تعليم المكفوفين في الحضارة الأَنْدُلُسية

د. محمود أحمد هدية


أولت المجتمعات القديمة اهتمامًا كبيرًا لأولي الكمال البدني والأسوياء صحيًا، لتطلب طبيعة الحياة اعتماد الفرد على قوته البدنية في أداء الأعمال المتعلقة بالزراعة والبناء والحرف المختلفة، وتربية المعاقين بصريًا في المجتمعات القديمة مرت بحالة بؤس وشقاء، حيث خرج المكفوفون إلى الشوارع والأسواق طلباً للإحسان حتى أصبح التسول مهنة لهم يعيشون منها.


لذا كان للديانات السماوية تأثيرًا كبيرًا في الاتجاه نحو المكفوفين، فنادى رجال الدين من المسيحيين القدامى برعاية المعوقين والمرضى وعند ظهور الديانة المسيحية، والتي دعت لرعاية الإنسان والاهتمام به بصورة عامة، ولذلك تغيرت معاملة المجتمعات للمكفوفين، وأصبحت أكثر إنسانية وإن ظلت مدة طويلة تتسم بالطابع السلبي. بينما في العصور الوسطى اتسم وضعهم بالرحمة والشفقة التي تدعو إليها المسيحية في ملاجئ خاصة ملحقة بالأديرة والكنائس، فكانوا يُطعمون وينامون بها. ومع ذلك فقد كانت أوروبا المسيحية في العصور الوسطى لا تعمل على رعايتهم –في بعض الأوقات- بزعم أنّ كف البصر عقوبة إلهية، وما دامت هذه رغبة الإله فيجب عدم رعاية المكفوفين1.

وبمجيء الإسلام بمبادئه وقيمه السامية وأسسه التربوية، انطلق المجتمع الإسلامي ليضع أسسًا ومبادئ لحياة جديدة للبشرية كافة، لذلك فإنّ المعوقين والضعفاء والمرضى أُعطوا حقوقًا تساندهم في حياتهم وتشعرهم بكرامتهم، ومن هذا المنطلق أكد الإسلام على مبدأ العدالة والمساواة، وجعلها من العقائد الأساسية التي يجب أن يدين بها المسلم، قال الله تعالى: )قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ(. كما حثّ الإسلام على ضرورة العلم والتعليم باعتباره فريضة إلهية وضرورة إنسانية، فالعلم النافع هو الأساس في بناء الإنسان الصالح، واعتبر الإسلام أنّ الإنفاق على العلم وطلبه أحد وجوه البر والمعروف، فتسابق كل من يستطيع على توفير مقوماته مع السعي في طلبه كي يتيح فرص التعليم للآخرين، كما أعطى المجتمع لطلاب العلم كل الرعاية والتقدير، وهذا ما يعتبر تحقيقاً لتكافؤ الفرص التعليمية في الإسلام.

ونبع اهتمام المجتمع الأَنْدُلُسي بالعلم بوجه عام من توجيهات القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، كما كان للقدوة الحسنة من الصحابة والتابعين أثرها في نفوس الأَنْدُلُسيين، في ترسيخ محبتهم للعلم والرغبة في نشره، فلا أحد منهم يطلب العلم لكي يحصل على عائد مادي أو جاه اجتماعي، بل بباعث من نفسه متفرغًا له، وباذلًا الغالي في سبيله2.

وما كان لهذا النظام التعليمي أن يتجذر في المجتمع الأندلسي لولا المُناخ العام الذي حقق فرصًا من المساواة في المجالات الحياتية المختلفة، والتي نبعت في الأساس من إرادة المجتمع، الذي سعى لتحقيق العدالة الاجتماعية رغبة في نمائه، ومن هذا المنطلق هَدَفَ مبدأ تكافؤ الفرص للتساوي في الحقوق والحريات، وفتح آفاقًا رحبة للرغبة في تقليص التفاوت، وتقليص العدم كعدم المساواة وعدم الحرّية، وعدم الكفاية أملاً في تساوي الشروط والأحوال، وإتاحة الفرصة لغير القادرين من غير الأسوياء من المعاقين، وخاصة مكفوفي البصر ليتمكنوا من تعويض ما فقدوه بأن يتحصلوا على فرصة تعليمية، تمكنهم من المشاركة في المجتمع أو الحصول على وضع اجتماعي أفضل.
 

تعليم المكفوفين في الأندلس 

فتح الإسلام مجالاً رحبًا لذوي الاحتياجات الخاصة للمشاركة في بناء المجتمع؛ ليندمجوا فيه ويقدموا ما يستطيعون فعله، وفق إمكاناتهم البدنية، وقدراتهم الحسية والحركية؛ واعتبر التعليم وأموره من بين أكثر الأنشطة ملاءمة لهؤلاء، فلم يقتصر تلقي التعليم على الأسوياء من أبناء المجتمع الأندلسي، ولكن امتدت فرص التعليم لأولئك الراغبين والطامحين من المعاقين، وذوي الاحتياجات الخاصة في تلقي تعليمهم، وتعويض ما فقدوه من حواس أو أطراف بأن يبرزوا في المجال العلمي، وأحيطت تلك المشاركة بمباركة فئات المجتمع بكافة طوائفه، فضلاً عن رعاية هؤلاء والعناية بهم من قبل السلطة عن طريق إنشاء المعاهد التعليمية التي تهتم بهم وتؤهلهم للمشاركة الفعالة في المجتمع، بمنحهم حقوقَهم كاملة، وإفساح فرص العمل والمشاركة أمامهم، وتأمين الحياة الكريمة لهم، وعدم إهمالهم وتركهم عرضة لنبذ المجتمع.

وتزخر كتب التراجم والسير والمناقب لعدد من أولئك الذي عملوا كمعلمين أو مكتتبين أو مؤدبين، سواء للخاصة أو العامة من أبناء الأندلس، ممن دفعتهم الإعاقة إلى التعلم رغبة في تحسين أوضاعهم، وخاصة من كف بصرهم، فتشير المصادر التاريخية لعدد كبير ممّن امتهنوا مهن التعليم، أو استطاعوا التدرج في مستوياته، فنجد عليّ بن يوسف بن محمد، فبعد أن كف بصره عمله في النجارة تفرغ لطلب العلم، حتى نبغ في النحو، ومن ثم بدأ في تدريس العربية وفي الإقراء فجمع مالًا كبيرًا «كان في صباه نجارًا فلما أُضر أقبل على العلم... وأقرأ العربية والقراءات»3، كما نجد أنَّ محمد سليمان الأنصاري كان مكفوف البصر، عمل مؤدبًا للنحو4، فضلا عن محمد بن بهلول، من أهل بطليوس والذي كان ضرير البصر، إلاّ أنّه كان متقدمًا في الآداب حسن القيام بها، مشاركًا في النحو، أدب العديد من فئات المجتمع حيث أدب في يناشتة للعامة، وبأقليش لبعض ولد خدمة السلطان5، بالإضافة إلى محمد بن أحمد الأموي، سكن بمالقة، والذي كان ضريرًا وعمل مقرئًا متصدرًا ببلده6، وأيضاً محمد بن علي بن محمد بن أبي العاص النفزي من أهل شابطة كان ضريرًا، وعرف عنه أنّه من أهل المعرفة بالقراءات وطرقها، تصدر ببلده للإقراء7، بالإضافة لأحمد بن صالح المخزومي، من أهل قرطبة فكان «مكفوف البصر نفعه الله، ومن أهل الذكاء والمعرفة بالقراءات والحديث»8.

والفرص المتكافئة للمعاقين في الأندلس لم تقتصر على الحصول على قدر من الاستفادة التعليمية، ولكن لا بد أن يحاط ذلك بمجموعة من المقومات بوجود معلمين مهيئين وطرق تدريسية متنوعة تناسب كل طالب ومدى احتياجه، والذي يشمل ذوو الاحتياجات الخاصة بكافة إعاقاتهم واحتياجاتهم، والتي قد تختلف مطالب احتياجاتهم نظراً لنوع الإعاقة التي يعانون منها، لذلك سعى المجتمع الأندلسي للوقوف على احتياجهم وتوفير كل ما يلزم لاستقلال إمكانياتهم وقدراتهم، فلم يتوقف دعم المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة عند التشجيع على طلب العلم وتوفير الفرص المناسبة لهم، ولكن ينسب إلى الأندلس في هذا الإطار ابتكار طريقة لتعليم مكفوفي البصر باستخدام بعض الأدوات، غير المعروفة حديثًا بطريقة برايل، تلك الطريقة التي أسس لها لويس برايل الذي ولد عام ١٨٠٩م، وسُمّيت طريقة بريل بهذا الاسم نسبة إليه، والذي نشأ في قرية صغيرة قرب باريس، وعندما كان عمره ثلاث سنوات أصيب في واحدة من عينيه، وبعد فترة فقد البصر في عينه الأخرى.

وقد اقتبس لويس بريل طريقة الكتابة المعروفة باسمه من ضابط بالجيش الفرنسي يدعى (شارلز باربير) الذي قام بتصميم نظام للقراءة، يتمكن بواسطته أفراد الجيش من تبادل التعليمات والأوامر المكتوبة في الظلام، ولدى معرفة (بريل) بهذه الطريقة صمم طريقته التي أصبحت نظامًا عالميًا متبعًا في القراءة والكتابة لفاقدي البصر، بعد رغبته في أن يتعلم الموسيقى، فابتدع الطريقة التي سميت باسمه لمعرفة النوتة الموسيقية، ثم عمم استخدامها للقراءة والكتابة في العالم أجمع. والوحدة في هذه الطريقة عبارة عن ست نقط بارزة في شكل منظم، وتبعاً لعدد النقط واختلاف موقعها مكن تمييز حروف الأغنية المختلفة، الثلاث حرف الألف له نقطة واحدة، والباء نقطتان رأسيتان وهكذا...9. (كمال سالم، المعاقون بصرياً 1988م).

أو تلك الطريقة التي ابتكرها العالم زين الدين علي بن أحمد الآمدي الضرير (714هـ)، حيث يرجع إليه الفضل في ابتداع الكتابة البارزة كما يشير إلى ذلك الزركلي10، كان أستاذاً في المدرسة المستنصرية ببغداد، وله فيها غرفة خاصة به، ترجم له الصفدي في كتاب «نكت الهميان في نكت العميان»، ووصفه بقوله «كان شيخًا مليحًا مهيبًا ثقة صدوقًا، كبير القدر والسن، أضر في أوائل عمره، وكان آية عظيمة في تعبير الرؤيا، مع مزايا أخرى عجيبة، تدل كلها على عبقريته وشدة فطنته وذكائه»11، وكان يمس الكتاب أولا ثم يشرح ما فيه، وعن طريقته فقد استخدمها في توضيح ومعرفة أثمان الكتب التي يشتريها أو يبيعها، بأن يأخذ بقطعة من الورق الخفيف ويقوم بفتلها بطريقة رقيقة، ثم يصنع منها حرفًا أو أكثر من حروف الهجاء ليحدد بها سعر الكتاب، بحساب الجمل التي شكلتها الحروف، ثم يقوم بلصقها على طرف جلد الكتاب من الداخل، ثم يلصق ورقة رقيقة فوقه لتظل ثابتة، وحتى لو ساوره الشك في تحديد أو معرفة ثمن أي كتاب أو اختلط عليه الأمر لمس بطرف أصابعه الموضع الذي علمه، فيعرف على الفور الثمن الذي حدده لكل كتاب يعرضه للبيع في مكتبته دون أي ظلم يرتكبه في حق نفسه أو حق الشاري.

وفي هذا الإطار يذكر لنا الصفدي عنه قوله: «ويعرف أثمان جميع كتبه التي اقتناها بالشراء، وذلك أنّه كان إذا اشترى كتابًا بشيء معلوم أخذ قطعة ورق خفيفة وفتل منها فتيلة لطيفة، وصنعها حرفًا أو أكثر من حروف الهجاء لعدد ثمن الكتاب بحساب الجمل، ثم يلصق ذلك على طرف جلد الكتاب من داخل ويلصق فوقه ورقة بقدره لتتأبد فإذا شذ عن ذهنه كمية ثمن كتاب ما من كتبه مس الموضع الذي علمه في ذلك الكتاب بيده، فيعرف ثمنه من تنبيت العدد الملصق فيه»12.

غير أنّ الأندلس عرفت هذا النظام في تعليم المكفوفين بفترة طويلة تعود إلى القرن الرابع الهجري، والذي ذكرها ابن حزم الأندلسي المتوفى في ٣٨٤هـ، حيث ذكر طريقة مبتكرة سبقت غيرها حتى طريقة الآمدي سالفة الذكر، والتي تعود إلى القرن الثامن الهجري، تناولها أثناء حديثه عن طريقة ذكرها والده عن محمد بن عبد الوارث والذي كان يعلم مولودًا له أعمى، باستخدام أشكال بارزة مصنوعة من القير13على هيئة حروف الكتاب، وألمس ابنه الأعمى الأكمة إياها مفردة حتى وقف على صورها بعقله وحسه، ثم ألمسه تراكبها وقيام الأشياء منها حتى تشكل الخط، ثم انتقل به إلى كيفية استبانة الكتاب والقراءة بنفسه، فانتهى من تعليمه الحروف ثم الكلمات، ثم الجمل إلى أن وصل به للقراءة، وإذا كانت هذه الطريقة في تعليم الأعمى قد نجحت لحد أنها رفعت عنه غصة عظيمة ولم يستعص عليها إلا إدراكه للألوان14، وهو ما ذكره لنا ابن حزم في «التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية» حيث يقول:

"وأعلم أنه ليس على المرء أكثر من نصر الحق وتبيينه، ثم ليس عليه أن يصور للحواس أو في النفوس مالا سبيل إلى تصويره، ولا مالا صورة له أصلًا، كمن أثبت أن الواحد الأول لا جوهر ولا عرض ولا جسم ولا في زمان ولا في مكان، ولا حاملًا ولا محمولا، فأراد الخصم منه أن يشكل له ذلك فهذا لا يلزم؛ وهذا كأعمى كلف بصيراً أن يصور له الألوان فهذا ما لا سبيل إليه، وهذا تكليف فاسد لا تنقص في العجز عنه على التكليف. وأما ما دام ذلك ممكناً فواجب على المكلف بيانه بأقصى ما يقدر عليه. ولقد أخبرني مُؤَدبي أحمد بن محمد بن عبد الوارث رحمه الله أن أباه صور لمولود كان له أعمى ولد أكمه حروف الهجاء أجرامًا من قير ثم ألمسه إياها حتى وقف على صورها بعقله وحسه، ثم ألمسه تراكبها وقيام الأشياء منها حتى تشكل الخط، وكيف يستبان الكتاب ويقرأ في نفسه ورفع بذلك عنه غصة عظيمة. وأما الألوان فلا سبيل إلى ذلك فيها وليس إلا بما قام به البرهان وإن لم يتشكل في النفس أصلًا15.

لذا يعتبر محمد بن عبد الوارث هو السابق والمتفرد في هذا العمل، بابتكار طريقة لتعليم المكفوفين باستخدام بعض الأشكال والحروف البارزة، ليتيح لمولوده القراءة والكتابة، والتعرف على الحروف والكلمات، وهو ما يجعله أول عالم مسلم يهتدي لتلك الطريقة ويسبق الآمدي في القرن الثامن الهجري.
 


الهوامش:  1. ماهر محمود الهواري: شخصية الكفيف، مجلة الفيصل، دار الفيصل الثقافية، السعودية،ع(51)، 1981م، ص: 76. ┊2. المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت- لبنان، 1968م، ج1، ص: 220-221.┊3. السيوطي: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، لبنان-صيدا، ج2، ص: 213.┊4. ابن الفرضي: تاريخ علماء الأَنْدُلُس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008م، ص: 423.┊5. المراكشي: الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة، حققه وعلق عليه: إحسان عباس، محمد بن شريفة، بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، تونس، 2012م، ج4، ص: 158.┊6. المراكشي: الذيل، ج4، ص: 86.┊7. المراكشي: الذيل، ج4، ص: 528.┊8. المراكشي: الذيل، ج1، ص: 315.┊9. ماهر محمود الهواري: شخصية الكفيف، ص: 76.┊10. الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة، 1979م، ج4، ص: 257.┊11. الصفدي: نكث الهميان في نكت العميان، علق عليه ووضع حواشيه: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1428 هـ، 2007م، ص: 189.┊12. الصفدي: نكت الهميان في نكت العميان، ص: 190.┊13. القيرُ والقارُ: لغتان وهو صُعُدٌ يذابُ فيُسْتَخْرَجُ منه القارُ وهو شيء أَسود تطلى به الإِبل والسفن يمنع الماء أَن يدخل، ومنه ضرب تُحْشَى به الخَلاخيل والأَسْوِرَةُ وقَيَّرْتُ السفينةَ طليتها بالقارِ، وقيل: هو الزِّفت. ابن منظور: لسان العرب، ج5، ص: 124.┊14. محمد أحمد الشافعي: الكناشة الأندلسية، مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية، ع(۲)، مدريد، ۱۷، المجلد الثاني، ص: 34.┊15. ابن حزم: التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، تحقيق: إحسان عباس، دار مكتبة الحياة - بيروت الطبعة الأولى، 1900م، ص: 192.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها