هزائم غير معلنة

شريفة البدري

تكرهينها حدّ الرّغبة في القتل. ولا تعتبرين وجودها في حياتك غير باب ريح. تتربّصين بها. تقصّين أجنحة كلماتها وتبترين أطرافها. تفعلين ذلك بلا سبب واضح في أغلب الأحيان. يجنّ جنونك كلّما شاهدتها عاكفة على الكتابة. هي لا تخشى شيئاً كما تخشى الفقر اللّغوي. تقول لك دائماً:
- فقر الدّم أهون من فقر اللّغة.

تستهويك مخاتلتها، فتحرّضين اللّغة عليها. تستجيب لك اللّغة وترفض أن تتّسق في كلمات ذات دلالة. وتمعنين في إحباطها، فتحاولين إقناعها بأنّ كلّ الكلام الجميل قد قيل، وأنّ الشّطحات المدهشة قد سبقها إليها آخرون، وأنّ اختيار فعل الكتابة في هذا الزّمن المتأخّر صراع دونكيشوتيّ بامتياز. وتختمين قائلة:
- استهلكتم اللّغة حدّ الاستنزاف، فأنتم أكثر من شعر الرّأس. دعوها وشأنها، لم يعد لديها ما تدهشكم به.

أنت تقولين لها ذلك منذ سنوات، لذلك هي لا تأخذ كلامك على محمل الجدّ.

تهرب من سلبيّتك إلى القطعة الموسيقيّة التي سجّلتْها على هاتفها لهذا الغرض. فهي تعتقد أنّك لن تقاومي معزوفة "الرّاعي الوحيد" لجورج زامفير، وستشردين معها في مفازة بكر حتماً.

تنصتين معها إلى المعزوفة. تستفزّك عندما تغمض عينيها وتطلق العنان لخيالها، فتستيقظ أحقادك القديمة، وتذكّرينها بطفولتها المهدورة في حقول القرية، بالأغنام التي تسبقها إلى الحقل وتنغمس في قضم العشب بشراهة وهي تراقبها بانتباه شديد، وتهشّ بالعصا على كلّ شاة تخوّل لها نفسها التّفكير في قضم غصن زيتون، بالعشب عندما يشحّ في أيّام الصّيف القائظة، فتصبح شجيرات الحقل القليلة هدف الأغنام الأشهى، فتركض خلفها في كلّ الاتّجاهات، فما تكاد تنقذ غصناً من أسنان شاة حتّى تهرع أخرى في الاتّجاه المعاكس وتقضم غصناً آخر، بأمنيتها الملحّة أن يتوقّف النّاس عن غراسة الزّيتون حتّى تصبح مهمّة الرّعي أسهل.

يدهشك أنّها لا تصغي إليك فتقرئين بصوت مرتفع ما تكتب:
- أنا الآن خفيفة وفارغة. أستطيع أن أتقمّص دور غبار الطّلع أو رائحة الخزامى، أو ربّما أختار أن أعوي كذئب وحيد.

يحزنك أنّك لن تنجحي في تشتيت انتباهها هذه المرّة أيضاً. تبحثين عن حلّ جذري، فتفتحين التّلفاز وتقحمينها في أخبار القتلى والجرحى وفي صور الأشلاء المطلّة من تحت الأنقاض. تنتظرين انشغالها بمشاهدة شريط الأنباء وتتسلّلين إلى أوراقها، وتمزّقين كلّ ما كتبت في لحظة حقد غير مسبوقة. تتفطّن إليك فلا تحقد عليك ولا تتوجّع، بل تتوجّع زيتونات الحقل وعصافير الدّوري وبقع الحبر.

تعييك الحيل. فتقرّرين التّخلّص منها وتنتظرين أن تسنح الفرصة. ثمّ تأتيك الفرصة على طبق من ذهب.

تسمعين ضجيجاً في أسفل البناية صباحاً، فتغادرين الغرفة كي تستطلعي الأمر. تصلك الأصوات المحتجّة عليها:
- إنّها مختلفة عن نسائنا، واختلافها مستفزّ.

- تقول: إنّ نهاراتنا وقت مجفّف.

- تدّعي أنّ اهتماماتنا سطحيّة وأحاديثنا جوفاء.

- وتسأل عن طائر يأتي في الظّلام كي يعاين الوجود.

لا تكفّ الاحتجاجات إلاّ عندما يطلب أحد حكماء المدينة حلا للمشكلة.

فتتحمّسين وتدلين بدلوك:

- نطعنها بالخوف كما طعنتنا بالأسئلة.

يفرح حكماء المدينة باقتراحك، وينصّبونك رقيبة على أحلام المارقات.

تلملمين نظراتك المنكسرة بعد ذلك، وتعودين إلى غرفتك دون أن تخبري أحداً أنّ المرأة التي طُعنت للتّو أنت.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها