
"إن مفهوم الإنسان المشتق من النظرية الفرويدية، هو فعل الاتهام الأقصى الذي لا يمكن دحضه ضد الحضارة الغربية، وفي الوقت ذاته هو أفضل دفاع لصالحها لا يمكن رده. فإن تاريخ الإنسان بحسب فرويد هو تاريخ قمعه. ذلك أن الحضارة لا تفرض أشكال القسر على وجوده الاجتماعي فحسب، ولكن على وجوده الحيوي، فهي لا تحد من بعض أجزاء في الوجود الإنساني فقط، ولكنها تحد بنيته الغريزية ذاتها ومع ذلك، فإن هذا القسر أو الإرغام هو وحده شرط التقدم الأولي"
(هربرت ماركيوز – الحب والحضارة).
يسعى المقال إلى مناقشة علاقة التقابل والتضاد بين مفهومي اللوغوس والإيروس في الحضارة الغربية، بالاستناد إلى نقد ماركيوز لمفهوم الإنسان ذي البُعد الواحد على اعتبار أن لوغوس بوصفه منطق السيطرة وقمع الغرائز، وإيروس بوصفه غريزة الحياة، ومنطق التمرد الساعي إلى اللذة وتحقيق الارتواء، ومن هنا فقد تم النظر إلى مجالي الغرائز والحساسية على أنهما معاديان للعقل، بل ومفسدان له. اعتمد ماركيوز في نقده للمجتمع الصناعي المتقدم على مقولات النظرية الفرويدية عن الإنسان، التي تعتبر من أعنف الاتهامات الموجهة إلى الحضارة الغربية، من حيث إن تاريخ الإنسان عند فرويد هو في الوقت نفسه تاريخ قمعه، فالحضارة عند فرويد لا تمارس قهرها على وجود الإنسان الاجتماعي فحسب، بل على وجوده البيولوجي. والحضارة أيضاً لا تقيد الوجود الإنساني، بل إنها تقيد الوجود الخاص بالبنية الغريزية ذاتها. وفي هذا السياق سنحاول مناقشة هذا التعارض والكيفية التي أثرت رؤية الإنسان الغربي المعاصر لنفسه وللآخرين والواقع المعاش.
يرى ماركيوز Marcuse أنه رغم وجود الدور النافي (السالب) والثوري للعقل، لكن كما يبدو لماركيوز هناك بعداً آخر للعقل لم يستطع تجاهله بوصفه مفكراً جدلياً، فالعقل كان له دور أساسي في خلق العالم الذي نحيا فيه... ومع ذلك فقد كان له أيضاً دور أساسي في الإبقاء على الظلم والشقاء والعذاب... وباسم هذا العقل كانت ترتكب أبشع الجرائم في التاريخ، وباسمه أيضاً أنشئت محاكم التفتيش، ومعسكرات التعذيب، وغرف الغاز...إلخ1. غير أن العقل والعقل وحده هو الكفيل بتصحيح أخطائه وتطهير نفسه من المظاهر اللاعقلانية، أو على حد تعبير هيجل "إن اليد التي تسبب الجرح هي التي بدورها التي تداويه"2.
ويعتبر ماركيوز أن تاريخ الفكر الغربي يعكس نوعاً من التقابل أو التضاد بين لوغوس3 وإيروس:4 لوغوس بوصفه منطق السيطرة وقمع الغرائز، وإيروس بوصفه غريزة الحياة، ومنطق التمرد الساعي إلى اللذة وتحقيق الارتواء، ومن هنا فقد "تم النظر إلى مجالي الغرائز والحساسية5 على أنهما معاديا للعقل، بل ومفسدان له"6.
ويشير ماركيوز شارحاً إلى أن أصل هذا التعارض يعود إلى المعنى اليوناني القديم لمفهوم العقل والذي استخدم بوصفه ماهية الوجود للدلالة على معاني: العقل المنظم، المصنف، المهيمن، المسيطر، ومن هنا فقد أصبحت فكرة العقل متعارضة بصورة جوهرية مع الدوافع والحاجات التي تقع في المرتبة الأولى من الوجود الإنساني، والتي تكون تقبلية سلبية أكثر من كونها إيجابية ومنتجة، وهي أيضاً تنزع إلى البحث عن الإرضاء والارتواء أكثر من التعالي، لذلك فهي وثيقة الصلة بمبدأ اللذة7.

وإذا كان ماركيوز في "العقل والثورة Reason and Revolution: Hegel and the Rise of Social Theory" عام 1941، قد وظف مقولات هيجل لإبراز الطابع السالب للفكر، فإنه في كتاب "إيروس والحضارة Eros and Civilization" عام 1955، سعى ماركيوز إلى توظيف مقولات فرويد للكشف عن الطابع التحرري السالب للغريزة الجنسية. وفي هذا الكتاب الأخير يحاول ماركيوز أن يكتشف في الفرويدية ما أسماه "التيار الخفي في التحليل النفسي"، ويقصد به العنصر النقدي الكامن في الفرويدية، وقد انتهى ماركيوز إلى أن العنصر يتمثل بصورة واضحة في مفهوم النظرية الفرويدية عن الإنسان، ذلك المفهوم الذي يعد من أعنف الاتهامات الموجهة إلى الحضارة الغربية، من حيث إن تاريخ الإنسان عند فرويد هو في الوقت نفسه تاريخ قمعه، فالحضارة عند فرويد لا تمارس قهرها على وجود الإنسان الاجتماعي فحسب، بل على وجوده البيولوجي. والحضارة أيضاً لا تقيد الوجود الإنساني، بل إنها تقيد الوجود الخاص بالبنية الغريزية ذاتها8.
وترجع أهمية فرويد بالنسبة لماركيوز في أنه قد حاول تحديد ماهية الوجود بوصفه "إيروس" على النقيض من التحديد التقليدي الشائع له باعتباره "لوغوس"، وبذلك يكون فرويد قد رفض الانطولوجيا9 التقليدية، فتصور الوجود من خلال حدود الإيروس10، أي وضع منطق اللذة في مقابل منطق العقل. ويؤكد ماركيوز على الأصالة الفلسفية لفرويد- التي تلغي من وجهة نظره الحدود الفاصلة بين الفلسفة وعلم النفس- فيشير إلى أن غريزة الموت عند فرويد هي المقابل لمبدأ العدم في الفلسفة، من حيث إنها تؤكد مبدأ اللاوجود أو نفي الوجود ضد إيروس الذي يؤكد الحياة والوجود، وأن هذا التداخل بين المبدأين في مذهب فرويد، إنما يؤكد على الامتزاج التقليدي في الفلسفة بين مبدأي الوجود واللاوجود11. وبالرغم من إعجاب ماركيوز الشديد بفرويد، إلا أنه قد استنكر استسلامه للفرضية القائلة بأن القمع هو شرط قيام الحضارة، ورأى ماركيوز أن الثمن الذي ندفعه مقابل هذه الحضارة ثمن لا يقارن. ومن هنا حاول ماركيوز أن يقول (بعكس فرويد) بإمكان وجود حضارة غير قمعية، بل وأقر بأن هذه الإمكانية ليست مجرد تأملات يوتوبية، بل إنها تتأسس على اعتبارين واقعيين أساسيين:
◅ الاعتبار الأول: هو أن نظرية فرويد ذاتها تدحض رفضه المتماسك حول إمكان وجود حضارة غير قمعية.
◅ أما الاعتبار الثاني: فيقوم على فكرة أن الحضارة القمعية ذاتها ستولد نفيها -تبعاً للمقولات الماركسية- من حيث إنها يمكن أن تخلق الشروط اللازمة لانحلال القمع تدريجياً. ولكي يبرهن ماركيوز على آرائه حول إمكان وجود حضارة غير قمعية، فإنه يلجأ إلى الكثير من أصحاب الفلسفات النقدية، التي رأى فيها آفاقاً جديدة لنظام خالٍ من القمع، ونخص بالذكر من هؤلاء: نيتشه وفورييه وفريدرك فون شيلر، ممن اعتبرهم ماركيوز أنبياء هذا النظام الجديد. وقد استهدف ماركيوز من وراء معالجته لهؤلاء المفكرين الثلاثة الكشف عن الأفكار والإشارات التي تنم عن دعوتهم إلى الاحتجاج الجنسي وتأكيد الدافع الشهواني12.
ويتفق ماركيوز مع شيلر تماماً في أن هناك صراعاً لا يهدأ بين القطبين الأساسيين لدوافع الإنسان الأساسية: وهما الدوافع الحسية، والدوافع الصورية (أي التي تنتمي إلى العقل)، ويشاركه الرأي في أن مرض الحضارة يتمثل في أنها قد حللت هذا الصراع بطريقة عنيفة من خلال "إقامة الطغيان القمعي للعقل فوق الحساسية". ومن ثم فإن إعادة التوافق والتصالح بين العقل والحساسية لا بد من أن يتم إلغاء هذا الطغيان القمعي، وهذا يعني منح الحساسية حقوقها المسلوبة، لذلك يمكن القول إن: "الحرية ينبغي البحث عنها عبر انعتاق الحساسية وليس عبر انعتاق العقل"13.
وفي نهاية المطاف يؤكد ماركيوز من خلال التحليلات التي قام بها، إلى ضرورة تجاوز هذه الثنائية وإحداث نوع من التوازن بين السعادة والعقل، أو بين الفكر واللذة خاصة، وأن السعادة هي الأرض المشتركة التي يتعانق فيها ما هو حسي وما هو عقلي، وتلتقي حرية الارتواء الجنسي بحرية التأمل العقلي14. ومن جهة أخرى فإن ماركيوز يضع لوغوس وإيروس على مستوى واحد من حيث قدرتهما على السلب والرفض، وتقويض سلطة النظام القائم، وفي هذا المجال يقول ماركيوز: "إن لوغوس وإيروس... يشيران إلى نمطين من السلب، فالمعرفة الإيروسية مثلها مثل المعرفة المنطقية كلتاهما يحطم أسطورة الواقع العرضي القائم، وينزع نحو حقيقة متعارضة مع هذا الواقع... إن لوغوس وإيروس يعبران في ذاتهما عن وحدة الإيجاب والسلب، والخلق والهدم. ففي مطالب الفكر وجنون الحب يمكن الرفض الهدام لأساليب الحياة القائمة"15.
بالمقابل نجد بأن دعوة ماركيوز للتحرر الجنسي تتعارض مع النظرية الماركسية، فهو وإن كان قد جعل القمع الجنسي أساساً للتحرر الاجتماعي إلا أنه لم يجعل التحرر الجنسي أساساً للتحرر الاجتماعي، وفي هذا يقول ماركيوز: إن "فيلهلم رايش16 "كان على حق في تأكيده على أن جذور الفاشية تكمن في القمع الغريزي، لكنه كان على خطأ حينما رأى الجنسي الباعث الرئيس لقهر الفاشية. إن التحرر الجنسي يمكن أن يصل لأقصى حد دون أن يهدد النظام الرأسمالي في شكله المتقدم. وعند هذه المرحلة لا يصبح انعتاق الغرائز قوة تحرر اجتماعي إلا بقدر ما تتحول الطاقة الجنسية إلى طاقة إيروسية موجهة إلى تغيير نمط الحياة على النطاقين الاجتماعي والسياسي"17.
خلاصة القول، على الرغم من أن ماركيوز يبدو كما لو كان يتجاوز ماركس، الذي ظل تفكيره محصوراً في نطاق مبدأ العمل والعدالة، ليستمد مقومات حضارة المستقبل من فرويد، الذي استطاع أن يجعل لمبدأ اللذة والسعادة مكانة رئيسية في تفكيره، فإنه في واقع الأمر يتخطاهما معاً، لأنه يضيف إليهما عناصر تنتمي إلى صميم عصرنا الذي يتميز بتطورات لم يستطع كل من المفكرين الكبيرين أن يتنبأ بها تنبؤاً دقيقاً.
لقد أصبح في استطاعة الإنسان، لأول مرة، أن يحيا حياة خلت من الكبت، ويقف عن غرائز الحياة موقف الإيجاب المطلق. وعلى حين أن الإيروس والحضارة كانا منفصلين، بل متضادين عند فرويد، فإن ظروف المجتمع الحالي تتيح، في رأي ماركيوز، الجمع بينهما من أجل إقامة حياة إنسانية مكتملة العناصر، يتحقق فيها التوافق التام بين مختلف جوانب الطبيعة البشرية18
ففي حضارة الإيروس هذه تصبح للخيال الغلبة على العقل، ذلك لأن العقل كان الأداة الرئيسة في يد حضارة الكبت والقهر، وهو الذي أتاح للمجتمع الصناعي أن يحقق أعظم انتصاراته في ميدان الإنتاج، وأن يتسلط على كل جوانب الإنسان ويوجهها في خدمة أغراض الربح والتوسع الاقتصادي. لذلك كان من الضروري استعادة التوازن بين الإيروس واللوجوس لحساب الأول، ولكن دون إنكار تام للثاني. وعلى هذا النحو وحده يصبح الإنسان كلي الجوانب بعد أن كان من قبل أحادي الجانب19.
وهكذا يظهر ماركيوز هنا على أنه مفكر آخر من دعاة "العودة إلى الطبيعة"، ومن أنصار رد اعتبار الحب والخيال والعاطفة إزاء طغيان العقل. والفارق الوحيد بين دعوته إلى اتخاذ القيم الجمالية هدفاً أسمى للحياة الخالية من الكبت، وبين دعوة أنصار العودة إلى الطبيعة التقليديين، هو أن هؤلاء الأخيرين يحلمون بالطبيعة البسيطة الساذجة، والبدائية في بعض الأحيان، على حين أن نزعة ماركيوز الطبيعية ملائمة لعصر التكنولوجيا الرفيعة. والواقع أن نزعات العودة إلى الطبيعة كانت، في كل العصور، رد فعل ساخطًا على المجتمع القائم، وكانت تتشكل وفقاً لطبيعة هذا المجتمع. ومن هنا فإن هذه النزعة قد اتخذت عند ماركيوز شكلاً جمالياً حسياً، يقوم على أساس الوفرة التي يحققها مجتمع شيوعي (بالمعنى العام)، يسوده شعار "من كل حسب قدراته، ولكل حسب حاجته". ووسيلة استعادة الوحدة الأصلية المفقودة بين الطبيعة والإنسان، هي سيادة مبدأ اللذة، وسيطرة القيم الجمالية20.
الهوامش
1. هربرت ماركيوز: العقل والثورة، ترجمة: فؤاد زكريا، الهيئة المصرية للعامة للتأليف والنشر، القاهرة، ط1، 1970، ص: (23).
2. المرجع السابق نفسه، ص: (24).
3. يعني لوغوس العقل بالمعنى اليوناني، الذي يبرز باعتباره منطق السيطرة، أو باعتباره ماهية الوجود.
4. لمزيد من القراءة والاطلاع انظر- مطاع الصفدي: نقد العقل الغربي (الحداثة ما بعد الحداثة)، القسم الثاني: القوة القووية، الفصل الثاني: لوغوس/ إيروس، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990، ص: (107-127).
5. يعني الارتواء الغريزي (بخاصة الجنسي) وكذلك الإدراك الحسي وتصوره (أي الإحساس).
6. Herbert Marcuse: Eros and Civilization - A Philosophy Inquiry Into Freud, Allen Lane .The Penguin Press, London.1970, p.(132).
7. هربرت ماركيوز: الحب والحضارة، ترجمة: مطاع صفدي، دار الآداب، بيروت، ط2، 2007، ص: (124).
8. المرجع السابق نفسه، ص: (19).
9. علم الوجود، وموضوعه الوجود المحض، أو وجود الشخصوماهيته، أو الموجود من حيث هو موجود، أو الموجود في ذاته مستقلاً عن أحواله وظواهره .
10. يمكن القول إن للأسطورة مكانة خاصة عند علماء النفس، وبخاصة فرويد الذي قال إن لها ارتباطاً وثيقاً باللاشعور، وإنها تعبير غريزي عن الرغبات المكبوتة، وهي تظهر إلى الوجود عندما تتاح لها الشروط المناسبة. ويعتقد فرويد أن الأسطورة ترتبط بالنفسية الطفولية للإنسان.
11. هربرت ماركيوز: الحب والحضارة، مرجع سبق ذكره، ص: (139).
12. Herbert Marcuse: Eros and Civilization- A Philosophy Inquiry Into Freud, op.cit, p. (24).
13. هربرت ماركيوز: الحب والحضارة، مرجع سبق ذكره، ص: (208).
14. Herbert Marcuse: Eros and Civilization- A Philosophy Inquiry Into Freud, op.cit, p. (154).
15. هربرت ماركيوز: الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، ط3، 1988، ص: (168).
16. فيلهلم رايش (1897 - 1957) هو طبيب نمساوي ومحلل نفسي، من أعضاء الجيل الثاني من المحللين النفسيين بعد سيغموند فرويد. ألف العديد من الكتب المؤثرة، أبرزها: تحليل الشخصية (1933)، وعلم النفس الجماعي للفاشية (1933)، والثورة الجنسية (1936)، وعُرف رايش على أنه واحداً من أكثر الشخصيات راديكالية في تاريخ الطب النفسي. ساهمت أعمال رايش حول موضوع الشخصية في تطوير آنا فرويد لكتابها الذي يحمل عنوان «الأنا وآليات الدفاع» (1936)، كما شكلت فكرته " الدرع العضلي " (التعبير عن الشخصية من خلال طريقة حركة الجسم) عدد من الابتكارات مثل العلاج النفسي للجسم، العلاج الجشطالتي وتحليل الطاقة الحيوية والعلاج البدائي. وفي النهاية، أثرت كتابات رايش على أجيال من المثقفين، ويُنسب له صياغة مصطلح " الثورة الجنسية ". وكتب الطلاب اسمه على الجدران خلال انتفاضاتهم عام 1968 في باريس وبرلين، وألقوا نسخاً من علم النفس الجماعي للفاشية على الشرطة.
17. Herbert Marcuse: Counter - Revolution and Revolt, Beacon Press, Boston, 1972, p.(130).
18. فؤاد زكريا: هربرت ماركيوز، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2020، ص: (44).
19. المرجع السابق نفسه، ص: (45).
20. المرجع السابق نفسه، ص: (48).