هل ما زال بإمكان النّقدِ تغيير العالم؟

بقلم: كريستيان روبي Christian Ruby

ترجمة: عزيز الصاميدي


تتساءل فاني ليدرلين عن مدى قدرة النقد اليوم على الاضطلاع بدوره في التغيير، في ظل عالم متأزم يخضع لهيمنة ما بعد الحقيقة ونظريات المؤامرة. منذ القرن الثامن عشر وبروز حركة التنوير، أضحى الحس النقدي بمثابة محكمة كونية تدين الاستبداد والدوغمائية والظلم. حيث تفحص شروط إمكانية تحقق كل موضوع فكري، وتحيط بجميع مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية والشخصية، لتُميطَ اللّثام عن ما يعتريها من أوهام.

فاني ليدرلين من خلال إصدارها لهذا الكتاب الذي يحمل عنوان "النقد في أزمة" Critique en crise، تواصل التأمل الذي بدأته في أعمالها السابقة، لكنها هنا تولي اهتمامًا أكبر بـ"منهج" النقد. وتستند مقاربتها إلى مطلبين مزدوجين، موروثين كلاهما عن اثنين من كبار مفكري النقد في العصر الحديث: فالأمر يتعلق من ناحية بتأسيس المبادئ التي توجه النقد في ذاته كما قعّد لذلك كانط، ومن ناحية أخرى، بتوضيح الغايات التي توجه النقد وفق ما جاء به ماركس.

بالنسبة لماركس، يهدف النقد إلى تغيير العالم. وهذا هو جوهر الخطاب الذي تسعى المؤلفة إلى تمريره: هل تسببت الأزمات الاجتماعية والسياسية والبيئية التي نعيشها حالياً في أزمة للنقد جعلته عاجزاً عن أداء وظيفته؟ وبالعكس، هل تفاقم أزمة النقد من عجزنا عن رؤية الأزمات التي يمر بها العالم المعاصر؟ يراهن الكتاب على أن التفكير الدقيق في طبيعة النقد ودوره سيسمح بإعادة تنشيط طابعه الراديكالي وفعاليته.

النقد يمر بأوقات عصيبة:

على الرغم من أن ليدرلين لا تكتفي بإجراء جرد تاريخي للنقد منذ عصر التنوير، إلا أنها تتتبع محطاته البارزة. وتركز بشكل خاص على كارل ماركس، الذي أدخل تغييراً جذرياً على النقد بتوجيهه نحو تغيير فعلي للواقع. حيث تذكرنا "الأطروحة الحادية عشرة حول فيورباخ"؛ أن النقد لا يجب أن يقتصر على "تفسير العالم" (أو وصف ما هو موجود)، بل يجب أن "يغيره" (أو يحقق ما ينبغي أن يكون).

ومع ذلك، لا تكتفي المؤلفة بهذه الملاحظة، بل تشرع في تقييم الحالة الراهنة للروح النقدية، في سياق يتطلب فيه الواقع الاجتماعي والسياسي تغييرات كبيرة. وتؤكد أننا "نعيش حالياً حركة رجعية قد تثير المخاوف من بزوغ "أزمنة مظلمة" جديدة". لكي توضح لنا فيما بعد ما تقصده بهذه العبارة: "تجدد الأصولية الدينية، وانتشار الإرهاب، وتأجيج النزعات القومية، وتجدد النزاعات المسلحة، وتفشي مشاعر كراهية الأجانب والعنصرية، وعودة معاداة السامية، وتقدم اليمين المتطرف، ناهيك عن وصول قادة شعبويين إلى السلطة...". في هذا السياق، تصبح ممارسة التفكير النقدي أمراً حساساً للغاية.

ووفقاً للمؤلفة؛ فإن التهديد الرئيس الذي يحيق بمجتمعاتنا ويحول دون ممارسة النقد البناء يكمن في هيمنة حسابات المصالح. فهذه الحسابات تطغى على العقل وتغلب على النقاش العام. هذا الانتصار للعقلانية المنحرفة، الذي يُلخص أحيانًا بمصطلح "ما بعد الحقيقة"، يشجع على إقامة نظام ظالم يُطلب منا التكيف معه (كما توضح ذلك أعمال باربرا ستيجلر). وباستنادها إلى تحليلات حنة أرندت، تحلل ليدرلين آثار منطق الحساب والتلاعب هذا. وهي تسلط الضوء على الأشكال المعاصرة للوحدة والتفكك واليأس، فضلاً عن سيطرة الأكاذيب الحكومية والتشويه الإعلامي. وتخصص صفحات مهمة بشكل خاص للانحرافات التي نشهدها على شاشات التلفزيون والشبكات الاجتماعية وبعض الأماكن العامة: بين نظريات المؤامرة والأصولية، والتطبيع مع الكذب وتحوير الكلام.

النقد في مواجهة نفسه:

لكن بالنسبة للمؤلفة، لا يجب علينا أن نكتفي باستنكار أزمة النقد هاته؛ بل إننا مطالبون بإخضاع النقد نفسه لفحص نقدي. ما الذي يمكن أن تقدمه طريقة النقد والسلوك النقدي الموروثين عن عصر التنوير؟ وما الذي لا زال بإمكان النقد أن يفعله؟

يتساءل الكتاب عن مسؤولية النقد في الاضطرابات التي يشهدها العالم المعاصر "ألم يكن النقد متواطئاً في الاضطرابات التي شهدها العالم منذ زمن طويل، ولاسيما في الآونة الأخيرة"؟ وتشير الكاتبة إلى الانحرافات التاريخية للنقد، لاسيما في ظل الإرهاب الثوري والأنظمة الشمولية في القرن العشرين. ثم تميز بين الرغبة في فهم العالم والادعاء بإعادة تشكيله وفقًا لعقلانية شمولية، لتتفق هنا مع أطروحات مدرسة فرانكفورت.

لكن النقد لا يمكن أن يقتصر على منظور غربي. تستكشف ليدرلين مساهمات تقاليد فكرية أخرى، طالما تم تهميشها: الرؤى النقدية القادمة من الشرق، والمناطق الاستوائية، أو تلك التي حملتها شخصيات يوتوبية، أو بديلة، أو مهزومة، أو منفية. وتسلط الضوء على التوترات بين ادعاء النقد الأوروبي بالكونية والاعتراف بتنوع التجارب وأشكال الفكر. وهذا يقودها إلى إشكالية: كيف يمكن الخروج من الإمبريالية الثقافية مع الحفاظ على تراث العقل النقدي؟ هل يمكن صياغة كونية غير متعالية، لا تعيد إنتاج إقصاءات الماضي، وتقبل الخاص والاستثنائي والغريب أو الخارج عن المألوف؟

نحو علاقة جديدة مع العالم:

بمنهجها الخاص وتحليلها المتجذر في مفهوم النقد، تقترح ليدرلين تفكيرًا حول علاقتنا بالعالم كغربيين، وورثة عصر التنوير. إذْ لم يعد كافياً أن نؤكد أننا على حق فقط؛ لأننا نزعم بأننا نتبع العقل. من الضروري اليوم تقاطع وجهات النظر حول العقل وإعادة إعطاء معنى للتحرر في عالم نسعى إلى مشاركته بدلاً من احتلاله.

لرسم هذه الآفاق، تدخل المؤلفة في حوار مثمر مع مفكرين معاصرين مثل برونو لاتور، وأنييس فاردا، وميشيل دو سيرتو، وتريستان غارسيا، ودونا هاراواي.

في المجمل، لا يكتفي هذا الكتاب بمجرد رصد مظاهر العجز الذي يشل حركة النقد حالياً، بل يدعو أيضاً إلى إعادة التفكير في الفعل النقدي لكي يستعيد قدرته على تغيير العالم.

 



عن الكتاب
النقد في أزمة.. كيف السبيل إلى تغيير العالم اليوم؟ ◂ فاني ليدرلين. منشورات PUF، فرنسا 2025، 480 صفحة.
مصدر الترجمة ◂ مجلة https://www.nonfiction.fr

 

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها