الهويّة المأزومة!

قراءة في كتاب "الهُويّة المفقودة والانتماءات المتعدّدة" للنّاقدة هدى المعدراني

د. هدى عيد


في زمنٍ يشهد تسارعًا رقميًا وتحوّلات جيوسياسيّة وثقافيّة عميقة، تغدو مسألة الهويّة من أكثر القضايا إلحاحًا في الأدب العربيّ، لاسيّما حين تستحيل ثيماتٍ بارزة في سياق روايات واقعيّة اجتماعيّة تطرح إشكاليّات الهامش والتمزّق الإنسانيّ، وقسوة الظّلم الاجتماعيّ، وقدرته على تضييع الفرص، وتبديد الحيوات.


تبرز في دراسة الدّكتورة هدى المعدراني "الهويّة المفقودة"، مسألة الهويّة بوصفها إشكاليّة مركزيّة، لا تقتصر مقاربتها على البُعد القانونيّ، أو على الانتماء الدّيموغرافي، بل تجاوز ذلك إلى كونها سؤالًا وجوديًّا مفتوحًا على تعدّد الاحتمالات، يضمر في طيّاته تنازعًا ما بين الإرث والاختيار، الانتماء والإقصاء، وبين الانغلاق على الذّات، أو التّحاور مع الغير. فإذا كانت الهوية تُبنى ضمن علاقات الإقرار بالحقّ، والتّفاعل الإيجابيّ مع الآخر، فإنها تلك العلاقات كثيرًا ما تبدو مهدّدة في الحواضن العربيّة من الدّاخل، عبر البنى الطائفية/ السّياسية (لبنان)، ومن الخارج بفعل الهيمنة الثقافيّة، أو بتأثير الحركات الاستعماريّة والاستبداديّة (فلسطين).

انطلاقًا من تلك الرؤية، عملت هذه القراءة على ملاحقة تمثّلات الهويّة في الرواية الّلبنانيّة العربية المعاصرة، في دراسة النّاقدة المعدراني، في كتابها "الهويّة المفقودة والانتماءات المتعدّدة"، الصّادر عن دار النّهضة العربيّة، في طبعته الأولى عام 2025، والّذي قدّم له النّاقد الجزائريّ الدّكتور عبد القادر فيدوح بقراءة نافذة.

ضمّنت النّاقدة دراستَها تحليلاتٍ نقديّة ثقافيّة معمّقة في الخطاب السّرديّ، لأربع روايات لبنانيّة هي (شريد المنازل لجبور الدّويهي، في بلاد الدّخان لهدى عيد، قيد الدّرس للنا عبد الرّحمن، وفاقد الهويّة لحنان فرحات)؛ روايات تنوّعت مسروداتها بتنوّع كتّابها، ولكنها تقاطعت في الرّؤى المُضمَرة لمبدعيها حيال موضوعة "انتماء الذّات، وتخلخل الهُويّة عبر فعل الفقد، أو الإقصاء، أو من خلال الاستلاب". كما سعت إلى رصد كيفيّة تجسيد الشخصيّات الروائيّة لتجاذبات الهويّة، وانعكاس أزمتها من خلال الّلغة والزّمكان والسرد، في ظلّ عالم مأزوم تفرض فيه السّلطة حضورها، سواء أكانت صريحة معلنة، أم متخفية "ناعمة"، تُمارَس عبر مؤسّسات المعرفة، أو بوساطة العنصر الثّقافيّ وحامليه.

تتبنّى الدراسة منهجية تحليلية -تأويلية ثقافيّة أطلّت النّاقدة من خلالها، على تخصصات متعدّدة مفيدة من قدرتها على الملاحمة ما بين الفعل النّقديّ، والأبعاد الإبستمولوجيّة المتنوّعة، حيث تمكّنت من تحليل المتون الروائيّة المختارة من منظور تفكيكي بنائيّ، ترافق واستحضار نظريات الهوية، والاعتراف، وما بعد الكولونياليّة، والتقاطع الجندريّ، وتعسّف الاجتماع البشريّ في مقاربة كيفيّة نوعية، تنهض على قراءة النصوص الروائية بوصفها أنظمة دلاليّة مشبعة بالرّموز، والمواقف والمعاني، تتصل بالبنى المجتمعية والثقافية التي تنتجها وتتمثّلها، ما أتاح لها محاكاة نظريات حديثة في فهم الهويّة بوصفها مشروعاً تفاعليّاً لا يعرف الثّبات.

وقد سعت هذه القراءة إلى مقاربة تجربة المعدراين النقديّة المتعدّدة المستويات في الكتاب، والتي انبثقت عنها مفاهيم ورؤى وتقاطعات مع نقّاد ومنظّرين آخرين، يمكن لنا بلورتها وفاق العناوين الآتية:

-الهويّة كمكوّن سرديّ، وفِعل التّحايل على أزمة اغتراب "الذّات" (د. فيدوح، بول ريكور): تُقدَّم الشخصيّات الروائيّة الفاعلة (مثل نظام، رخيمة، ميسون، إبراهيم، عقل، أرمال، فرنسواز، باسم حسّان، نجوى، ليلى، منيف، ناصر، وسهى...) كمرايا سرديّة تعيد تشكيل الذّات عبر الحكي، ومن خلال المواجهة مع الذّاكرة ومع الآخر. تصبح الهويّة بذلك، مشروعًا مستمرًا من "القصّ"، لا جوهرًا جامدًا، ما يتقاطع وطرح د. عبد القادر فيدوح عن ثيمة الاغتراب المزدوج بين الماضي والحاضر، وطرح بول ريكور الذي وجدَ أنّ الهوية تتشكّل من خلال عملية تسريد الذّات، عبر الزمن.

- ما بعد الكولونياليّة: الصّراع مع الآخر (إدوارد سعيد)، ومع الذّات ( Gayatri Spivak) وفقْد الهويّة المتوازنة: ينهض الغرب في رواية في بلاد الدّخان "كموقع مضادّ"، رافضٍ للاختلاف، يحاول تطويعه على الرّغم من تبنّيه الظّاهريّ لخطاب التعدديّة، وتَظهر شخصيات "عقل" "إبراهيم" "أرمال" و"وفيقة" كأدوات لقراءة تمثّلات الآخر المختلف، وتبيّن حالة الاستلاب الثقافي، وتشتّت الذّات وفقد الهويّة المتوازنة، وانعدام القدرة على المواجهة، ما يتقاطع ومقولات إدوارد سعيد حول "التمثيل الاستعماري"، ومقول هومي كيه بابا حول الهويّات الهجينة التي لا تجد لها مكانًا في أنظمة الانتماء الضّيقة من ناحية، وفي حالات الاستلاب النّفسيّ الّذي عكسه حضور المرأة التّابع المتمّل في أنموذج "وفيقة" متقاطعًا وصوت Gayatri Spivak

- تمثّلات القهر النّسويّة وتقاطعَ الهويّات المختلفة (أليكس ميشيللي/ أمين معلوف): تؤشّر شخصيات مثل "ليلى" "سهى" و"وفيقة" إلى تجلّيات القمع الجندريّ والاجتماعيّ والسياسيّ، وهو ما يمكن فهمه من خلال نظريّة أزمة الهويّة لأليكس ميكشيللي، والهويّات القاتلة لأمين، حيث يشتبك النّوع الاجتماعيّ مع العرق، المكان، ومع التاريخ ليُنتج هوية هشّة مرفوضة تُقمع عبر أكثر من أداة.

- السّلطة النّاعمة والهويّة الممسوخة في ظلّ الثّقافة الملتبسة (آلان غولد شليغر/ محمّد عابد الجابريّ): تبيّن الرّوايات- على ما أظهر الاستقراء الثّقافيّ لمتونها- الممارسة المبطّنة للقمع المتواري خلف أقنعة متنوّعة تمسخ الهويّة، منها الطائفيّ، الثّقافيّ، والعاطفيّ، حيث يتجلّى عبر الأدوات الناعمة كالمؤسّسات الثّقافيّة/ الجامعة، بعض أدوات التّواصل/ كاللغة، العنصر البشريّ: المرأة/ الحب، أو عبر القيم الليبرالية: الحريّة، المساواة أمام القانون، التسّامح والتّعدّد... وهذه الفكرة تتسق مع نقد آلان غولد شليغر في سيميائيّة الخطاب السّلطويّ، وما طرحه محمّد عابد الجابريّ في مسائل الهويّة، العروبة، الإسلام والغرب إذ تستحيل الثقافة حقلًا للهيمنة المقنّعة.

- اشتراط "الاعتراف" كسبيل لحيازة الهويّة (مصطفى حجازي): يتكرّر في النّصوص المدروسة الشّعور بالخذلان في ظلّ غياب الاعتراف الطائفيّ/ السلطويّ بالآخر المختلف المحايد (شريد المنازل)، أو في السّعي إلى الإقرار بالعامل النّفسيّ/ وبالتفوق العلميّ (في بلاد الدّخان)، أو بالإسناد القانونيّ/ التّاريخي المحلّي في (قيد الدّرس)، و بالحقّ الفلسطينيّ في التجذّر (فاقد الهويّة)... فالشخصيات لا تُقمَع فقط، بل هي تُحرَم من حقّ الاعتراف بها، كذوات قارّة في مجتمعاتها، ما قد يقلب حياتها جحيمًا أحيانًا، وهو ما تتقاطع النّاقدة من خلاله، مع المفكّر مصطفى حجازي في قضية "التخلّف الاجتماعيّ- مدخل إلى سيكولوجيّة الإنسان المقهور" حين يجعل من الاعتراف بالآخر، ضرورة أخلاقيّة لتكامل الذات.

ولكن ماذا عن حضور "الأيديولوجي" في هذه الدّراسة؟


يشترط في حضور "الأيديولوجيّ" في الفعل النّقديّ خضوعه لمنهجية فكريّة صارمة، توازن ما بين التّفسير والتّأويل، لئلا يؤدّي التورّط المفرط في الأيديولوجيا إلى انحياز الناقد، وتشويه مقاصد النّصوص المدروسة، ما يُفقد قراءته العلميّة حيادها، لذا فإنّ المصداقيّة لا تكون بنفي الأيديولوجيا، بل في وعي الناقد بحضوره وبحدود تأثيره. وبهذا المعنى، لا يُعدّ الأيديولوجي عائقًا، بل محفّزًا على مساءلة النصّ والذّات معًا، ما يذكّرنا بما ذهب إليه جورج طرابيشي، من أنّ كلّ أثر أدبيّ حاملٌ للأيديولوجيّة، فلا وجود لعمل أدبي بريء، بل لا يمكن أن يوجد ناقد لا يحمل في عقله أيديولوجية ما، إلاّ أنّ مهمّة الناقد، أو إحدى مهامه أن يميط اللثام عن الأيديولوجية السّافرة، أو الباطنة التي يحملها كلّ عمل أدبيّ بين طياته، لكنّ هذا الكشف يجب أن يأتي من داخل العمل الأدبيّ، لا عن طريق منهج خارجيّ جاهز ومسبق.

وقد ظهّرت هذه الدّراسة سعي النّاقدة إلى فعل الاستقراء الدّقيق للآثار المدروسة، ومحاذرةِ السّقوط في فخّ الذّاتيّة، أو الأدلجة في التّعامل مع مسروداتها، حريصة على إدراك غايتها في كشف الأنظمة الذّاتيّة للكاتب، في فِعلها الاجتماعيّ في أيّ تموضعٍ كان، بما في ذلك تموضعها النّصوصيّ، وما ذلك إلاّ لأنّ الثّقافيّ يمثّل التّعبير الحقيقيّ عن النّاس المنتجين له.

لذلك وجدناها تتبنّى في نقدها أسسًا أبستمولوجية واضحة، جاوزت بها الوصفيّة إلى التحليل المعمّق ما مكّنها من حسن التّأويل والاستدلال على المنظور الأيديولوجيّ الّذي حكم مسار الرؤية السّرديّة في رواية شريد المنازل مثلا، حيث تتبعت الملفوظات الطّائفيّة المسرّبة في النّصّ، ما أتاح لها رصد تمثّلات وعي الروائيّ الّذي شكّلته الأنساق الثّقافيّة السّائدة والمهيمنة في البيئة الّلبنانيّة، متنبّهة إلى الأنساق المتناقضة والمتصارعة في المتن الرّوائيّ، والتي أبرزت ازدواجيّة السّرد، وكشفت للقارئ النّسق الظّاهر الّذي يقول شيئًا، والنّسق المضمر غير الواعي الّذي يقول شيئًا آخر. فقد تأرجح الخطاب في شريد المنازل ما بين نبذ التّفرقة، وإدانة الطائفية، ورفض مقولاتها، وتعداد نواقصها...وبين "لا مقول متجذّر في النفوس لم يستطع السّارد أن ينقذ نفسه من براثنه" (73)، ومع أنّ السّرد حاول إيجاد حلّ لهذه الازدواجيّة، تمثّل في طرح استبدال المحدّد الديني/ السياسيّ، بالثورة على الواقع المرجعيّ القائم، وتقديم الحسّ الوطنيّ على الحسّ الدّينيّ، إلاّ أنّ "الملفوظات السّرديّة -قد أخفت- في تضاعيفها، مضمرًا ناقض هذه الدّعوة" (74)، لترد خاتمة السّرد التّي تمثّلت "بدفن نظام المُسلم في تراب حورا المسيحيية"، مبرهنة وجهةَ نظر النّاقدة.
 

استنتاج:

تلاحق النّاقدة هدى المعدرانيّ تمثّلات "مأزق" الهويّة في الرّوايات المدروسة، وتُفكّك بنياتها مساءلة النّصوص: كيف تُمنَح الهويّة؟ من يملك حقّ الاعتراف بها؟ وكيف يُحوَّل المختلف إلى خصم؟ وكيف يتمّ تجاوز القيمة الإنسانيّة وعلائق التّاريخ والّلغة والوجدان؟ فتبدو في كلّ ذلك، على إحاطة ودراية بتحوّلات الهويّة في الرّواية العربيّة، من خلال نماذج وقفت عليها سابقًا (العربيّ الأخير لواسيني الأعرج، الميراث لسحر خليفة...)، ساعية من خلال قراءتها الثّقافيّة المثبتة في العنونة "دراسة ثقافيّة في الخطاب السّرديّ"، إلى تعاملها مع النّصّ بحسبانه كما يؤكّد النّاقد عبدالله الغذامي "المادّة الخام التي تُستخدم لاستكشاف أنماط معيّنة من مثل الأنظمة السّرديّة، والإشكاليّات الأيديولوجيّة، وأنساق التّمثيل، وكلّ ما يمكن تجريده من النّصّ"، متطلّعة إلى تحقّق هويّة لبنانيّة عربيّة إنسانيّة رحبة، لا تُحدّدها الحدود السياسيّة ولا التّصنيفات الضيّقة، بل تُبنى على التّفاعل الحرّ، والاعتراف بالآخر، واحترام إنسانيّته، وعلى التّطلّع الواعي إلى المستقبل، لتُظهر في استقرائها أنّ الهوية ليست ما نحن عليه، أو ما يُسمح لنا بأن نكونه، بل هي ما نسعى نحن لأنْ نكونه.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها