راكبٌ دون تذكرة!

حوار مع الشاعر عبد الله عبد الصبور

حاوره: أحمد أبو دياب

 

عبد الله عبد الصبور شاعر مصري ولد في عام 1991 بمركز (كوم امبو) محافظة أسوان، وكما ينهل المصريون من نهر النيل فقد نهل الشعر من طبيعة الأرض من حوله ومن الناس؛ خصوصًا الأمثلة الشعبية التي يطلقها الناس على المواقف والتي لا تخلو من الإيقاع والسجع، والبكائيات التي تقال في الجنائز والتي يطلق عليها اسم (العدودة) وهي في الصعيد خاصة، وأشياء كثيرة كانت حافزًا لجعله يبدأ التجريب في سن مبكرة، وعندما لاحظَت أخته الكبرى موهبته بدأت تأخذه من يده، وتذهب به إلى قصر ثقافة المركز، وتحرسه إلى أن تنتهي الجلسة.


درس مراحله التعليمية جميعها في نفس المركز إلى أن التحق بكلية الهندسة بجامعة أسوان حتى تخرج في عام 2013. المرحلة الجامعية كانت بداية انطلاقته الحقيقية للكتابة الجادة أو للاعتراف به كشاعر، فكانت تتم دعوته لإلقاء الشعر في حفلات تخرج الدفعات، فلم يفوّت دفعة تقريبًا إلا وكان حاضرًا بشعره في احتفالاتها.


انقطع عن الشعر فترة بسبب ظروف الحياة الطاحنة وقتها، وتأثره بموت أصدقاء له في أثناء فترة خدمته العسكرية، ولكن من تأخذه (ندّاهة الشعر) لا يستطع الابتعاد عنه حتى لو طالت المدة، فواصل المسيرة وأنتج ديوان (آخر نظرة للمرآة)، ثم أتبعه بديوان (راكب دون تذكرة)، وشارك في العديد من الفعاليات المهمة داخل مصر وخارجها، آخرها تصفيات برنامج أمير الشعراء الموسم العاشر.



⊙ كيف بدأت الرحلة وبمن تأثرت في بدايتك؟

الموهبة الفطرية منحة من الله تسببت في تأثري الشديد بأمثلة أمي الشعبية التي تطلقها في كل مكان، وبسرعة بديهة امرأة عمي -رحمها الله– في الرد عليها، في كل مرة كنت أتمنى لو كنت قائل هذه الأمثلة المسجوعة والتي لا تخلو من الإيقاع، كذلك تأثرت بارتجال الفنانين في الأفراح الصعيدية والرد على بعضهم البعض في حضور جماهيري غفير، وعلى مستوى القراءة كنت محظوظًا لوجود مكتبة في بيتنا لأخي الأكبر كانت تحمل في طياتها دواوين شعرية، لشوقي، وحافظ، وإليا، ومطران وباقي شعراء هذه الفترة الزمنية، بعد ذلك بدأت في شراء كتب للشعراء الآخرين منذ العصر الجاهلي وحتى العصر الحديث. في الحقيقة، أنا أتأثر بالقصيدة ولا يشغلني كاتبها، والقصائد التي تأثرت بها لا حصر لها، فكل قصيدة حقيقية أتأثر بها، وأشربها أو تشربني.

⊙ ما هو مفهوم الشعر بالنسبة لك وماذا يمثل في حياتك؟

بكل اختصار الشعر هو الجمال فلو استطعنا تعريف الجمال فقد عرَّفنا الشعر بطبيعة الحال، وأقصد هنا الجمال الشعري وليس الجمال المطلق؛ فالشعر هو الساحر الذي لا تعرف ماذا سيُخرج لك من قُبَّعته، من الجيد أن يُخرج من القبعة خيرًا وحبًا وصفاتٍ حميدة؛ لكن وللغرابة الشديدة فهو يدهشك أحيانًا بأشياء غير ذلك؛ فقد أخرج من قبعته الحطيئة الذي هجا نفسه، والمتنبي الذي هجا كافورا وغيرهم، وقد ترى شاعرًا مثل أبي نواس يصف الخمر ثم تراه في حين آخر يكتب شعرًا كأنه أزهد أهل الأرض!

