الصّوفية أفقاً للإبداع الشّعري 

الشاعرة أمينة المريني أنموذجاً

نصر الدين شردال



 


على سبيل التّقديم 

تعدُّ الشّاعرة أمينة المريني من أهمّ الشّاعرات المغربيات والعربيات الأكثر حضوراً في السّاحة الأدبية العربية المعاصرة، إذ ما قبل ديوانها الشّعري الأول، وهي تواصل تشييد عوالمها الشّعرية المتفردة، والماتحة أساساً من مرجعيات ثقافية متعددة، ومروراً بـدواوينها "ورود من زناتة 1997"، و"عاشقة"، و"حرة في ظلال الإسلام 1998"، و"المكابدات 2005"، و"المكاشفات 2008"، و"منها تتفجر الأنهار 2009"، "سآتيك فرداً 2001". وليس انتهاءً بـ"خرجت من هذه الأرخبيلات 2015"، و"من أوراق الحلاّج الآخر 2016" ثمّ جُمعتْ هذه المجموعات الشّعرية "غير" الكاملة في مجلد موسوم بـ"من نبعك الملكيّ هذا الشّذا 2016"، عن دار مقاربات للنشر والصّناعات الثّقافية بفاس- المغرب (2016).
وتجربتها الشّعرية من أهمّ التّجارب العربية الّتي بدأت في التّبلور مع نهاية السّبعينيات وبداية الثّمانينات من القرن الماضي، والّتي خرجت بالقصيدة من ضيقها الإيديولوجي إلى رحابة التّصوف وإشراقاته العرفانية، حتى غدا معروفاً على الشّاعرة اتخاذها لهذا الخط الجمالي الذي انتهجته، وقد زاد من هذا لغتها الصّوفية الأنثوية الرّقيقة والمناسبة في صياغة شجية وجدانية ساحرة.

هذه هي أمينة المريني في تجربتها الشّعرية انشداد إلى الرّوح العربية، وإلى القصيدة العربية الأصيلة، في لغتها المتينة، وهندستها الإيقاعية المحكمة، تكتب القصيدة العمودية، والتفعيلية، وتؤمن أن هذه الأنماط لم تستنفذ طاقتها بعد، بالإضافة إلى ذلك، تتميز بخاصية وهي انشغالها بالإنسان، وقدرتها على الإنشاد الشعري الذي يغدو امتداداً لكتابةِ وتخلّقِ القصيدة ومَسْرحتهَا شكلاً ومضموناً وفق تصورٍ إسلامي للكون والحياة والإنسان.
ولا نجانب الصّواب النقديّ إذا قلنا: تتجلى في حياة الشّاعرة حكمة الأديب الفرنسي (بوفون) "لكي يُجيدَ الإنسان الكتابة فعليه أن يجيد الإحساس والتفكير والحديث" وأضيف الإنشاد الشّعري، فالإنشاد الشعري لطالما عدّ في ثقافتنا العربية مكوناً جمالياً لا ينفصل عن القصيدة.

:: في البدء كان الشِّعر ::

يرجع الفضل إلى البيئة الدّينية والرّوحية -التي عاشت فيها الشاعرة- في توجهها نحو الكتابة الشّعرية الصّوفية أولا، ثمّ القراءة للموروث الصّوفي والشّعري عامة.
وفي هذا الصدد تقول الشّاعرة: "أَزْعُمُ أنني متخصصة في الكتابة الصّوفية ذات الجذور الدّينية الصّريحة… وتلك نتيجة حتمية، فأنا عشت في بيئة محافظة.. وجو فاس الرّوحي ألهمني كثيراً وشكل تجربتي، أنا مفتونة منذ الطفولة بالمساجد... مفتونة بالمآذن وبالمزارات وبطقوس رمضان والعِيدين... كما أن النّص الصّوفي هو حنيني إلى المطلق ومركبي للبحث عن الجمال الأعلى."1. وهذا الأثر ليس فقط على التجربة الشعرية فحسب، بل حتّى على مستوى الحياة الشّخصية والاجتماعية، حيث نجد أنها "آثرت البساطة والقناعة لذلك لم تُتْعِبها مغريات الحياة، فعاشت مترعة بالرضا، امتدت قناعتها لتشمل كل حياتها، فلم تتملق ولم تتسلق، ولم تتساقط كالفراشات أمام الأضواء..."2.
يلاحظ أن تأثر الشاعرة بالصوفية يتخذ اتجاهين: اتجاه في السلوك، واتجاه في الإبداع.
 

مفهوم الشِّعر عند الشاعرة

 يبدو لنا من خلال تتبعنا للنظر النقدي والتنظري للشاعرة -على قلته- أنها استطاعت أن تعطي مفهوماً للشعر، يتجلى في كونه: "صقلاً للروح واجتياحاً للمطلق، وتجاوزاً لصدأ الوجود"، ولا تخفي الشاعرة "أن أصعب أنواع الكتابة الشعرية هي أن يكتب الشاعر نصاً صوفياً، خصوصاً إذا كان صادراً من مكابدات حقيقية لتجربة حياتية بحتة، فهو لحظة توتر بين الذات والآخر، بين الآني والآتي الأبدي، وبين المكان المحسوس والمكان اللامادي الموعود..."3.
هكذا، إذن تبدو لنا نظرة الشاعرة للشعر وفهمه، وإن كانت رؤيتها له من داخل القصيدة أكثر بهاءً ووضوحاً، والتنظير للشعر من داخل القصيدة عند أمينة المريني يحتاج دراسة خاصة.

التّجربة الشّعرية والتلّقي النّقدي

لقد تلقّى تجربتها الشّعرية المتجددة مجموعة من النقاد والدّارسين والباحثين، فما أكثر الدراسات النقدية التي تناولت التجربة الشعرية للشاعرة أمينة المريني بالنقد والتحليل والدراسة الجادة، خاصة في جانها الصّوفي، نشير هنا إلى كتابات كل من أمجد رشيد، يحيى عمارة، عبد اللطيف الواري، جمال بوطيب، محمد نفاذ... حتّى إنّ قارئ شِعرها "أَلِف ألا يقرَأَهُ خارج منزعه الصّوفي"4.

في مفهوم الصّوفية

كثيرة هي التّعريفات التي أعطيت لمفهوم الصوفية في علاقتها بالشعر، وإن كنا نرى أن مفهوم الشاعر د. محمد السرغيني أكثر ملاءمة: "الصّوفية فسيفساء تشكيلية تقوم عليها بعض الصور الشّعرية، فهي بذلك شكل إبداعي، ومكون من مكونات الخطاب الشعري... الصوفية رؤية وجدانية يتمّ عبرها النّظر إلى الكائن الإنسانيّ من الزّاوية الرّوحيّة. لم تكن الصّوفية تواكلا بل حركة. ولم تكن قداساً وطقوساً وشعائر، بل رؤية للعالم من العمق وفي العمق وإلى العمق"5.
إنّ هذا التعريف للصوفية في نظري هو أجلّ وأعمق تعريف للصوفية المعاصرة في علاقتها بالشعر؛ لأنها صادرة عن شاعر وناقد وباحث خبر مجاهل الكتابة.

شعرية اشتغال اللّغة الصّوفية

لغة التصوف "ليست واحدة، فهناك لغة النفري ولغة ابن الفارض، ولغة الحلاج ولغة ابن عربي، وكذلك لغة أبي حيان التوحيدي"6، واللّغة الصّوفية هي تلك اللّغة الوافدة من مجال التّصوف شعره ونثره وسلوكه إلى الإبداع الأدبي على اختلاف أجناسه، ولعلّ الشعر هو الجنس الأدبي الأكثر استقطابا لها، كما أن أغلب المتصوفة كانوا شعراء كالحلاج، رابعة، ابن الفارض، محي الدين ابن عربي... وقد تجلت واضحة لدى شعراء العرب المعاصرين.
ويرى الناقد د. يحيى عمارة أن الشاعرة "تستوحي معجمها وصورها وتراكيبها من اللغة الصوفية التي لا تطلق منها إلا صوراً، وهي تعبير عن جموح الخيال للبحث عن المطلق في الأشياء والأمكنة والشخصيات والذات والكون"7، غير أنّ اللّغة الصّوفية في شعر الشّاعرة لا تمتح من معين واحد، بل متعدد ومتجدد، تقول الشّاعرة:
"مددتُ يدي إلى الأيام ألحقها 
فطارت في فراشات 
لهيب الرقص أحرقها"

في هذا المقطع الشّعري يبدو لنا التّناص الصّوفي واضحاً من خلال اللّغة الصّوفية الّتي تستمدها الشاعرة من حكاية فراشات فريد الدين العطار التي جاءت في كتابه "منطق الطير"، التي يتحدث فيها عن الفراشات الثلاث وطوافها حول النار.
فمن لغة فريد الدين العطار إلى لغة الحلاّج، حيث تنصهر الشّاعرة مع الحلاج وتتخذ منه ومن لغته قناعاً للتعبير عن رؤيتها وعشقها الصوفي:
"أنا الحلاّج يا أمي
فهاتي بُردة التّقوى
أنا العشيق يا أمي 
اسلكي بي جنة المأوى"

ثم تنتقل بنا الشاعرة إلى العالم الصوفي لعبد الجبار النّفري من خلال لغته في كتابه الجميل "المواقف والمخاطبات"، حيث تحتفي ببعض الكلمات الصوفية لهذا الصوفي الكبير، خاصة "أوقفني" "خاطبني" أو " قال لي":
"أوقفني بباب البحر
قال: هنا 
تكون شهيداً 
فقلت: أنا 
بحار من دموع الشّوق والتسهيد"

وفي السّياق نَفْسهِ، والمرجعية نفسها، تستوقفنا لغة النّفري الثاوية في نسيج بعض القصائد، خاصة قولته المشهورة: "كلما اتسعت الرؤيا، ضاقت العبارة" هذه الجملة المكثفة والصّوفية العميقة لها حضورٌ قويٌّ في المتن الشعري المغربي المعاصر، كما نجدها عند الشّاعرة:
"أنا العبارةُ
لي من ضيقها أجل 
ومن رؤاها 
استعارتي وتجنيسي"

نلاحظ أنّ الشّاعرة حافظت على بعض الكلمات كما وردت في القولة، وهي "العبارة" و" الضيق" "الرؤيا" وهي مستمدة من لغة النفري وقولته المشهورة، لكنها جددت فيها بما يناسب دفقتها ورؤيتها الشّعرية.

من خلال هذه المقاطع التي اقتطفناها من قصائد متفرقة من عمرها الشعري، التي رصدنا فيها تجليات اللغة الصوفية في نسيج القصيدة للشاعرة، يتبين لنا أن اللغة الصوفية مكون أساسي من مكونات لغة القصيدة، فالشاعرة تستمد وتنحت من لغة المتصوفة لبناء صرح قصيدتها اللغوي، وهي لغة رقيقة وعذبة تتماشى مع رقة الشاعرة، والشاعرة لا تستمد من لغة متصوف واحد، بل نجد لغتها تتداخل فيها لغة الحلاج مع لغة النفري ولغة فريد الدين العطار.

استدعاء الشّخصيات الصوفية

تبدو ظاهرة استدعاء الشخصيات الصوفية التراثية في شعر أمينة المريني ظاهرة مقلة في دواوينها الأولى، فهذه الظاهرة الجمالية لم تتجل واضحة إلا في ديوانيها الأخيرين، "خرجت من هذه الأرخبيلات" (2015)، "من أوراق الحلاج الآخر"(2017). وهذا في نظري راجع إلى أن استدعاء هذا التراث لم يتلاءم مع تجربتها الشعرية الأولى؛ لأنها بدأت بكتابة الشعر العمودي، كما أن الشعر الحر، أو تجربة الشاعرة في حداثتها توافق هذا التوجه الجمالي.
وسنقف في هذا الصدد على قصائدَ من ديوان "خرجت من هذه الأرخبيلات" لأنه محطة رئيسة في تجربتها، مع الكشف عن التجليات الجمالية للشخصيات الصوفية في نسيج القصيدة وشعريتها.
"سلاماً 
للفتى الموّاج
ينشر ضحكة
وسناه 
ويطفر في المدى
زهواً 
يناغي ظله ودُمَاهْ...

تفتتح القصيدة بالسلام على روح الشاعر والصوفي "الحلاج" الغائب الحاضر، بصفة الفتى رمزاً للفتوة والتجدد.
ولعل أهم خاصية ينبغي الإشارة إليها، هي تلك الدهشة الجمالية التي تصيب قارئ القصيدة لأول مرة، حيث يتخلص من الحمولة الثقافية التي يعرفها عن الحلاج، فالحلاج شخصية شعرية وصوفية عاشت ببغداد في العراق في بداية القرن الرابع الهجري، فكيف يخرج إلى جسر الرصيف؟ الّذي هو حي من الأحياء القديمة بمدينة فاس، يربط بين المدينة القديمة والسّاحة التّجارية الّتي تشرف على المدينة القديمة، إنها خلخلة أفق توقع القارئ.

وعبر التخييل والرؤيا الشعرية الكاشفة، تنقل لنا الشاعرة رؤيتها للحلاج على جسر الرصيف وهو يجري وثاباً، ومنبهراً من هذه المدينة المسرعة الخطو نحو الخبز والمؤونة، المسرعة الخطو نحو الموت، على حد تعبير الشاعر صلاح عبد الصبور تقول الشاعرة:
"أراه الآن
عند الجسر وثابا
ومنبهراً يغني للنهر
أغنية 
ترش مع الصدى مطراً
... كأنه ما يزال هنا
غريقاً في النبوءات"

إنها رؤيا راهنية وآنية، لشخصية تراثية، تبعث فيها الروح الأدبية والشعرية من جديد، وتجعلها قادرة على المشي بيننا، ومن هنا فإن استدعاء هذه الشخصية وتحريكيها في مكانين متجاذبين: المدينة القديمة/ المدينة الجديدة، والتأكيد على صيغة "الخروج" بما هو انتقال من القديم إلى الجديد، ومواكبة العصر، والخروج هنا؛ تحرر وانعتاق، الخروج بالحلاج من رفوف التراث إلى واجهات الحداثة، وإلباسه لباساً عصرياً للتأكيد على بعض القيم الدينية والروحية التي افتقدتها هذه المدينة.

ومع تقدمنا في القصيدة تظهر لنا صور الحلاج المتعددة كما رسمتها لنا كتب التاريخ والسير والأدب، وهذا ما تجلى في هذا المقطع الشّعري:
"هو الإنسان 
والنّشوان 
والزّنديق 
والنّاسك
هو المجذوب 
والحلاّج
أومض في الدّجى الحالك 
هو المخضر بالبلوى
 إذا عَرَجَتْ خطى السّالك..."

تقدم لنا الشاعرة صوراً مختلفةً ومتعددةً لشخصية الحلاج المثير للجدل، ولفهم الأمر أكثر، لا بدّ من ربطها بقولة لابن الجوزي حتّى تتبين لنا المقصدية: "إنّ الحلاج كان يتلون مع كل طائفة حتى يستميل قلوبَهم، وهو مع كل قوم على مذهبهم، وإن كانوا أهل سنة أو شيعة أو معتزلة أو صوفية أو حتى فساقاً، دون أن يفهموا النّظرة الفلسفية للحلاّج والّتي ترى جوهر الإنسان وليس ظاهر سلوكه"8.

وفي المقطع الثامن من القصيدة (الحلاج يخرج إلى جسر الرصيف) تتغير مجريات الأحداث والمعاني، حيث يوقفها ويحدثها:
"وأوقفني 
بباب البحر
قال: هنا 
تكون شهيداً
فقلت: أنا 
بحار من الدموع والتسهيد"

فهل هذا هو الحلاج، أم ماذا؟ فلفظتي "أوقفني" و"قال لي" تحيلنا في حقل التصوف إلى الصوفي الكبير محمد بن عبد الجبار النفري العراقي، من كبار الصوفية والذي عاش في القرن الرابع الهجري، والمعروف بكتابيه "المواقف" و"المخاطبات"، فهل امتزجت شخصية الحلاج بالنفري، أم أن الحلاج نطق بمنطوق النفري؟
ومهما يكن فإن هذه تقنية فنية جديرة بالملاحظة، وهي المزج بين شخصيتين صوفيتين تقتربان في مجموعة من الخصائص، وشحنهما بدلالات ومعاني جديدة تجعلهما قادرتين على مسايرة حداثة العصر وتوَافق تجربة الشّاعرة في إشراقتها وعنفوانها.

غير أن شخصية الحلاج تبقى هي الأكثر حضوراً في شعرها باعتبارها الرّمز أو القناع الذي تلْبَسه الشاعرة وتعبر به عن مكنون ذاتها:
"أنا الحلاّج يا أمي 
فهاتي بردة التقوى 
أنا العشيق يا أمي
اسلكي بي 
جنة المأوى"

ولا يقف هذا التعبير في هذا الحد، حد الاستدعاء، بل، حد الحلول الصّوفي في الشّخصية المستدعاة، حيث يصبح هو هي، وهي هو، (أنا الحلاج) عبر استخدام الأنا المتكلم، مما لا يترك لنا مجالا للتأويل خارج السياق، تأكيداً بشعر الحلاج:
"أنا من أهوى، ومن أهوى أنا .. نحن روحان حللنا بدنا"

 وتكون الغاية من هذا التوظيف هي غاية جمالية شعرية، وغاية روحية هي الاقتداء بهذه الشخصيات الصوفية في الصبر والمكابدة والتضحية والمحبة... من أجل التقوى وجنة المأوى، وقد وفقت الشاعرة في جعل هذا المقطع ذروة القصيدة ونهايتها الحلولية.

يتبين لنا من خلال المقاطع الشعرية السابقة، مدى قدرة القصيدة على التوثيق وإعادة التأريخ ورسم صور الحلاج المختلفة باختلاف حياته.

هذا هو الحلاج من خلال شعرية أمينة المريني، حيٌّ في القصيدة والوجدان، يتلألأ نوراً رغم بعد المسافة الزمكانية:
"مشكاة بيتك يا حلاّج وهّاجهْ
من يخرق البيت إن أحكمت مزلاجهْ؟
....
واخرج وقلبك مغسول بصعقتها 
حتى يرى الخلق في المعشوق حلاجهْ"

إن استدعاء الحلاج عند الشاعرة أمينة المريني، هو استدعاء واسترجاع لذلك التاريخ الصوفي والشعري الوهاج والمشرق عبر امتداد الأزمنة المتعاقبة عليه، الذي لم تستطع عوادي الزمن اختراقه، وظلّ مشعاً وهاجاً متموجاً في الروح وراسخاً في الذاكرة، ومن ثم فإن استحضاره في هذا الزمن المعدني اغتسالا للقلب من شوائب الدنيا، ومطلباً ضرورياً وروحياً للعشق والخلاص، وليس للشاعرة فحسب، وإنما للخلق كله.
هكذا، إذن، يتلاشى الرّبع وما عليه، ويبقى الحلاج كمطمح وجودي تطلبه الذات الشاعرة الموت عنده، وقد لا نخطئ الصواب إذا قلنا إن رمز الحلاج عند الشاعرة شكل من أشكال التّجليات الإلهية:
"تلاشى الرّبع في زبد
فلا طيف ولا صوت
وللحلاج ما يهوى 
حبيب عنده الموت"

في ديوان "من أوراق الحلاج الآخر" دلالة صريحة على الحلاج، ليس الحلاج المعروف تاريخياً وصوفياً وأدبياً، وإن كان يقترب منه في كثير من الخصائص، غير أن هاتين القصيدتين اللتين وقفنا عليهما، تجعلنا في غنى عن الديوان، خاصة وأنهما كتبتا في فترة متقاربة.

التّشكيل الشّعري بالحروف الصّوفية

في القصيدة الأولى من ديوان "المكابدات" (2015) "عزف منفلت من عزف منفرد على وتر الهاء"، والتي عارضت فيها قصيدة الشاعر عبد السلام بوحجر "عزف منفرد على وتر الهاء"، تقول القصيدة:
"والذي في النهى 
أملي المشتهى 
و(مها) بعضه 
مسها (كافه) 
(نونه) 
فاستوت لوحة أنطقت سحره"

يبقى الحرف عند الشاعرة أمينة المريني، شيء في النهى، غاية الشيء وآخره، في منتهى الأحلام والطموحات، يبقى أملها المشتهى الذي ترغب في الوصول إليه. ويتبين لنا من خلال هذا التحليل، أن الحرف يتخذ رمز الخالق/ الله، صاحب الأمر الأعلى "كن" الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، فيرسم لهذا الوجود وموجوداته لوحة ساحرة تنطق بجلاله وعظمته.
"وحبيبي قد همّه 
أن تلامس (لامه هاءه) 
أن يزدهي اسمه ألقا 
في البعيد.. البعيد.. البعيد" 

الحرف ليس مقصود الشاعرة وحدها، بل حتى حبيبها الذي كل همه أن يتجلى له الحرف المشرق في ظلمة الوجود، فتسعى "لامه" النافية والرافضة أن تلامس "هاء" المحبوب طمعاً في ألق وبهاء الحبيب المبتغى والمشتهى اللماع في البعيد البعيد.

وعبر التقطيع الحروفي لأوائل الكلمات تنسج الشّاعرة:
"م/: مقامك يغري قوافلك العاشقات متى أدلجت
و/: واحد، واحد خلف بياض الغياب، وزهو الحضور يود لو 
ت/: تتمرد بالطين المضمخ من عبق الرغام..."

وفي تعليق للناقد حمد نفاذ، أوّل "الميم" باختزالها المحبة الإلهية وعشق نورانية الله سبحانه وتعالى، و"الواو" بالوحدانية، و"التاء" بالوحدانية والحضرة الإلهية.

يبقى الحرف عند الشّاعرة أمينة المريني، أداة للتشكيل الإيقاعي والبصري في القصيدة، ومقامات توزع عليها البوح الصوفي الصّادق، وأعمدة ترفع عليها رايات الشّوق والبوح والبحث عن الجمال الأسمى.

على سبيل الختم 

لقد اجترحت الشّاعرة المغربية أمينة المريني نهجاً صوفياً خاصاً في القصيدة العربية والمغربية المعاصرة، يتجلى أساساً في انفتاحها على الموروث الصّوفي، لا بإعادة اجتراره، بل بعصرنته بما يوائم الذّوق والذائقة، وقد تجلى في شعرها أساساً في مزج لغة الشّعر بلغة التّصوف، واستلهام النّماذج المشرقة من شخصياته والتّعبير عنها وبها، واستعارة تقنيات وأساليب التّعبير في شعرهم ونثرهم، مع توظيف طاقات الحروف الصّوفية في التّشكيل الجمالي للقصيدة.. وبهذا أحدثت نقلة نوعية في القصيدة المغربية إبان الثّمانينيات عبر إخراجها من شرنقة التقليد والإيديولوجية، وفتح معابر القصيدة نحو التّجديد والبحث عن الآفاق الإنسانية النّبيلة، والحنين للمطلق والجمال الأعلى، واتخاذها (أي التّجربة الصّوفية) أفقاً جمالياً للتفكير والتّعبير الشّعريين.


لائحة المصـادر والمراجـع: 
1 ــ أمينة المريني: البقاء للشعرية الخلاقة، حاورتها فاطمة الميموني، مجلة روافد مغربية، عدد 26 سنة: 2016، ص: 28. / 2 ــ مرجع سابق، ص: 29. / 3 ــ أمينة المريني: من كلمتها في ختام حفل تكريمها من طرف حلقة الفكر المغربي بفاس، يوم 21 فبراير2015. / 4 ــ عبد اللطيف الواري: شعرية المابين في ديوان "خرجت من هذه الأرخبيلات" لأمينة المريني، مجلة روافد مغربية، عدد 26، سنة 2016، ص: 57. / 5 ــ محمد السرغيني: عن الشعر دائماً، منشورات دار ما بعد الحداثة، ط1، سنة 2003، ص: 5. / 6 ــ إبراهيم محمد منصور، الشعر والتصوف: الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر، (1945-1995) منشورات -الأمين- للنشر والتوزيع، ط1، 1996، ص: 302. / 7 ــ يحيى عمارة، وجهي وحيد الصفات: دراسات وشهادات في التجربة الشعرية للشاعرة المغربية أمينة المريني، مؤلف جماعي، منشورات مقاربات، ط1، 2016، ص: 16. / 8 ــ طه عبد الباقي سرور: الحسين ابن منصور الحلاج شهيد التصوف الإسلامي، المكتبة العلمية، القاهرة، ط1، 1961، ص: 112. / 9 ــ المقاطع الشّعرية الموظفة في الدّراسة تنتمي إلى دواوين عدة من مسيرة الشاعرة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها