القبح بوصفه قيمة إبداعية!

أمير الشلّي


القبيح والجميل، ثنائيّان جماليّان لا بُدّ أن يميل كل إبداعيّ فنيّ إلى أحدهما. ومن التصوّرات الخاطئة عن الفن تبنيه المطلق للجميل، بمعنى أن يكون الأثر الفنيّ مُنسجمًا ومقدودًا ومثاليًا. وفي هذا التعريف الكلاسيكيّ للفن إقصاء للقبيح وما ينطوي عليه من تنافر وتعقيد وتشويه. لقد عارض الفنّانون الحداثيون ما يعرف بالمفهوم الكلاسيكي للجمال باعتباره نموذجًا وجب عليهم الاحتذاء به؛ وقد استشهدوا في معارضتهم هذه بعديد الأشياء الموجودة في الطبيعة والتي لا تتوفر فيها معايير الجمال التقليدي ومع ذلك تُعد بشكل عام مبهرة وجذابة.


عندما نقترب من مسألة القبح في الفنون التشكيليّة، علينا أنّ نحدد إذا ما كُنّا نشير إلى قبح موضوع العمل أو إلى القُبح النسبيّ للمعالجة التشكيليّة. على سبيل المثال يمكن اعتبار الموت والمرض والشيخوخة مواضيع قبيحة. رغم ذلك يمكن تقديم هذه المواضيع بأسلوب جميل في سياق فنيّ مما يمنحنا نوعاً من المتعة الحسية. وهو ما يؤكّده "كانط" بقوله: "تظهر الفنون الجميلة تفوقها على الواقع من حيث إنها تقدّم وصفًا جميلًا لأشياء قبيحة أو غير السارة في الطبيعة؛ إذْ يُمكن وصف الغضب والأمراض ودمار الحرب بشكل جميل للغاية، ويمكن حتى تمثيلها في اللوحات". ما يعني أن جمال أو قبح النموذج يختلف عن جمال أو قبح الإبداع الفني.

ونأخذ كمثال على ذلك قصيدة "الجيفة" للشاعر الفرنسي "شارل بودلير"، التي يصف فيها مشهدًا لجثة حيوان متعفنة، مُركِزًا على التفاصيل المقززة لعمليّة التحلل. يقارن الشاعر هذا المشهد بالحب الذي يكنه لحبيبته، قائلاً إن جمالها سيزول يوماً ما مثل الجيفة، لكن شِعره سيبقى خالداً أبد الدهر. يقدم "بودلير" في هذه القصيدة ما هو كريه ببراعة لغوية وإيقاع شعري؛ تكمن جماليته في خروجه عن المألوف. وعلى عكس الفن الكلاسيكي، الذي تغنى شعراؤه بالجمال الموجود في الطبيعة والحياة الإنسانية عامة؛ فقد تجاوز"بودلير" كل ذلك كاشفًا عن مواطن الجمال في أكثر الأشياء قبحًا ورعبًا ونفورًا. لم يكن "بودلير" أول من تجاوز المفهوم التقليدي للجمال؛ إذْ نجد "دافنشي" قد أعجب بالقبح ورسمه بإسهاب كخربشات في هوامش دفاتر ملاحظاته. بينما أغرم "غويا" بالوحوش والمسوخ التي رسمها بكثافة في سياقات فنية مختلفة.

ليس القبيح والجميل أمرين متناقضين بل هما مزيجان حاضران في عديد الأعمال الإبداعية، فالجُثّة المتعفّنة التي تغنى بها "بودلير"؛ والوجوه الوحشية التي سكنت دافتر "دافنشي" ولوحات "غويا" و"بيكن" و"شنايدر" وغيرهم كثر.. ما هي إلا مواضيع جمالية يتفاعل فيها القبيح بالجميل، هي مواضيع قبيحة في حالتها الخام ولكن طريقة معالجتها الشعريّة أو التشكيليّة جعلت منها مواضيع قبيحة وجميلة في الآن نفسه. ومن هذا المنظور؛ فإن الفن ليس تمثيلًا لشيء جميل، بل هو تمثيل جميل لشيء ما.

وإن كان الجميل يولد في داخلنا نوعًا المتعة الاستيطيقية، فالأمر نفسه ينطبق على القبح الفنيّ الّذي يمكن هو الآخر أن يخلق في أنفسنا نوعاً من المتعة الجماليّة تضاهي لذّة تذوق ما هو جميل أو حتى تتفوّق عليه، فالمخيف والغامض يمكن أن يكونا مصدرًا للتّسلية الجماليّة، وذلك لأنّنا نعي ضمنيًا بأن ما نراه أمامنا من تمثيلات سمجة وكريهة ما هي لا حبكة إبداعيّة متقنة الصنع. ورغم ذلك يظلُ الاستمتاع بما هو قبيح فنيًّا أمرًا نسبيًا، فهناك فئة أخرى تنفر منه وتعجز رغمًا عنها عن الاستمتاع به.

وهنا ننتهي إلى استنتاجيْن:
أولهما: أن القبح قيمة جمالية ثابة لا خلاف عليها في الأوساط العلمية.
وثانيهما: أنّ الإعجاب بالعمل الفني القبيح أمر نسبي مرتبط بذائقة المتلقّي، فيمكن أن يشعر أمامه بالانبهار كما يمكن أن لا يستهويه، لكن هذا لا يُلغي قيمته الإبداعيّة.

وعلينا أن لا نخلط بين العمل الفاشل فنيًا والعمل القبيح إستيطيقيًّا، فالقبح قيمة جماليّة ثابتة في علم الجمال، ولذلك وجب القول إنّ عكس الجميل هو الفاشل أو غير الناجح وليس بقبيح. وهو ما أكده الفيلسوف "ولتر ستيس" الذي يرى أن العمل الفنيّ الفاشل لا يمكننا أن نقول عنه قبيح؛ ذلك لأن فكرة القبح تنطوي بوضوح على مضمون إستيطيقي إيجابي، فالأعمال الفنيّة غير القيمة ليست قبيحة؛ وإنما غير جميلة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها