ يمكن أن نقول بأن أدب المقاومة بكل أشكاله (الشعر، القصة القصيرة، الرواية، المسرحية...) يتأسس على مجابهة المستعمر من جهة، والتمسك بأرض الوطن وذكرياته التي تحلّ مع الأدباء أينما حلّوا وارتحلوا من جهة أخرى، ومن ثم انثنى كل أديب يحدثنا عن تجليات الهزيمة والانكسار، وكيفية تجاوزها والتغلب عليها، وعلى مرارة الخيبات التي كان الاستعمار سبباً فيها، وطفق يزرع في نفوسنا تجربة المقاومة ساخراً من أولئك الذين أعمتهم المصالح الضيقة، وضاقت لديهم حدود الرؤية.