⊙ لقد توقفتَ عن الشعر ثم عدت مرة أخرى، ماذا حدث؟

تُوفي بعض أصدقائي إثر حادث مروع، يا لله! لا أريد أن أتذكر، لم أستطع حتى الكتابة عنه، بعدها تعرضتُ لضائقة مالية شديدة فكنت أعمل ليل نهار دون راحة، لم أنتبه إلا بعد بضع سنين أن هناك شيئًا سقط من جيبي، إنه الشعر. وبَّخني أحد الأصدقاء وذكرني بما سقط مني ولامني كثيرًا، ثم ساعدني في الرجوع مرة أخرى وذهب بي لبيت الشعر في الأقصر الذي كان له الفضل الأكبر في إحيائي مرة أخرى كشاعر.
 

⊙ ذكرت بيت الشعر، كيف ترى دور بيوت الشعر في الحياة الثقافية؟

أسميها بساتين الشعر، فمنذ أن دعا صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، إلى تأسيس بيوت للشعر على غرار بيت الشعر في الشارقة في الأقطار العربية كافة لتكون ملتقى للشعراء الكبار والشباب؛ لم تخرج هذه البيوت إلا الزهور التي لا ينكر أحد رائحتها. وعلى المستوى الشخصي فقد أحيا بيت الشعر داخلي ما كاد أن يندثر، وعلى الشعر أن يشكرهم بكل ما أوتي من محبة.

⊙ أنت تعمل مهندسًا، أين تمكنت من تعلم فنون الكتابة، وهل للهندسة دور في كتاباتك؟

درست الهندسة وأعمل حتى الآن مهندسًا لم أتوقف لحظة، فهي المهنة التي تعينني على الحياة وأعبائها المادية، وليس شرطًا أن تكون دارسًا في كلية للغة العربية حتى تصير شاعرًا، أو كاتبًا، فالكثير من المبدعين امتهنوا مهنًا أخرى، الشاعر إبراهيم ناجي كان طبيبًا، توفيق الحكيم عمل محاميًا لفترة، وقد يتفاجأ الكثير الذين لا يعرفون سيرة العقاد أنه حصل على الشهادة الابتدائية فقط.

إرادتك هي التي تحدد الطرق، ورغبتك الحقيقية في السعي وراء ما تحب حتى وإن كان في قاع بئر، أو في قمة جبل. والهندسة أثرت في فكرة تناولي للنص وهندسته وتقسيمه، فأنا أتعامل مع نصي كلوحة معمارية فريدة، أحاول أن أحوّلها من فكرة على ورق إلى جسد حي وملموس.

⊙ تتكئ في ديوانك الأحدث (راكب دون تذكرة) على النزعة الإنسانية، وهو ضمن إصدارات دائرة الثقافة بالشارقة، حدثني عن هذه التجربة؟

تقول الشاعرة البولندية فيسوافا شيمبورسكا: "الشعر غاية إنسانية بالدرجة الأولى، ويكفيني فرحًا أن أستمر في كتابة الشعر حتى مماتي". إن لم نكتب للإنسان وعنه فماذا نكتب؟ هذا العالم في أمَسّ الحاجة للكتابة عما يشعر به الإنسان من صراعات وتأملات وحزن، ديواني لم يكن إلا ترجمة لهذه المشاعر المختلفة والمتقلبة، وعلاقته بكل ما حوله بداية من العنوان وهو (راكب دون تذكرة)، جميعنا أتينا إلى الحياة بدون تذكرة مسبقة، ونقضي حياتنا كلها نبحث عن تلك التذكرة!

⊙ لاحظت في ديوانك الأخير تقسيمك للقصائد على ستة أبواب، لماذا هذه الأبواب بالذات حدثني عن ذلك؟

يُمكن القول أنها جاءت بين خمسة أبواب لأني وضعت آخر قصيدتين تحت مسمى (ما وراء الباب)، وهذا باختصار لأني كتبت النصوص على فترات متباعدة، وبحالات شعورية مختلفة فسميت الباب الأول باب النّاي؛ لأنك إذا فتحتَ هذا الباب ستجد قصائدي التي تحمل حزنَ النّاي، وأصالته، وحنينه للشجرة الأم، ثم تلاه باب الليل وخلفه تجدني خائفًا في قصائدي ومتوترًا من أقل الأشياء وأكثرها دقة وحساسية، بعد ذلك باب التراب؛ تراب الوطن الذي لا بد أن نكتب ما نشعر به تجاهه، وما نحلم به أن يكون متاحًا، وحاولت أن أفعل هذا بكل ما أوتيت من شعر، وإذا فتحت باب الشعر ستجدني أناجيه جالسًا معه في حديقة واسعة، مرة أعاتبه ومرة يعاتبني، نفرح، نبكي نلعب، ونجادل بعضنا البعض بكل حب وحِدّة. وإذا وصلتَ لباب العصافير وفتحته فسوف تجدني أسفل شجرة أحمل كَمَان وأعزف لجولييت التي تجلس في نافذة شجرتها الوارفة. أخيرًا إذا ذهبت وراء الباب أو وراء الأبواب فلن ترى إلا أرواحًا تطير في الملكوت.

⊙ أغلب القصائد في ديوانك عمودية والقليل منها على قصيدة تفعيلة، أيهما تفضّل؟

عندما أكتب نصًّا في حقيقة الأمر لا أتعمد كتابته بطريقة ما تخص الشكل أو الإيقاع، يقول الشاعر المصري أحمد بخيت:
ففي العود متسع للجميع .. وفي اللحن يُمتحن العازفون

العود يعزف ألحانًا مختلفة تحمل إيقاعات طويلة أو قصيرة، كلاسيكية أو جديدة؛ الأهم من كل ذلك أن يكون اللحن جميلًا ولا يُملّ من سماعه، وفي رأيي الشخصي القصيدة تنادي شكلَها، فمثلا لو أردت أن أعزف لحنًا غربيا لا يستطيع العود أن يخرجه فسأستبدله بجيتار.

⊙ كشف لنا الجاحظ مسبقًا عن مفهوم الشعر على أنه صناعة من الصناعات مثل النسج والتصوير هل تتفق؟

مفهوم الصناعة العام يمكن أن ينطبق على الشعر، فأنا أصنع قصيدة مكونة من أبيات موزونة ومقفّاة ومضبوطة نحويًا وهكذا ولكن هل هذا وحده يكفي؟ بالطبع لا. ربما لا يتفق معي الكثير خصوصًا في الوقت الحالي لكن الموهبة في رأيي هي الروح التي تفسد الصناعة بدونها.

أطفال على سبيل المثال يمرّون على شجرة، ما الذي يجعل أحدهم يذهب ويقرر أن يرسمها؟ وآخر يقرر أن يغني لها؟ وآخر يكتب عنها؟ وآخر يذهب للسرير وينام؟ ولكن لا بد للذي قرَّر أن يكتب عنها وهو ما يخصنا أن يتعلم صناعة الكتابة حتى ينتج لنا قصيدة أحلامه وأحلامنا.

⊙ شاركت في تصفيات برنامج أمير الشعراء الموسم العاشر؟ كيف تصف تجربتك؟ وهل تضيف المسابقات شيئًا إلى الشعر؟

تجربة أمير الشعراء ممتعة، بمجرد دخولك مسرح شاطئ الراحة تشعر وكأنك في وادي عبقر، شاركت في تجارب الأداء، صحيح لم يحالفني الحظ للوصول للحلقات المباشرة إلى الآن إلا أني تعرفت على شعراء وأصدقاء في غاية الروعة من مختلف البلاد العربية، وهذه المسابقة عززت في كل المشاركين الوحدة العربية والأخوّة، وكل من شارك كان يستحق الفوز فعالمنا العربي ممتلئ بالمبدعين ولا ينضب، وأحب أن أشكر الإمارات على دعمها الكبير لمثل هذه المسابقات، فهي من دون شك تضيف للأدب وللأديب وتخلق حوافز للتنافس الشريف على الإبداع.

⊙ في شهر نوفمبر الماضي شاركت في مهرجان الأقصر في الشعر العربي الدورة الثامنة، ماذا مثلت لك المشاركة؟

أسعدني جدًا تواجدي في هذا المهرجان الكبير بين شعراء ونقاد كبار، ولهذا أشكر دائرة الثقافة بالشارقة -برئاسة سعادة الأستاذ عبد الله بن محمد العويس- على مجهوداتها الكبرى في إقامة هذه الفعاليات البديعة التي تتيح لقاء مبدعين من مختلف الأماكن، وأشكر بيت الشعر بالأقصر على التنظيم الرائع كأحسن ما يليق بالشعر، ودعوة النقاد والشعراء في مهرجان واحد جديرة بالاحترام، فهي تضعهم في حَلَبة للإبداع الجميل والراقي.

⊙ على ذكر النقد كيف ترى علاقة الناقد بالشاعر؟

الشاعر هو أول الناقدين لشعره، هكذا يجب أن يكون، والنقد كان له دور بارز في تحليل النصوص على مدار تاريخ الشعر، فعندما يلتبس علينا فهم معنى لبيت أو قصيدة جاهلية مثلا، نذهب سريعاً لتحليلات النقاد عنها، وعلى النقد أن يكون موضوعيًّا ومحايدًا لا تدخل فيه أي أهواء أخرى، والشعر والنقد إنما يكملان بعضهما بطريقة ما.

⊙ نقرأ كثيراً عن مفهوم الحداثة في الشعر، كيف ترى الحداثة من وجهة نظرك؟

من الأشياء الملفتة ثورة بعض الكتاب على القصيدة بشكلها العمودي ونبذها تحت مسمى الحداثة، وهذا لا يمت للحقيقة بصلة بل إن هذا الكلام يرجعنا مئات السنين للوراء، الحداثة من وجهة نظري في التناول وليس في الشكل، الكثير من النصوص الحرة لغتها قديمة ومستواها الشعري رديء والعكس. الشعر هو الروح، جسده اللغة، وملابسه شكل القصيدة. جسد سليم حي لا فرق عندي بين أن يلبس بدلة أو جلبابًا؛ المهم أن ملابسه نظيفة ومهندمة.

⊙ صدر لك ديوانان فقط إلى الآن، هل تتمعد أن تكون مُقِلًّا في كتاباتك؟

عندما سمعت عن زهير بن أبي سلمى وعن قصيدته الحوْلية، توقفت كثيرًا، ربما لم أستطع التخلص من هذه الحالة إلى الآن، ليتني أكتب قصيدة في عام بشرط أن يرددها الناس لمائة عام قادمة، أنا مؤمن بالقول الذي يعترف بالكَيْف وليس بالكم، ولا شيء يجري خلفي كي أكتب، أنا أكتب على راحتي ولا أجبر القصيدة على شيء رغمًا عنها، فأنا أدللها حتى تأتيني بإرادتها. ما فائدة المطبوعات الكثيرة التي تذهب جُفاءً كالزّبَد!

⊙ في نهاية هذا الحوار ماذا تتمنى أن يحدث في العام الجديد؟

أتمنى ثلاثة أشياء: أن يسود السلام العالم، أن أكتب قصيدة خالدة، أن أظل صادقًا.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها