تختلف الفلسفة الصينية عن الفلسفة الإغريقية، ووريثتها الفلسفة الإسلامية بشكل شبه جذري، فإذا كانت الفلسفة الإغريقية بنيت دعائمها الابستمولوجية على محاولة تفسير الكون - ما وراء الطبيعة - وعلاقة هذه الميتافيزيقيا بالإنسان ودخلت من أجل ذلك في سراديب ماورائية لا يمكن حصرها، (ورثت الفلسفة الإسلامية هذه التركة لاحقاً، وزادت عليها محاولات التوفيق العسيرة بين الفلسفة والشريعة)؛ فإن الفلسفة الصينية نشأت متحررة من العبء الميتافيزيقي، ولم تشغل نفسها كثيراً بما وراء الطبيعة، إذ كانت معنية في المقام الأول بالإنسان، والدوائر المتعددة حوله (الإنسان إزاء الكون وليس العكس) فالبوذية والكونفوشية والطاوية؛ الأديان الثلاثة المشُكِلة للوعي الفلسفي الصيني، كانت تُعنى بالإنسان في المقام الأول، وسموه الروحي، والأخلاقي، ومدى تناغمه مع الطبيعة، بوصفهِ جزءاً منها، لا كائناً منفصلاً عنها، وأي اتحاد مع الطبيعة هو ضرورة مُهمّة لصيرورة الكائن البشري، وهو ما يفسر فلسفة التأمل التي عمقتها الطاوية خصوصاً، كطقس حِكمي بالغ الأهمية، يدفع الإنسان للاستبصار الداخلي وانبثاق طاقات النور بداخله.
فالبوذية الصاعدة في القرن السادس قبل الميلاد؛ على يد "سيدهارتا جوتاما" الذي لقب بعد ذلك بالمستنير "بوذا"، كانت في الأصل ثورة داخل العقيدة البرهمانية القديمة؛ بطقوسها الرهبانية بالغة الصرامة، ونظامها الشديد الطبقية، الذي تأسست عليه هذه الديانة القديمة.
كما أن دورة التناسخ والرجوع، التي تُشكل منظومة الثواب والعقاب في الهندوسية، بدت لبوذا لانهائية ولا يمكن الخروج من إسارها.
لذلك كان عليه أن يتلمس طريقه الخاص في سلك الرهبنة والمعرفة، وأن يؤسس لمذهبه الخاص، الذي لخصه في إحدى مقولاته بـ"مذهبي هو اللطف، مذهبي هو الرفق"، وأن ينقل التأمل من السماوي إلى الأرضي كاسراً حدة التطرف الرهباني هذه، كما دعا أتباعه إلى خوض غمار التأمل الذاتي البحت بلا مرشد، ولا مرجع مسبق، من أجل الوصول إلى السلام الداخلي المتناغم مع النفس والآخرين.
وإذا كان بوذا الهندي المنشأ، لم تجد دعوته أرضية في الهند، فإنها قد وجدت ملاذاً خصباً في الصين. لأن العقلية الصينية القديمة؛ كانت مهيأة لتقبل هذه التعاليم، بوصفها ديناً دنيوياً في المقام الأول، يدعو إلى الاعتدال والتوسط والسكون، ويدعو كذلك إلى التعامل برفق مع الكائنات.
أما الكونفوشية فقد نشأت في القرن الخامس قبل الميلاد؛ على يد المعلم "كونفوشيوس" والكونفوشية هي في الأساس مذهب فلسفي ينظم العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والنظم السياسية؛ ويرسم حدوداً فاصلة بينهما؛ ويضع كذلك؛ روزنامة لنظم الحكم والسياسة؛ وواجبات الحكام تجاه الرعية؛ وما يجب على الحاكم أن يتحلى به من أخلاق وفضائل تصل به إلى حد الكمال، وما يجب أيضاً على المجتمع تجاه الحاكم، الذي اعتبره كونفوشيوس أبا للجميع، لذلك تعتبر الفلسفة الكونفوشية هي المُشَكِلة للوعي السياسي الصيني في العصور القديمة.
في حدود القرن الرابع قبل الميلاد؛ ظهرت الطاوية على يد الفيلسوف لا وتسي (وإن كانت هذه الشخصية ذات بعد أسطوري غامض)، والتي يمكن اعتبارها خلاصة الفلسفة الصينية، ذلك لأنها هضمت التعاليم البوذية والكونفوشية معاً وصالحت فيما بينهما.
والطاوية معناها الطريق، أو السبيل؛ وعلى عكس ما يعتقد البعض من أنها نشأت كحركة احتجاج ضد الكونفوشية، فإنها استعملت الميراث الكونفوشي الذي يصب في صالح تنظيم المجتمع، وزادت عليه من التعاليم البوذية ذات العمق الفلسفي التأملي، إلى جانب أنها دعت وبشكل صريح إلى التصالح مع الحياة، فالطريق؛ أو الطاو؛ هو مفهوم لقيمة روحية متعالية كنهر بلا بداية ولا نهاية، وعلى كل إنسان تلمس طريقه الخاص، لأن الطاو متعدد المفاهيم والدلالات، والمعرفة نسبية وليست مطلقة؛ وللحصول على هذه المعرفة ينبغي الدخول في حالة تناغم مع الكون، ومحاولة التوفيق بين أضداده في رؤية فلسفية "هيجلية" مبكرة متناغمة "كل فكرتين متضادتين؛ تنتجان فكرة ثالثة صالحة.
وبشكل عام؛ كانت الطاوية أكثر واقعية من الكونفوشية، والبوذية، لأنها قدست من قيمة العمل من خلال تأمل الطبيعة، واكتشاف قوانينها كجزء من حالة التأمل المعرفي، فالمبدأ الأساسي في الطاوية هو "ابحث عن الأسباب". هذه الحالة من التأمل الرهباني في عموم مملكة الصين القديمة؛ أدت إلى اكتشاف وتطور فنون الصناعة، والزراعة، والحرف التقليدية، كما أدت إلى اكتشاف قوانين الهندسة الهيدروكلية فصنعت دولايب المياه، وشيدت الجسور والسدود على الأنهار، ما أفضى إلى حدوث نهضة زراعية لا تزال آثارها ملموسة حتى الآن، هذا فضلا عن أنها أدت وبشكل مباشر إلى اختراعات أخرى مثل الورق، والبارود، والأحبار، والخزف، والبورسلين، واكليشهات الطباعة، وغيرها من المنجزات التي كانت نتيجة حتمية لهذه الحالة من التأمل الفلسفي والاتحاد مع الطبيعة.
ما جعل بعضاً من أبرز علماء الفيزياء الكمية المعاصرين يصفون حالة التأمل هذه بالفتح الفيزيائي التاريخي ومنهم "نيلز بوهر" الذي يقول: "إذا شئنا العثور على مواز للدرس التي تعطينا إياه الفيزياء الكمية، علينا أن نلتفت إلى تلك المشكلات المعرفية التي واجهت من قبل مفكرين من أمثال بوذا ولاوتسي، التي تتضمن من جملة ما تتضمن وضعنا كمشاهدين وممثلين في دراما الوجود الكبرى".
ومن خلال التحقيب في تاريخ الفكر الفلسفي الصيني القديم، يمكن العثور أيضاً على ما يمكن تسميته باشتراكية بدائية؛ فالطاوية طالما قاومت الإقطاع في مواطن كثيرة، ودعت إلى مشايعة بدائية للثروة بوصفها ملكاً للجميع؛ وتعاليم كونفشيوس كذلك تدعو إلى إيجاد طرق تتحقق من خلالها العدالة الاجتماعية، كما تدعو أيضاً إلى تبني معيار الكفاءة وحده في الوظائف العامة، بغض النظر عن نبالة الأصل من عدمها.
هذه المسحة الاشتراكية البدائية ليست بأمر مستغرب، في فلسفات أقيمت دعائمها على التأمل، والتعاون، والتكافل، والتناغم مع النفس والأسرة والمجتمع، وهو ما يفسر أيضاً نجاح النموذج الصيني الحالي في النهوض ومحاولات الريادة المستمرة؛ كما يفسر أيضاً ديناميكية السياسية الصينية التي تحرص على الحفاظ على جوهرها الإيديولوجي الاشتراكي، فيما تغير من آلياتها ووسائلها بشكل دائم يتوافق مع متطلبات السوق وما يلزمه من انفتاح ومرونة. هذه العوامل هي السر وراء نجاح تلك التجربة الاشتراكية الصينية فيما فشلت فيه التجارب الإيديولوجية الرفيقة الأخرى عبر العالم، لأن هذه التجارب خاصمت ماضيها الفلسفي، ودخلت في حالة قطيعة معرفية معه دون محاولات التعرف على نقاط الإضاءة والقوة فيه؛ التي كانت ستمثل رافداً مهماً يغني تلك التجارب بدلا من انتكاسها، وهو مؤشر على صمود التجربة الصينية في ظل الصراعات العالمية الرامية إلى الهيمنة، صموداً جعلها رقماً صعباً لا يمكن تخطيه.
قولٌ على قولٍ
كتب/ المحرر الثقافي
البحث عن جذور النمط الصيني المعاصر، والذي يبدو مغايراً لكل الأنماط التي عرفت في العالم المعاصر.. يحيلنا مباشرة إلى استكناه جوهر هذه الخصوصية في الفلسفة الصينية المتوارثة سالفاً عن سالف، وهنا نستطيع القول إن تلك الفلسفة تتَّصل بالوجود في بُعديْه الظاهر والمستتر.. كما ترى في (الغائب الوجودي) سبباً لتفعيل العلاقة مع تحديات الظاهر، وهو ما تمَّ تسطيره بصورة أُخرى في الأدبيات "التَّاوية" الصينية التي تعتدُّ بفلسفة الفراغ، معتبرة أن الفراغ ليس إلا امتلاء لا نستطيع ملاحقته من أوّلِ وهلة.. كما تُمازِجُ "التَّاوية" بين التّأمل الميتافيزيقي والبراغماتية العملية، مع القبول بالتراجع والفشل بوصفهما المحرك الأساسي للنجاح.