بئر يوسف.. إحدى روائع الهندسة الإنشائية

أمير شفيق حسانين

 

كثيرٌ من الناس، عندما يصل إلى أسماعهم عبارة "بئر يوسف"، يظنون خطأً أنها البئر التي أُلقِيَ فيها نبي الله يوسف بن يعقوب -عليهما السلام- وهو طفل صغير، بواسطة إخوته، الذين أرادوا قتله لغيرتهم الشديدة منه.. ولكن في الحقيقة إن "بئر يوسف"، سُمِيَت بهذا الاسم نسبة إلى الناصر صلاح الدين الأيوبي؛ فإن اسمه كاملاً يوسف بن محمود بن أيوب، المُكنّى بصلاح الدين، مُشيِد القلعة، ومؤسس الدولة الأيوبية.
 

ولا شك أن معالم البئر تُفصح لنا عن هيئة بئر عجيبة البنيان، عميقة الحفر، عظيمة التشييد.. وهي تُعد إحدى البِنايات الهامة والحيوية داخل قلعة صلاح الدين الأيوبي، الواقعة بحي مصر القديمة بالقاهرة، فالبئر –لا شك- تُمثل كنزاً تاريخياً نفيساً، وتُعبِر عن روعة الهندسة الإنشائية خلال تلك الحِقبة الزمنية.

وبئر يوسف، أو بئر أيوب -كما أُطلِقَ عليها أيضاً- تُعد من أقدم سواقي مصر، حيث تبدأ قصتها التاريخية منذ الشروع في بناء قلعة القاهرة عام 572 هـجرية، الموافق 1176 ميلادية، حينما رأى بهاء الدين قراقوش -الوزير المُقرَب لصلاح الدين الأيوبي- أن الحِكمة والذكاء يستدعيان حفر هذه البئر في الصخر، لجلب المياه منها أثناء حصار القلعة، وقد ظلت بئر يوسف على مدى سنوات طويلة الشريان الحي لقلعة القاهرة المَشيدة.
وقد اشتُهِرَ الوزير بهاء الدين قراقوش بالحزم الشديد والجدية التامة، وعدم الهوادة في تنفيذ ما يُؤمَر به من تعليمات، ولذا كُلِفَ من قِبلْ الناصر صلاح الدين، بتولي عملية الإشراف على بناء قلعة صلاح الدين الحربية الكائنة وسط قاهرة المُعِزْ، والتي تبلغ مساحتها حوالي 70 فداناً، كما أعاد السلطان الأيوبي تكليف وزيره قراقوش بنحت "بئر يوسف"، التي تحتويها باطن قلعة صلاح الدين، والمعروفة أيضاً بقلعة الجبل.

وهناك بعض الروايات التي تُرجِح أن بئر يوسف ذاتها، كانت محفورة في نفس موقع بناء القلعة، التي كُلِف قراقوش ببنائِها وهندستها لينتفع بها مَنْ حولها، إلا أن قراقوش أعاد إنشاءها مرةً أخرى، عِلماً بأن البئر تقع وسط مساحات واسعة، لم تتوفر السُبل لاستغلاها في أي نفع.

وتقع بئر يوسف خلف جامع الناصر محمد بن قلاوون في قلعة صلاح الدين، حيث كانت تُسمى ببئر الحلزون، ويمكن الوصول إلى تلك البئر عن طريق فتحة باب في الناحية الجنوبية الشرقية، يؤدي إلى قبو وسلم حلزوني منحوت في الصخر.

أما الوصول لبئر يوسف، فلا يُسمح به إلا للباحثين والمتخصصين في شؤون الآثار، وعمليات الترميم، حيث ترقد بئر يوسف وراء أبواب ضخمة مُغلَقة، لا تُفتح للزائرين نظراً لخطورتها الرهيبة على أرواحهم، بسبب العُمق الشديد لتلك البئر، وحاجتها الضرورية للترميم العاجل، وإقامة أسوار عالية وآمنة لتأمين مسار الزيارة، للراغبين في التمتع برؤية ذلك الكنز الهندسي الساحر.

ولعل ما جعل البعض يعتبر أن بئر يوسف هي إحدى عجائب البنيان؛ أنها حُفِرتْ في الأوتاد الصخرية الراسخة، على عُمق يصل لقُرابة تسعين متراً -منها 85 متراً محفورة في الصخر-، وكان لا بد من عمل ذلك لإمكانية الوصول لمياهها العذبة، إلا أنه مع الوقت، شاءت الظروف أن تشوب البئر المياة المالحة.

ولعلّ الآراء تتفق على القيمة الأثرية والتاريخية والمكانية العظيمة لبئر يوسف، والتي يحيط بها عبق وكرامات الماضي التليد، بل تزداد أهميتها التاريخية بكونها أكبر وأعمق ساقية في العالم، كما أنها كانت أحدث وسائل تكنولوجيا جلب المياه في زمن القائد صلاح الدين.. ويُرجِح بعض المؤرخين الأثريين أن بئر يوسف يعود تاريخ إنشائها للعصر البطلمي، اعتماداً على مقارنتها بآبار تل العمارنة بمحافظة المنيا المصرية، ويقال إن عملية النزول لتلك البئر، تستدعي استخدام سُلَم صخري ثلاثمائة درجة.

ومن المعلوم أن بئر يوسف تتكون من ثلاث طبقات، يلتف حولها سلم حلزوني يضيق في الطبقة السفلى عنه في الطبقة الوسطى، وتوجد ساقيتان في البئر، إحداهما في الطبقة السفلية تُستخدم لرفع الماء إلى الطبقة الوسطى، بواسطة قواديس تديرها دواب ذات أحجام هائلة.

ويوجد مستويين اثنين لبئر يوسف، المُستوى العلوي والذى يبلغ عُمقه نحو 45 متراً، وهو الأكثر اتساعاً، أما الساقية الموجودة بداخله -إلى يومنا هذا- فكانت تسحب المياه من أحواض شتى في أعلى المستوى السفلي، الذي يصل عمقه قُرابة 50 متراً، والذي -أيضاً- يحتوي على سواق لسحب المياه ورفعها إلى أعلى، باستخدام ثيران صغيرة، كان يتم نقلها للعمل في الساقية العليا بعد أن تكبر، وبعدها بفترة من الزمن يتم ذبح تلك الثيران، وتوزع على العاملين الكادحين في بئر يوسف، وكذلك الجنود وأهل القلعة المُستقرة على جبل المُقطم بالقاهرة.

وإذ يؤكد كتبة التاريخ، والشهود على العصر؛ أن مياه القلعة اعتمد عليها المحاربون والعسكريون في الزراعة وسُقيا الدواب، كما استُخدِمَتْ في أغراض الطهي، وقليلاً ما كانوا يعتمدون عليها في عملية الشُرب لعدم عذوبة البئر بشكل كامل، إلا أنه في أزمات انحسار المياه العذبة، أو نضوبها كانوا يعتمدون على مياه البئر بتحليلها، ومحاولة تنقيتها لتُستخدم للسُقيا.

وعلى لسان ابن عبد الظاهر، ذكر المقريزي -في أحد مؤلفاته- أوصافاً لبئر يوسف قائلاً: "هذه البئر من عجائب الأبنية تدور البقر من أعلاها، فتنقل الماء من نقالة في وسطها، وتدور أبقار في وسطها تنقل الماء من أسفلها، ولها طريق إلى الماء ينزل البقر إلى معينها في مجاز، وجميع ذلك حجر منحوت وماؤها عذب، وقيل إن البئر لما حُفِرتْ جاء ماؤها حُلواً، فأراد قراقوش أو نوابه، الزيادة في مائها فوسع الحفر في الصخر، فخرجت عين مالحة غيرت حلاوتها".

ولعلّ الثورة التكنولوجية التي اجتاحت عالم الموارد المائية، بعد مرور قرون عديدة، وتبدُل الأيام والسنين، قد أحدثت تقدماً هائلاً، نتج عنه ابتكار مُعدات ومضخات عالية الجودة، عظيمة المنفعة، حيث ساعدت في تسهيل سُبل الحصول على المياه بشكل يسير ومُدهِش، ولذا هُجِرَتْ بئر يوسف، وتم الاستغناء عن دورها الحيوي والمهم، الذي أدته بكفاءة فائقة في سالف العصر والزمان.
 

الصورة الرئيسية: قلعة صلاح الدين الأيوبي (القاهرة) wikipedia.org©

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها