البحث عن المعنى في رواية "تاج شمس"

حوار مع الروائي هاني القط

حاوره: ممدوح عبد الستار


الروائي "هاني القط"، صاحب رؤى وأفكار ملهمة. غصنا معاً في روايته "تاج شمس"، بحثاً عن الدلالات والرموز التي تختبئ بين سطورها. أردتُ أن أفهم كيف تشكلت شخصياته، وكيف استطاع أن يجسد صراعاتها الداخلية. تجولتُ في أروقة "تاج شمس" من خلال أسئلتي، مستكشفاً دلالات العنوان، وتناغم النور والظلام، وسر الكرسي العتيق الذي ربط بين شخصيتي "الجليلة" و"تاج شمس"، بل تعمقت في رحلة "خليل" الباحثة عن اليقين، وتأملت التحول المأساوي لـ "مختار".
 

أصدر "هاني القط" (مدن الانتظار، العزف) مجموعات قصصية، ورواية "سيرة الزوال، ورواية "رايات الموتى"، ورواية للفتيان بعنوان "الوطن السعيد"، وأخيراً روايته "تاج شمس". فكان لنا معه الحوار الآتي:


 "تاج شمس" لماذا اخترت هذا العنوان تحديداً لروايتك؟ وما الدلالات التي أردت أن يحملها هذان الاسمان؟ وهل تعتقد أنه لخص جوهر الرواية بشكل كامل؟

لا أؤمن بأن أي عنوان يمكنه اختزال جوهر العمل الأدبي. العنوان المثالي، في نظري، ليس باباً يفضي إلى الإجابات، بل نافذة تطل على أسئلة تثير الفضول، تدفع القارئ للتأمل، وتفتح أمامه طرقاً متعددة لفهم العمل. العنوان، بهذا المعنى، هو إيماءة خفية، تلمح ولا تفصح. إنه دعوة مبطنة للقارئ للغوص في أعماق النص، لاستكشاف ما يخفيه من رموز ومعانٍ متشابكة.

⊙ يتردد حضور الضوء والظلام كرمزين متضادين في الرواية. كيف استخدمت هذين الرمزين لخدمة أفكار الرواية؟ وهل تعتقد أن النور ينتصر دائماً على الظلام؟

النور والظلام ليسا ضدين متصارعين، بل وجهان لحقيقة. فكرة انتصار النور أو الظلام تبسيط مخل بتعقيد النفس البشرية، حيث يحمل كل إنسان داخله مزيجاً من النقيضين. في تاج شمس، كان النور والظلام مسارين متداخلين، ليس غاية أو عقبة، بل توازن تسعى إليه الشخصيات في رحلة وجودها. فالحياة ليست صراعاً بينهما، بل تجربة تتكشف في تناغمهما.

⊙ لماذا الكرسي العتيق تحديداً كان هو الرابط بين "الجليلة" و"تاج شمس"؟ وماذا يمثل هذا الكرسي في الرواية؟ وما أهميته في بناء الشخصية المحورية؟

الكرسي ربما هو ذاكرة المكان، يختزن ما عجز الزمن عن طمسه وما عافت النفوس البوح به. "الجليلة" جلست عليه كمن يبحث عن ثبات وسط دوامة التغيرات، كأنما تسند صراعاتها إليه، بين ما ترغب في نسيانه وما يأبى أن يُنسى. إنه ليس مجرد كيان مادي، بل كائن غامض يحمل روح المكان وعبء الحكايات المكتومة. الكرسي هو الحاضر الغائب، عتبة تربط الماضي بالمستقبل، حيث كل جلوس عليه يصبح فعل مواجهة؛ مواجهة مع الزمن، ومع النفس، ومع الإرث الذي يصوغ الحاضر بيد خفية. ورغم بساطة هذا الفعل، إلا أنه يحمل في طياته رحلة تأمل تكشف عن عوالم داخلية أعمق مما يظهر على السطح.

⊙ "الجليلة" كيف توصلت إلى رسم هذه الشخصية المهيبة؟ وهل هناك نموذج واقعي استلهمت منه هذه الشخصية؟ وما الذي أردت أن تمثله من خلالها؟

كل شخصية تحمل في طياتها رصيداً واقعياً، قد يأتي من شخصية محددة أو من مزيج شخصيات تركت أثراً. "الجليلة"، على سبيل المثال، ربما تتماس مع الصورة الذهنية التي أحملها لجدتي؛ تلك المهابة الصامتة، الغموض الآسر، والحكمة التي تتسلل بهدوء عبر الأيام. لكن "الجليلة" تتجاوز كونها مجرد انعكاس واقعي، فهي محملة برمزية مفتوحة، تمنح القارئ حرية الإسقاط والتأويل. أما بالنسبة لما أردت قوله: العمل برمته يقرؤه كل قارئ وفق رؤاه وتجربته الخاصة. وكل تأويل يُضفيه القارئ على النص هو تأويل صحيح؛ لأنه ينبع من تفاعل حقيقي مع النص، لا من نوايا الكاتب. "الجليلة" ليست مجرد شخصية، بل هي مرآة تحمل تعددية المعاني التي يولّدها القارئ، لتصبح بذلك جزءاً من التجربة الإنسانية لكل من يقرأها.

⊙ رحلة "خليل" مليئة بالصراعات والتساؤلات. ما هي الرسالة التي أردت أن تنقلها من خلال هذه الشخصية الباحثة عن اليقين؟ وهل ترى أن بحثه قد وصل إلى نتيجة في نهاية الرواية؟

أشعر أنك تخاطبني وكأنني أملك السيطرة الكاملة على مصير الشخصيات وحيرتها، لكن الحقيقة أن الشخصيات ليست عرائس ماريونت أحرّكها كما أشاء؛ بل كائنات حية تنبض داخل النص، تتحرك أحياناً في اتجاهات لا أرغب فيها. "خليل"، بشغفه وتساؤلاته، كان يبحث عن يقينه، لكنه لم يمنحني الإجابة بوضوح. هل وجد "خليل" يقينه؟ هذا سؤال لا أستطيع الإجابة عنه، لأنه يخص "خليل" نفسه، إن كنت تبحث عن الإجابة، فعليك أن تسأل "خليل" مباشرة. كيف؟ أعد قراءة النص، تعايش مع رحلته من جديد، فربما يمنحك النص إجابة تسكن تساؤلك... أو يتركك في حيرة جديدة!

⊙ هل ترى أن "مختار" كان ضحية لظروفه أم أنه كان مسؤولاً عن مصيره؟ وهل تعتقد أن السلطة تفسد النفوس؟ وكيف أردت تجسيد هذا التحول في شخصيته؟

سؤال السلطة هو واحد من أكثر الأسئلة إيلاماً وتعقيداً، خاصة عندما نبحث في تأثيرها على النفوس. بالنسبة لمختار، سيبقى الجدل مفتوحاً: هل كان ضحية لظروف أكبر منه، أم أننا جميعاً ضحايا لما أصبح عليه "مختار"؟ الحقيقة أن السلطة، بأي صورة مطلقة، تحمل في طياتها بذور الفساد. مهما كان نبل المقصد في البداية، فالسلطة المطلقة تستدعي مفاسدها، كما لو كانت قانوناً طبيعياً لا يُرد. في شخصية "مختار"، حاولت تجسيد هذا التحول بطريقة تُظهر هشاشة النفس البشرية أمام إغراء القوة. السلطة ليست مجرد أداة، بل هي اختبار مستمر للذات، غالباً ما يفشل فيه الإنسان. الرواية لا تدين "مختار" كشخص، بل تكشف كيف يمكن للسلطة أن تعيد تشكيل ملامح أي إنسان، وتحوله إلى صورة قد لا يعترف بها هو نفسه.

⊙ كيف اخترت زوايا الرؤية المختلفة في الرواية؟ وما الذي أردت أن تحققه من خلال تعدد الأصوات السردية؟ وهل ترى أن هذه التقنية ساهمت في إثراء الرواية؟

أتعامل مع الكتابة كعملية هندسة مرنة، أضع الأطر العامة للعالم السردي، ثم أترك للشخصيات مساحة لتشكيل هويتها ومساراتها. تعدد الأصوات السردية لم يكن مجرد تقنية؛ بل كان ضرورة لإبراز تعددية الرؤى وتباين التجارب الإنسانية داخل النص. كل شخصية تحمل زاويتها الفريدة، ما يجعل العالم السردي أكثر تعقيداً وثراءً. في اللحظة التي تأخذ فيها شخصية مساراً جديداً لم أخطط له، أشعر أن النص ينبض بالحياة. حينها، أقيم معها حواراً هادئاً، نتفاوض على ما يخدم بناء العالم المتخيل. أحيانًا أجدها متمردة، تحاول كسر قواعدها الطبيعية، وهنا أضطر للتدخل، لإعادة توازن النص دون أن أفقد عفويته. تعدد الأصوات في "تاج شمس" هو انعكاس للتعددية البشرية نفسها. لا صوت يعلو على آخر، ولا حقيقة مطلقة تُفرض على النص. أعتقد أن هذه التقنية أضافت للرواية عمقاً؛ لأنها فتحت المجال للقارئ لرؤية العالم من زوايا مختلفة، ليصبح جزءاً من الرحلة، شريكاً في فك ألغاز النص وتأويله. بهذا، يتحول النص من كيان مغلق إلى مساحة مفتوحة تفيض بالاحتمالات.

⊙ لماذا استخدمت تقنيتي الاسترجاع والاستباق بشكل مكثف في الرواية؟ وكيف ساهمت هاتان التقنيتان في بناء الحبكة وتقديم الشخصيات؟

لا أرى استخدام أي تقنية سردية، بما فيها الاسترجاع والاستباق، كجزء من استعراض مهارة الكاتب، بل كضرورة نابعة من طبيعة النص وحاجته. كل تقنية هي أداة، لا قيمة لها إذا لم تخدم بناء الرواية وتمنحها أبعاداً أعمق. في "تاج شمس"، كان الاسترجاع ضرورياً لكشف طبقات الشخصيات وخلفياتها، ليس بطريقة مباشرة، بل عبر لحظات تتسرب فيها الذاكرة لتضيء حاضرهم. أما الاستباق، فقد استُخدم لخلق التوتر، ولإشعار القارئ بأن ثمة ما ينتظره خلف الأحداث الظاهرة، ليظل في حالة توقع وترقب.

⊙ كيف تعكس الرواية بحث الإنسان الدائم عن معنى لوجوده؟ وهل تعتقد أن هذا البحث يمكن أن يصل إلى نهاية؟ وهل ترى أن "خليل" قد وجد ضالته؟

الرواية في جوهرها هي مرآة للإنسان في بحثه المستمر عن معنى لوجوده، لكنها لا تقدم إجابات نهائية، بل تطرح أسئلة تعيد تشكيل وعي القارئ والشخصيات معاً. ربما يكون معنى الوجود هو السؤال الذي لطالما سكنني، والذي ما زلت أبحث له عن إجابة. حادثتُ به كل شخصيات الرواية، ووجدت فيهم مرآة لتأملاتي. كل واحد منهم حمل لي إجابة مختلفة، أو ربما جانباً من الإجابة. "خليل"، تحديداً، كان مثالاً لهذا السعي المتواصل؛ سعي يبدو أحياناً كأنه يقترب من الهدف، لكنه سرعان ما يتحول إلى مسار جديد من التساؤلات. هل يمكن لهذا البحث أن يصل إلى نهاية؟ أعتقد أن السؤال نفسه يحمل إجابته. البحث عن المعنى ليس وجهة، بل رحلة؛ تجربة تمتد عبر الحيرة والصراع، ولا تنتهي إلا بانتهاء الوجود نفسه.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها