تأملات.. ذلك البحر الذي على مدّه وجزْره!

سعاد الحمودي

بينما تجري بنا سفن العمر على صفحات بحر الحياة تحتاج لقبطان ماهر يقود دفتها ليصل إلى جزيرة النجاة؛ وكأنها قصة تحكي علاقة البحر والقدر في تصوير مدهش، فالإنسان في رحلة حياته لا يعرف ما تخبئ له الأيام، وكذا السفن لا تعرف عن تقلبات البحر وما يخفيه عنها. ففي أمواج البحر رسالة من القدر ضمنية، تُخبرك أن أيامك ستمر رغماً عنك، وستعرف فيها السكون والحركة، والصمت والصخب، والخوف والأمان، وسيمتد العمر فيها كامتداد المد، فيما تنحسر أعمارنا كلما انقضى العمر كانحسار الجزر. وفي أعماق البحر الدفينة عالم آخر قلما تدركه بعينيك المتأملة لصفحات سطح البحر الظاهرة، وفي احتضان البحر لمن أراد العوم فيه حكاية أخرى، وما أكثر ما يحكي البحر، فالبحر حين يكون ساكناً يستجيب لحركات جسد العائم فيه برفق ونعومة، ومع هذا يظل البحر وليد لحظة كاشفة، فالأمواج رسالة للعاشقين والحيارى، وطالبي الاسترسال في أبعاد الكون الفسيح، فهي جزء من ذلك الكون الذي فيه كل العجب والسحر، فعلاقته الوطيدة بالأرض والجبال من ناحية، وكذا علاقته بالسماء والشمس والقمر، وانعكاسها على صفحاته البنورامية تتحفنا بأجمل اللوحات، فتجذب ريشة المبدعين لترسم العديد من الصور من زوايا مختلفة، في تلك اللحظات السحرية.

كما وأنها توحي بأروع القصائد والأشعار للشعراء والكتاب، كل تلك الروابط الكونية بين العوالم المتباينة وبين البحر تجعل منه إلهاماً متجدداً منذ القدم.. تعمق فيه الغواصون والرحالة والشعراء والنجباء، فاستمدوا من اسمه معنى الاتساع وعدم القدرة على الجمع، فهو بحر فأين لنا أن نجد قراره؟

أيها البحر اللّجي أهديك أمنياتي، وأبوح لك بكل أسراري، وأرمي عليك حمولة أيامي.. قد أبكي عند شاطئك بحرقة، ويجذبني الحنين للذكريات الممتدة عبر الماضي المدلهمّ في سماء لياليك، وفجأة يسافر بي الحنين لرؤية شروق الشمس على ضفافك البعيدة؛ لأحلم في تلك اللحظات بمستقبل مشرق كشروق الشمس الذهبية اللامعة على صفحاتك البهية، فمنظرها المهيب يشعرني بالتحرر من ألمي وخوفي، فلا أجد إلا أن أهدي ذلك المنظر المتوهج صمتي العاجز عن التعبير بالكلمات.. عما يجول في النفس، فيكون الصمت تعبيرٌ آخر فريد لاتساعك المهيب، وأجد نفسي دون وعي مني أبحر بسفينة فكري المتدفقة على تراتيل أمواجك الرتيبة المتتالية كأسئلة متراتبة أضعها على ضفافك، فأنت يا بحر أمامي، وبحري المتدفق بداخلي يتجاذب أطراف الحديث مع أمواج بحرك المتسع.

فبين البحر والفكر حوار تدور دفته على سفن الفكر المتدفقة فيه، فأنظر إليك في حكمة وبصيرة، وأتخاطب معك بلغتك المتمثلة في امتدادك وانحسارك، وأحاول أن أستخلص من هدير أمواجك فكراً وعبراً من أسرار من سبقوني، وباحوا بأسرارهم لك، وكيف أترك ذلك البحر بمياهه المتدفقه إلى بحرٍ أوسع وأعمق.. إنه بحر الفكر المتمثل في اقتباسات وقراءات واستنبطات حصدتها من خلاصة أيامي؛ فكأن لسان حالي ينشد قصيدة نثرية تقول لك :
يا بحر أجبني يا بحرُ...
أم أنك ترفض أن تسمع...
إن شئت تركت لنا درباً...
عندي بحرٌ أوسع أعمق...

بحري يتدفقُ أمواجاً...
ليست أمواجاً عادية...
أمواجٌ بيضاءُ بهية...
سطعت كالشمس الذهبية...
لا تعرف للحب بقية...
لا تعرف غدراً أو مكراً...
جزراً أو مداً...

من بحري صنعت مخيلتي...
ونسجت أزهاري...
من بحري أرفع أشرعةً...
لسفينة ودٍ سحرية...
لترفرف أشواقي دوماً...
بعبير ورود قمرية...

وسفينة بحري كي تجري
تحتاج لأحوالي الشفقية
تحتاج لفيض من فكري
آه من أقدار مقْضية


وبهذه الكلمات النثرية أنهي حديثي بصمت يظل في صدري المنبهر بروعة جمال البحر، فالصمت هو بداية ونهاية حديثٍ شيقٍ معه.. تعبيراً عن مدى امتداده واتساعه، وغموض سحره.

✧✧✧

في انعكاسٍ خلّابٍ للسماء وألوانها المتعاقبة بين بداية النهار وأطراف الليل، يبرز لون البحر كقرميد متجدد المحيا منذ ساعات الصباح الأولى، مع طلوع الشمس على ضفافه من جهتها الشرقية، وكأنها تنبت من أصل البحر، وهي معلّقة في جريانها الكوني عبر المجرة، وتبدو لنا في كبد السماء الزاهية، متدرجة في لونها الأحمر والأصفر الذهبي الممتزج مع مياه البحر الشفقية بلون السماء الزرقاء، منظر يتجدد كل صباح ليخبرنا بمنظره المتوهج الخلاب، أن يوماً جديداً قد انبلج.. يمتد بالعطاء للكائنات الحية لتبتغي رزقها فيه مع تنفس الصباح الباكر، فاغتنموا ساعاته في كل ما ينعش النفس وكل ما يقويها، ففي إشراقة الشمس على ضفاف البحر رسالة خالدة، وباقية ببقاء الكون، وفي إشراقتها المتجددة تجدد للحياة، وإلهام للمبدعين في سماء الفن والأدب والشعر، وكما يوصف العالِم بالبحر لغزارة علمه وحكمته؛ نجد في وصف الشيء بالشيء غزارة ووفرة.

ولعل الشمس في شروقها المتجدد كل صباح تكون كارهة لعصاة بني آدم أن تطلع عليهم، ولهذا قال أُميَّة بن أبي الصَّلت:
والشمسُ تطلَعُ كُلَّ آخر ليلةٍ ... حمراءَ مطلعُ لونها متورِّدُ
تأبى فلا تبدو لنا في رِسلها ... إلاّ مــعــذبـةٌ وإلاّ تَــجــلُـدُ

ثم يأتي الليل حثيثاً يسبقه غروب الشمس على ضفاف البحر الصامت بقصة انتهاء يومٍ راحل، فتختفي الشمس تدريجياً وكأنها في وداعٍ معه، ونراها ضمنياً تغوص في غياهب البحر بهدوء بطيء، فيمتزج لون السماء بشفقها الذهبي ليبدو على قرص الشمس حمرة خجلة.

إنه البحر يا سادة.. ببساطه المتلألئ كأنه بساط أمواجٍ من فضة فرشت على رمال الشاطئ الذهبية، ورحلت بنا إلى جوانب الخيال والسحر والجمال، وأرسلت رسائلها العميقة في وجداننا لتعبر عن مشاعرنا الدفينة، وتخرج كنوزنا الإبداعية الفنية التي ما ظننا أنها قد توجد؛ وكأننا اقتبسناها من كنوز أعماق البحر وحالته المختلفة في أطراف الليل والنهار، وسمائه الزاهية التي تحلق فيها الطيور المهاجرة.. عالية تحمل معها الحنين والأنين، وانعكاس سطحه الشفاف بأشعة الشمس في النهار، ونور القمر في الليل متعاقباً بمرور الأيام والليالي، ليظل البحر بوتقة للإبداع والسحر والخيال والدهشة، والجمال عل مر العصور والأزمان.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها